العقاب
أم العشيرة رامونا**
وقفت أمام حفيدي سلفادور ونظرت إليه بخوفٍ عميق.. لأول مرة في حياتي كلها
أشعر بالخوف من حفيدي.. كنتُ خائفة للموت في هذه اللحظة من المتادور الحنون
والطيب.. ولكن رغم خوفي الكبير منه وقفت أمامهُ بشموخ أحمي بجسدي حفيدتي كارميتا..
إن كان سلفادور سيقتل أحداً اليوم, يجب أن تكون أنا..
نظر سلفادور إلى وجهي بعينين ملتهبتين بالغضب, وهتف بصوتٍ جاف ومليء
بالوحشية
" ابتعدي عن طريقي, يا جدتي.. لا تجعلي الأمور أصعب مما هي عليه الآن..
ابتعدي عن كارميتا "
كان وجهه متصلباً, وعيونه تقدح نيرانًا بينما كان يتأملني بنظرات وكأنني
العقبة الأخيرة التي تقف بينهُ وبين تحقيق عدالتهِ القاسية.. لكن لم أتحرك, لم
أُحرك عضلة واضحة في وجهي وفي جسدي ولم أفعل أي إشارة تُلمح للتراجع..
بلعت ريقي بقوة وقلتُ لهُ بصوت مملوء بالحب والألم, كلماتي تبدو كأنها
محاولة للسيطرة على النار المشتعلة في قلب حفيدي
" سلفادور, أرجوك, اهدأ.. لن نستطيع التحدث إذا كنتَ في هذه الحالة.. علينا التفاهم بهدوء "
خارج الجناح, بدأ الضجيج يعلو, حيث تجمع الخدم والحراس بسرعة عند الباب,
وكل من خوان و أريا و ساريتا ووالديها, و ميغيل ووالديه كانوا يقفون هناك بقلوب
مليئة بالذعر.. الجميع كان يعرف أن هذه اللحظة كانت أكثر من خطيرة, وكانوا ينتظرون
بفارغ الصبر ما سيحدث بعد ذلك..
في هذه اللحظة أخفضت نظراتي نحو يد سلفادور, شهقت بقوة عندما رأيت المسدس
في يده, قبضتهُ كانت تُحيط به بقوة, وكأنها تُشكل الخاتم النهائي للقرار الذي
اتخذه.. كانت رؤية السلاح كافية لجعل قلبي ينهار, والخوف يظهر في عيني..
رفعت نظراتي عن المسدس, ونظرت إلى حفيدي بعيون يملأها الحزن وقلتُ لهُ بصوت
متشقق
" هل تريد حقًا قتل ابنة عمك الوحيدة؟ "
كانت تلك الكلمات قد مزقت أعماقي, ولكن كان لدي أمل أن تلك الكلمات ستصل
إلى قلبه, وستثنيه عن قراره..
لكن سلفادور هتف بجنون, عينيه لم تعد ترَ سوى الغضب والألم
" كارميتا لم تعد ابنة عمي.. إنها مجرد قاتلة بدم بارد, ويجب أن تدفع
ثمن ما فعلته بـ لينيا.. لقد رأيت كل شيء... "
كانت كلماته كالسياط, تضرب جدران الغرفة بقسوة, وكانت تتعمق أكثر في قلبي
المكسور.. سمعت كل كلمة يقولها الآن بوجعٍ كبير.. سمعت بعذابٍ كبير كيف اكتشفَ سلفادور
ما فعلته كارميتا اليوم.. وعرفت بأنهُ لن يتراجع بتاتا وسيقتلها..
بدأت الدموع تتساقط بصمت على وجنتي رامونا الشاحبتين, حزن عميق يملأها وهي
ترى حفيدها بهذا الشكل الوحشي, وكأن العالم كله انقلب رأسًا على عقب.. لم يكن هذا
هو سلفادور الذي ربته وأحبته..
بصوت ممتلئ بالألم وعذاب الضمير والندم, قلتُ له
" أنا الملامة هنا, يا سلفادور.. ما فعلته كارميتا كان بسبب أخطائي..
كانت بسبب وعودٍ وأوهام كاذبة زرعتُها في رأسها "
لم يكن من السهل عليّ أن أتفوه بهذه الكلمات أمام سلفادور والجميع, ولكن
كنتُ أعرف أنها الحقيقة الوحيدة التي يجب أن تُقال الآن.. تابعت التكلم واعترفت
أمامهُ وأمام الجميع بما فعلتهُ بحفيدتي..
تجمدت نظرات سلفادور على وجهي بذهول, لكن قلبه لم يلين, بل هتف بغضب
" كارميتا ليست طفلة, ليست طفلة لتصدق تلك الأكاذيب والأوهام....
"
سمعتهُ يعترف أمام الجميع بأنهُ لم ولن يُحب كارميتا سوى كابنة عمه فقط..
كنتُ أعرف ذلك.. طبعاً كنتُ أعرف, ولكن رغم ذلك سممت أفكار حفيدتي بالأوهام
والأكاذيب, خاصةً عندما أتت لينيا هارفين إلى اكستريمادورا..
وفجأة, وبحركة سريعة, أبعدني سلفادور عن كارميتا, ثم أمسك بذراع الفتاة
المنهارة أمامه, ورفع يده التي يحمل بها المسدس ووضع فوهته على رأسها.. كان المشهد
مرعبًا, وكأن الزمن توقف في هذه اللحظة, ولم يعد هناك سوى صوت الأنفاس المتسارعة..
وقفت جامدة في مكاني ثم صرخت بذعر شديد, صوتي كان كأنين من الأعماق
" سلفادور, لا تفعل, أرجوك.. لا تقتلها... "
نظر سلفادور إلى وجه كارميتا المنهارة أمامه, عيونه تقدح حقدًا لا يوصف..
بصوت بارد ومخيف, قال بتصميم
" عليكِ أن تموتي, والآن "
وفجأة, ودون أن يشعر أحد بما يحدث, اخترق صوت الرصاصة الجناح كله, صوت مدوٍ
كسر صمت الغرفة بشكل عنيف, وتبعته صرخات الذعر التي صدحت في المكان, كأنها انعكاس
لصدمة الجميع مما حدث..
رأيت جسد حفيدتي يسقط على الأرض, وهنا أغمضت عيناي بشدة وسقطت على الأرض
وأنا أهتف بجنون وبوجعٍ كبير
" لاااااااااااااااااااااااااااا.. حفيدتي!.. لاااااااااااااااااااااا...
"
المتادور سلفادور دي غارسيا**
وصل سلفادور إلى القصر كالعاصفة الهادرة, وحصانه إيتان يقطع الطريق بسرعة
البرق وكأن الأرض تتهاوى تحت حوافره.. تجاوزت غضبهُ الرياح الباردة التي تُصفر
حوله, وتحولت عيناه إلى شعلة من الغضب لا تهدأ, كانت عودته أشبه بإعلان حرب قادمة,
وكأن القصر كله قد تلبدت أجواؤه بالرهبة من وصول سيده الغاضب..
عند وصوله إلى الساحة, كان بيريز وجميع الحراس قد تجمعوا بسرعة, مصطفين
بانتظام أمام المتادور وحصانه.. أنفاسهم كانت متقطعة وعيونهم مليئة بالخوف والترقب,
يعرفون أن سيدهم لن يقبل بأقل من الحقيقة الكاملة, وأي خطأ قد يضعهم في مواجهة عاصفتهِ
العارمة...
قفز سلفادور عن ظهر حصانه بقوة, وثبَّت يديه على ظهر إيتان بقسوة, وربت
بقوة على ظهره, ثم أمره بصوت حازم
" عُد إلى الإسطبل "
استدار الحصان العريق واندفع عبر الساحة متباهياً بقدرته وجاهزيته, هرول
مبتعداً بينما كانت أعين الجميع تُلاحقهُ برهبة, مشهد الرحيل ذاك زاد من هيبة
المتادور وقوة حضوره وسط حراسه..
بعد رحيل إيتان, التفت سلفادور نحو الحراس, وعيناه تلتهمان وجوههم بعينين
تتوقدان بالشك والغضب.. ركز بصرهُ على بيريز وسألهُ بحدة, كصوت قادم من أعماق
عاصفة مُدمرة
" هل خرجَ أحد من القصر؟ "
كانت نبرتهُ كافية لجعل كل الحاضرين يشعرون بالخوف الشديد وبعبء عاصفة غضب
المتادور المُقبلة..
أجاب بيريز بثبات تام, محاولاً الحفاظ على توازنهِ أمام سلفادور
" لم أسمح لأحد بالخروج من القصر, سيدي المتادور " كان ردهُ
دقيقاً وسريعاً, مدركاً أن أي تردد قد يثير حنق سيده أكثر..
تقدمت بخطوات سريعة نحو مبنى الحراس وأمرت بيريز بلهجة لا تحتمل التردد
" اتبعني بسرعة "
دخلت إلى غرفة المراقبة, وبحركة سريعة من بيريز, تم تشغيل شاشات المراقبة
التي كانت تعرض كل زوايا القصر وحديقته الخلفية.. جلس بيريز أمام لوحة التحكم وضغط
على عدة أزرار, لتعرض الشاشات تحركات لينيا وابنة عمي كارميتا, بينما كنتُ أنظر
إلى الشاشات بعينين تتوهجان بالغضب الذي لا يمكن إخماده..
كانت الشاشات تعرض تحركات الجميع, بدأت أنظر بتركيز باحثاً عن دليل يروي عطشي
لمعرفة ما حدث.. كنتُ أرى تحركات كارميتا في إحدى الشاشات, وفي شاشات أخرى, حيث كانت
تعبر أروقة القصر بحذر شديد.. وكلما وقعت عيني على وجه كارميتا الماكر, اشتدت
نيراني الداخلية, وارتجفت غاضباً كأنما كنتُ على وشك أن أنفجر في وجهها من بعيد..
قال بيريز بجدية بينما كان يعرض أمامي على الشاشات لقطات تسجل كل تحرك في
أروقة القصر وغرفه
" سيدي, بعد أن اتصل بي السنيور ميغيل وأخبرني بأنك وجدتَ سنيوريتا لينيا
وأنكما في المستشفى, عُدت إلى القصر مباشرة مع الحراس وراجعت تسجيلات المراقبة
"
أضاف بيريز بصوت مليء بالاحترافية
" كنتُ متأكدًا أن هناك من ساعدها, ودخلت هنا لمراقبة التسجيلات,
وخاصة من الكاميرات الجديدة السرية التي تم تركيبها مؤخراً, فتمكنت من كشف الشخص
الذي قام بتهريب لينيا.. إنها ابنة عمك, سنيوريتا كارميتا "
رأيت مشهداً أشعل النار في صدري.. رأيت كارميتا تخرج من المطبخ وهي تحمل
سكيناً في يدها, ثم خبأته داخل سروالها.. اشتعلت نيران الغضب في جسدي أكثر, وشعرت
وكأن الظلام المحيط بي يزداد كثافة, حتى كاد المكان أمامي يختفي خلف سحابة من
السخط والغضب المُميت..
سمعت بيريز يقول بتوتر
" أنظر سنيور إلى هذه الشاشة, توضح لك كيف دخلت سنيوريتا كارميتا إلى
غرفة البروفيسورة بعد خروج أم العشيرة برفقة الخدم.. هذه اللقطات تُظهرها الكاميرا
السرية التي وضعناها منذ فترة في الطابق الثاني "
كانت كلمات بيريز بمثابة شرارة أشعلت غضبًا أعمى في صدري.. تحول المكان
أمامي إلى ظلام دامس, وكأن الغضب قد أسودت معهُ رؤيتي.. لم أعُد أرى أو أسمع سوى
صوت انتقامي الذي كان يصرخ بداخلي بجنون..
وقف بيريز أمامي ومد يده, وفيها مفتاح.. نظرت إليه بتعجب, أخذت المفتاح ثم
نظرت إلى شاشة المراقبة حيث كانت كارميتا تظهر وهي تدخل خلسة إلى جناح جدتي رامونا
وتخرج بعد نصف ساعة, وهي تحمل المفتاح بيدها..
سمعت بيريز يقول بصوت هادئ لكن حازم
" هذا هو المفتاح السري لبوابة الحديقة الخلفية, ويبدو أن الجدة
رامونا ليست لها علاقة بما فعلته كارميتا.. لقد تصرفت بمفردها "
ثم رأيت بذهول كُلي في الشاشات أمامي كارميتا وحبيبتي لينيا تخرجان معاً من
القصر.. ثم قرب بيريز المشهد لأرى كارميتا تعود إلى القصر وهي تدخل من الباب السري
للحديقة الخلفية ولكنها نسيت أخذ المفتاح معها.. وكان واضحاً على وجهها الرعب
والخوف..
قبض سلفادور على المفتاح بقوة, كأن قبضته كانت تضغط على كل غضبه وكلماته
غير المنطوقة.. وضعه في جيب قميصه, ثم نظر إلى بيريز وسألهُ بحدة
" أين هي كارميتا الآن؟ "
بلع بيريز ريقهُ بقوة وأجاب بسرعة بتوتر
" إنها الآن موجودة برفقة أم العشيرة في جناحها الخاص "
ما أن سمعت بيريز يلفظ تلك الكلمات خرجت من الغرفة مُسرعاً, ركضت نحو القصر
بينما عيني تلمعان بتصميم مُميت وغضب لا يعرف الرحمة.. وكنتُ عازماً على إنهاء كل
شيء بيدي..
صعد سلفادور درجات القصر بخطوات متسارعة, خطواته تعلن عن حضوره, وتعكس
رغبته في الانتقام.. دخل جناحه الخاص, وتوجه مباشرة إلى مكتبه حيث سحب مسدسهُ من
الدُّرج, كان يشعر بأن غضبهُ يحتاج إلى صرخة لتهدئته, إذ أنفاسهُ كانت تتصاعد
كأنها لهب من شدة الحنق.. ثم خرج من جناحه, صوت خطواته الصاخبة يملأ المكان.. ثم
صاح بصوت مخيف, كأنهُ عاصفة تُهدد كل شيء
" كارميتا... "
صوتهُ تردد في أرجاء القصر بينما كان يهتف باسم كارميتا بصوت عميق ومرعب,
كأنما يُنذر بأن هناك عاصفة قد اقتربت من الاقتحام..
دخل سلفادور إلى جناح جدته رامونا, وغضبه كالنار المُشتعلة التي لا تهدأ..
أمامهُ كانت كارميتا تختبئ خلف جدتها رامونا, جسدها يترنح من الذعر, عيناها
مليئتان بالخوف, وجسدها ينهار من الرعب.. كانت تعرف أن سلفادور لن يرحمها, وأن ما
فعلته بـ لينيا قد أوصلها إلى هذا المصير المحتوم..
وقف سلفادور أمامهما, عيناه تلمعان بغضب لا يمكن تصديقه, وكأن نيرانًا قد
أضرمت في قلبه.. لم تظهر عليه أي ملامح من الرحمة, فقط تصميم صارخ على جعل كارميتا
تدفع ثمن ما فعلته بحبيبته لينيا..
سمعت بذهول دفاع جدتي عن كارميتا, ورغم ما قالته لي لم أشعر بالشفقة على
ابنة عمي, بل زاد تصميمي على جعلها تدفع الثمن غالياً..
دفع سلفادور جدته رامونا بعيداً عن كارميتا, ثم رفع مُسدسه بسرعة ووضع
فوهتهُ على رأسها.. وبحركة سريعة ومدروسة حرك يدهُ قليلا وأطلق النار بجانب وجهها,
ليملأ الغرفة بصوت الرصاصة المدوي, الذي ارتد في كل زاوية, معلنًا عن غضب سلفادور
الذي لا يعرف الهدوء..
ترددت صرخات مرعوبة في الغرفة, وخصوصًا صرخة جدته رامونا التي سقطت على
الأرض شبه مُنهارة, لكن سلفادور لم يهتم, عيناه كانتا مركزتين فقط على كارميتا..
رأى سلفادور بنظرات مليئة بالحقد كارميتا تسقط على الأرض وهي ترتجف, دموعها
تتدفق بغزارة وهي تصرخ بجنون.. نظراتها كانت فارغة من كل كبرياء, فقط بقايا خوف
وترجي, وجسدها يهتز كطفلة خائفة أمام بركان لا يمكن إيقافه..
انفجرت كارميتا في نوبة بكاء هستيرية, متوسلة الرحمة والسماح, وجهها مختلط
بدموع الخوف والرعب.. توسلت بصوت مرتجف ومُختنق
" ســ... سلفادور.. لا تفعل, أرجوك.. لا تقتلني.. سامحني… لم أقصد
أذيتها.. سامحني, أرجوك... "
تجاهل سلفادور توسلاتها البائسة, ببطء أخفض يدهُ التي كان يمسك بها المسدس,
لكن وجه فوهته نحو رأس كارميتا.. ثم قال بصوت هادئ لكنهُ عميق كالأعماق المُظلمة
للبحر
" انهضي وقفي أمامي, الآن "
لكن في هذه اللحظة, سمعت صوتًا مألوفًا, كان صوت ابن عمي خوان يهتف باسمي
من الخلف, صوتهُ يحمل مزيجًا من الخوف والرجاء
" سلفادور, أرجوك... لا تفعل هذا.. لا تقتلها… إنها أختي الوحيدة…
أرجوك, اهدأ وأبعد السلاح عنها "
كان سلفادور يستمع لصوت ابن عمه, لكن عيناه لا تزالان ثابتتين على كارميتا,
غضبه لم يهدأ, يدهُ لا تزال ثابتة على المسدس, كأنهُ يحملها كوزنٍ ثقيل من
الكراهية والرغبة في الانتقام..
التفت إلى الخلف, ورأيت خوان وهو يدفع كرسيه المتحرك بعزم, يحاول الاقتراب مني
رغم القلق الظاهر على وجهه.. أوقف كُرسيه بجانبي ونظر إلى شقيقته كارميتا التي
كانت منهارة على الأرض, ثم نظر إليّ بتوتر, ثم كلمني بصوت مُنخفض ومتوسل, وكأنهُ
يحاول الوصول إلى قلبي المُحترق
" سلفادور, أرجوك, اهدأ.. أرجوك... أبعد السلاح عنها "
كانت كلمات خوان تملأ المكان بمحاولة يائسة للسيطرة على الوضع, ولم يكن
هناك صوت سوى أنفاس كارميتا المتقطعة ودموعها التي لا تتوقف.. وفجأة, اندفع خانتو,
رئيس حُراس خوان وصديقه, ركض نحو كارميتا ووقف بجانبها, ساعدها لتقف, ووضع جسدهُ
بينها وبين سلفادور, كأنهُ يحميها بوجوده..
كانت كارميتا الآن تقف خلف خانتو, وجهها شاحب ونظراتها تائهة, جسدها بالكاد
قادر على الوقوف, وكأنها قد تحولت إلى ظل شبح مذعور.. كانت عيناها تتسعان في هلع
بينما تتشبث بسترة خانتو الذي كان يحاول حمايتها بكل ما أوتي من قوة.. لكن سلفادور
لم يعر أي اهتمام لهذا المشهد, عيونه كانت مثبتة على كارميتا, محتفظًا بنظرة لا
تعرف الرحمة..
كنتُ أقف أمام كارميتا بعينين ملتهبتين بالغضب, كالنار التي لا تعرف الهدوء,
بينما وقف خانتو بيننا كحاجز, نظراته ثابتة ومليئة بالاحترام لكنهُ لم يتزحزح قيد
أنملة.. دون أن أُبعد نظراتي عن كارميتا, أمرت خانتو بحدة
" ابتعد عن طريقها "
تأملني خانتو بنظرة مليئة بالاحترام والتمسك بموقفه.. كان الاحترام واضحًا
في نظراته, ومع ذلك, كانت كلماته ثابتة كالصخر, إذ أجابني قائلا
" سيدي المتادور, أعتذر منك, لكنني لن أمتثل لأمرك.. لن أبتعد عن سنيوريتا كارميتا "
احمرّ وجهي من شدة الغضب, وهتفت بصوت جنوني, وكأنهُ طوفان لا يتوقف
" قلتُ لك, ابتعد من أمامها "
ولكن خانتو لم يُحرك ساكنًا, ظل واقفًا بقوة وثبات لم يكن لسواه أن يتحمله..
لم يتوقف عن النظر إليّ باحترام قائلاً بنفس النبرة الهادئة المحترمة, ولكن صوتهُ
كان يحمل نغمة من الثبات والعزم الذي لا يقبل التراجع
" آسف سنيور, لن أبتعد عنها "
رفعت ذراعي ووجهت مسدسي نحو رأس خانتو, وهتفت بغضب جنوني
" ابتعد من أمامي, والآن "
لكن خانتو لم يتحرك, ظل ثابتًا في مكانه, وكأن الجبال نفسها لا تستطيع أن
تزعزعه.. ثم كرر بصوت هادئ ولكن حازم
" عذرًا سيدي, لن أبتعد عنها حتى لو أردتَ قتلي "
رغم غضبي المتأجج إلا أنني نظرت بإعجاب وتقدير إلى خانتو بسبب شجاعتهِ
وتحديه لي في هذه اللحظة.. لكن لم أستطع تحمل عنادهُ وتحديه لي, فتقدمت خطوة نحو
خانتو لإبعاده بالقوة.. لكن, قبل أن أتمكن من فعل ذلك, شعرت بيد قوية تمسك ذراعي
بإحكام, وتمنعني من التقدم أكثر, وسمعت صوت يهتف بإصرار
" سلفادور! "
نظرت بسرعة نحو اليد الممسكة بذراعي, ثم رفعت نظراتي الغاضبة لأرى ابن عمي
خوان ينظر إلى وجهي بنظرات تعكس خليطًا من التصميم والألم, وبعينين مملوءتين
بالتوسل, قال بصوت ثابت
" سلفادور, دعني أُحاسبها.. دعني أُعاقبها بنفسي.. إنها شقيقتي,
وأتحمل ذنبها لأنني لم أقم بتربيتها تربية صالحة.. أنا من أخطأ بعدم تربيتها بشكل
صحيح بعد وفاة والدينا.. دعني أتحمل مسؤولية أخطائي, أرجوك "
حدق سلفادور بغضب في يد خوان التي لا تزال ممسكة بذراعه, ثم رفع بصره نحو وجه
خوان.. بقي سلفادور ساكنًا للحظة, كأن الصراع يشتعل داخله.. تابع خوان بلهجة رجاء,
يحاول أن يصل إلى قلب سلفادور
" ماتادور, أرجوك, دعني أُعاقبُها بنفسي على ما فعلته اليوم بـ لينيا...
لا أريد أن أخسر شقيقتي الوحيدة, فهي كل ما تبقى لي من والديّ.. أرجوك, لا تجعلني
أخسرها.. هي كل ما تبقى لي من والدينا, وسأضمن لك بأنها لن تقترب من البروفيسورة مرة
أخرى "
بدا التأثر على وجه خوان, كان يحاول التمسك بما تبقى له من عائلته, ويبحث
عن كلمات كافية لإقناع سلفادور ليترك لهُ الفرصة لمعاقبة كارميتا بنفسه..
تابع خوان بنبرة خافتة, محاولة منه لتهدئة العاصفة التي لا تهدأ في عيني
سلفادور
" سأعاقبها, وأعدُك بأنها لن تقترب من لينيا أبدًا بعد اليوم.. سأبذل
كل ما بوسعي لتبقى بعيدة عنها "
ظل سلفادور يُحدق في وجه ابن عمه للحظة, كأن عقله يدرس كلامه.. لكن المتادور
لم يُظهر أي تراجع, ابتسم بسخرية باردة, غاضبًا من توسلات خوان, وسحب ذراعه بقوة
بعيدًا من قبضته, وقال بصوتٍ حاد مليء بالحقد
" كارميتا ليست ضحية هنا, لقد حاولت قتل لينيا للمرة الثانية اليوم..
وأنتَ تطلب مني أن أسمح لها بالعيش؟.. لا, لن أسمح لها بالعيش بعد ما فعلته "
اشتدت الصدمة على وجه خوان والجميع في الغرفة, بينما أنا تابعت بغضب أعمى,
هاتفاً بكل قسوة
" هل تظن أنني لا أعلم بما فعلته كارميتا من قبل؟.. هل تظن بأنني لم
أكتشف ما حاولت فعلهُ بـ لينيا سابقاً؟ "
كانت عيني تلمعان بحقد واضح, بينما تابعت كلامي بغضب مكبوت, يكاد ينفجر من صمتي
الطويل
" لقد اكتشفت منذ فترة أن كارميتا حاولت سابقًا قتل لينيا.. لقد حاولت
دهسها بإحدى سيارات حُراسي, وأدخلتها إلى المرعى حيث الثيران المُقاتلة.. كانت
مستعدة لفعل أي شيء لتُبعد لينيا عن طريقي "
ساد الصمت المكان, وامتلأت وجوه الحضور بالذهول.. كانت الحقيقة الصادمة
كصفعة مدوية, وكأنهم للتو اكتشفوا حقيقة لم يكن أحد يتوقعها.. عاد سلفادور ونظر
إلى كارميتا المُختبئة خلف خانتو وعيناه تقدحان شررًا, ثم تابع قائلاً بصوتٍ مسموم,
بصوت مليء بالغضب والألم الذي لا يمكن إخفاؤه
" اكتشفت كل ذلك في ذلك الوقت, في اليوم نفسه, لكنني التزمت الصمت من
أجل جدتي.. ومن أجلك, يا خوان.. ومن أجل لينيا بالتحديد لأنها دافعت عن كارميتا
ولم تُخبرني حقيقة ما فعلته بها "
كانت عيناه تلمعان بدموع من الغضب المكبوت والخيانة التي شعر بها تجاه
عائلته.. كان قرارهُ واضحًا, ولم يكن في قلبه مكان للتسامح..
كلمات سلفادور تساقطت كالسكاكين على مسامع خوان, الذي لم يعرف كيف يرد,
وأمام صدمة كارميتا التي بدأ صوت بكائها يرتفع أكثر.. كان سلفادور يُراقب المشهد
ببرود قاتل, وكأنهُ أعلن لتوه الحكم الذي لم يعد هناك رجعة فيه..
في جو الغرفة المشحون بالتوتر والصدمة, حاول خوان بصوت مكسور أن يُعيد
تركيزه بعد اكتشافه القاسي لما فعلته شقيقته كارميتا بـ لينيا.. رغم الصدمة
القاسية التي كانت تمزق روحهُ ورغم الألم العميق والعار الذي شعر به تجاه ما
اكتشفهُ للتو, حاول الدفاع عنها أمام
سلفادور, مخاطبًا إياه بصوت مشوب بالألم والتوسل
" سلفادور, أرجوك.. دعني أتحمل عاقبة أفعالها.. إنها أختي, دعني
أُعاقبها بطريقتي.. أعطني الفرصة لأقوم بتأديبها.. نعم, هي أخطأت, ولكنني شقيقها
الوحيد, وهي مسؤوليتي "
راقب سلفادور, وعيناه كالجمر, ابن عمه بهدوء متأملًا إصرارهُ المتناقض مع
الحقيقة التي كُشفت للتو, ثم ببطء أخفض ذراعه التي كان يحمل بها المسدس ووضعهُ في
الحزام على خصره, لكن نظراتهِ المشتعلة ظلت ثابته, لا تملك سوى الحدة والغضب.. نظر
سلفادور بعمق إلى وجه خوان, ثم إلى خانتو الذي ما زال يقف في موقعهِ بحزم, وأخيرًا
إلى كارميتا التي كانت ترتجف بالبكاء متمسكة بأمل واهٍ قد يُبقيها بعيدة عن عقابه..
ثم, هتف سلفادور بحدة وبنبرة حادة كالسيف, وبتصميم لا يقبل التراجع
" لن أتنازل, وسأعاقبها بنفسي.. يكفي السكوت عما فعلته لغاية اليوم
"
ثم تحرك المتادور بخطوات ثابتة نحو خانتو, وكأنهُ يُزيح أي عائق بينهُ وبين
انتقامه, لكمهُ بلكمة قوية دفعت خانتو بعيدًا عن كارميتا, مما جعل خانتو يتراجع
دون أي قدرة على المقاومة..
لم يكن في نظرات المتادور أي تردد, فقط غضب صارم وقرار لا رجعة فيه.. كانت
كارميتا ترتجف بينما تُراقب بذعر خطواته تتجه نحوها, ودموعها تتساقط بلا انقطاع..
أمسك سلفادور برأسها من الخلف, جذبهُ نحوه بقسوة, ونظر مباشرةً إلى عينيها الباكية,
ثم همس بلهجة حادة قائلاً ببرود وتصميم
" ستدفعين ثمن كل ألم سببتِه لها.. سأجعل دمكِ الثمن لكل دمعة سقطت من
عينيها.. ستدفعين ثمن كل قطرة دم سالت من حبيبتي لينيا... لن تنالي الرحمة مني
أبداً "
ثم جذبها نحو الأمام بقوة, دفعها بعنف حتى كادت تتعثر, لكن قبل أن تسقط
أمسك بذراعها وسحبها بوحشية باتجاه الباب, وقد تفرق الحاضرون من أمامه, خوفًا من غضبهِ
المُشتعل.. شق طريقه بينهم دون أن ينظر خلفه, بينما كارميتا كانت ترتجف وتتوسل
منهُ الرحمة والسماح, لكنهُ لم يُعر توسلاتها أدنى انتباه..
وبينما كان يسحبها نحو السلالم, هتف سلفادور بصوت حاد لرئيس حراسه, بيريز,
آمراً إياه
" أبلغ كل من في اكستريمادورا ورجال عشيرة دي غارسيا بأن يتجمعوا في
ساحة القصر الأمامية فورًا "
وبينما كان يدفع كارميتا بعنف نحو السلالم, مضى بيريز دون تردد لتنفيذ
الأوامر, ليحشد القرويين ورجال العشيرة..
خرج سلفادور من القصر, يسحب كارميتا بعنف خلفهُ, وبرفقته حشد من الحراس..
وعندما وصل إلى الباحة الأمامية, كانت نصف قرية اكستريمادورا قد تجمعت هناك بالفعل,
يقفون متحيرين تحت هطول الثلوج الكثيف, ووجوههم مليئة بالدهشة والقلق.. رجال عشيرة
دي غارسيا كذلك كانوا يقفون بانتظار ما سيحدث, بينما الثلوج البيضاء تغمر المكان
بصمته..
توقف سلفادور أخيرًا, وأمام أعين الجميع رمى جسد كارميتا على الثلوج, حيث
سقطت بين أنظار الجميع, مرتجفة, محطمة, ومرعوبة, ووجهها مغمور بالدموع التي لم
تتوقف, وعيناها الممتلئتان بالرعب تتابعان نظرات الغضب التي لم تتلاشى من ملامح
سلفادور..
في هذه اللحظة, خرجت جدته رامونا ووجهها مملوء بالذعر, وكذلك خوان والآخرون
الذين كانوا داخل القصر, ينظرون إليه بعيون متوجسة ومشاعر ممزقة بين الرعب والألم..
كان الجمع ساكنًا, وكأنهم جميعًا كانوا ينتظرون ما سيفعلهُ المتادور, بينما
يقف هو كملكٍ غاضب, تحيطهُ الثلوج البيضاء وتغمرها الدماء التي لم تجف في قلبه..
في وسط الساحة, وقف سلفادور بشموخ, محاطًا بهيبته التي لا تقاوم, ورفع صوتهُ
ليخاطب الجميع, ناظراً إلى القرويين الذين تجمعوا حوله, ليشهدوا العدالة التي كان
مصممًا على أن يحققها بحق من حاولت إيذاء حبيبته لينيا..
كارميتا**
بينما كانت كارميتا تُسحب بعنف إلى خارج القصر وسط الثلوج الكثيفة, كانت
نبضات قلبها تتسارع, وجسدها يرتعش من الذعر أكثر من البرد.. سلفادور, الرجل الذي
أحبته بجنون طوال حياتها, كان الآن يُمسك بها بلا رحمة.. وعندما رماها بقسوة لتسقط
على ركبتيها فوق الثلوج البيضاء أمام جميع أهالي اكستريمادورا, شعرت وكأنها كانت
تودع روحها للحظة..
كانت كارميتا ترتجف بشدة وهي على ركبتيها, جسدها منغمر في الثلوج الباردة,
وشعرها الطويل متشابك ورطب, بينما كانت تنظر حولها بذعر, عيناها غارقتان في الخوف
المطلق.. شعرت كأن الهواء نفسه يجثم على صدرها, يمنعها من التنفس, بينما تجمع
حولها أهل اكستريمادورا ورجال عشيرة دي غارسيا, يحدقون بها بنظرات مشتعلة بالغضب
والاحتقار.. شعرت أن الأرض قد اختفت من تحتها, وكأن العالم بأسره قد انقلب ضدها,
حتى الثلج الأبيض الذي طالما اعتبرته رمزًا للهدوء والصفاء والجمال أصبح الآن
ساحةً لإدانتها..
كانت عيناها ترتجفان, ولا ترى سوى وجه ابن عمها سلفادور, الرجل الذي أحبته
بجنون طوال حياتها, الرجل الذي وقفت أمامهُ اليوم خائفة, بعد أن أصبح كعدوٍ مُهيب..
نظراتها المرتعشة التقت بعينيه, عيني سلفادور اللتين كانتا مليئتين بغضب يصعب
احتماله, وسرعان ما شعرت برغبة عارمة بالصراخ, لكن الصوت خانها, ولم يكن بوسعها
سوى الاستسلام, بينما نظرها ينتقل بين وجوه أهالي القرية المتجمدة غضبًا وانتقامًا,
وبين رجال عشيرة دي غارسيا, وقوة سلفادور المهيبة التي لا تُكسر..
لم أستطع التوقف عن الارتعاش والبكاء.. سمعت بذعر أحرق روحي سلفادور يرفع صوتهُ
عالياً أمام الجميع, بصوت كان حادًا كحد السيف, قائلاً
" كارميتا دي غارسيا حاولت اليوم قتل لينيا هارفين, المرأة التي كنتُ سأتزوجها
اليوم.. لقد ارتكبت جريمة بحقّ من كانت ستصبح سيدة هذا القصر "
هذه الكلمات, كالرصاصات, اخترقت صدري وجعلتني أدرك حجم الجُرم الذي
ارتكبتهُ بحق لينيا, وشعرت بجدران العالم تتداعى من حولي..
أعقب كلام المتادور صمت مشحون, وكأن الجميع كانوا ينتظرون ما سيفعلهُ بعد
ذلك, أنفاسهم محبوسة تحت سماء تملأها الثلوج المتساقطة بلا رحمة..
ثم تابع سلفادور قائلاً بقسوة لا تعرف الرحمة
" وضعت كارميتا هنا أمامكم وأمام رجال عشيرتنا ليتم مُحاكمتها من
قِبلكم, ليصدر الحُكم عليها منكم, ليعرف الجميع ثمن جريمتها "
شعرت كارميتا بالذعر يجتاح كيانها.. كانت نظرات الجميع نحوها كأنها سياط من
نار, تمزق كبرياءها, وتفضح جريمتها.. كانت وجوههم قاسية, عيونهم مشتعلة بالغضب,
وجميعهم يحدقون بها بلا رحمة.. كانت ترتعش, ليس من البرد, بل من خوف لم تعرفه في
حياتها, خوف من ابن عمها المتادور, ومن عشيرتها, التي كانت تحتضنها دومًا..
ارتعش قلبي من الخوف المميت عندما التقطت نظرات الغضب والكراهية التي كانت
تُحاصرني من جميع الجهات, نظرات لم أرى فيها أي تعاطف, بل كانت تنبئ بمصير أسود لا
يمكن الهرب منه.. كلمات سلفادور كانت كالخناجر التي تزداد غرزًا في روحي..
ثم بدأت أصوات رجال العشيرة ترتفع تدريجيًا, صيحاتهم وهتافاتهم تتعالى,
تطالب بدمائي, بصوت واحد يقول
" الموت لها.. تستحق الموت.. يجب أن تموت.. تستحق الموت "
لم تكن الآن نظرات الناس وحدها ما أرعبتني, بل صوت رجال العشيرة وهم يهتفون
بصوت واحد وبحزم لا يقبل النقاش.. حُكم الموت عليّ..
ارتجفت بقوة لكن ليس من البرد, بل من الخوف الذي احتجز أنفاسي.. شعرت وكأن
الثلوج تنصهر أسفلي لتلتهمني, وكأن روحي تتهشم.. لكن فجأة رفع سلفادور يده عاليًا
ببطء, وأمر الجمع بالصمت, ليتوقف الهتاف ويسود سكون مرعب في باحة القصر.. لم يُسمع
سوى شهقاتي المكسورة, حيث كنتُ أشعر أنني أقف في منتصف دوامة قاتمة لن أعرف النجاة
منها..
قبل أن يتكلم سلفادور, نظرت إليه بذعر مُميت وبدأت دموعي تنهمر بجنون, وكأن
دموعي كانت تحاول إطفاء نار الغضب في عينيه.. استجمعت أنفاسي الممزقة وهمست بصوت
مبحوح ممتلئ بالرجاء والألم, وبدأت أتوسل إليه, صوتي خرج مع شهقاتي الممزقة
" أرجوك, سلفادور.. أرجوك, سامحني.. أنا آسفة.. لم أكن أقصد إيذاء
لينيا.. لم أكن أقصد "
استمرت كارميتا تبكي بشدة, صوتها مبحوحًا بين النحيب والعجز, وكأنها تحاول
بكل قوتها استجداء رحمة من رجل قرر مصيرها..
تابعت قائلة ببكاءٍ مرير
" أرجوك, أنا آسفة.. لم أقصد.. أعدك, لن أقترب من لينيا بعد اليوم..
فقط.. فقط سامحني, أرجوك! "
كلماتها كانت تتخللها شهقات بكاء تائهة, تُكافح كي تجد شفقة في عينيهِ
القاسيتين.. وبينما كانت توسلاتها تتناثر مع هواء البرد والثلوج, كان الجميع
يراقبون بتوتر وكأنهم يشهدون مُحاكمة ظالمة أو رحيمة, لا يعلمون ما سيفعلهُ
سلفادور بعد هذا المشهد الذي أحكمت فيه يد العدالة قبضتها بلا تردد..
وقف سلفادور أمام كارميتا التي كانت ترتعش من الذعر, وعيناه تشعان بالغضب
الذي لا يعرف الرحمة.. نظراته كانت باردة, قاسية, تخلو من أي شفقة, وكأنها تُمثل
حكمًا نهائيًا لا جدال فيه, لتخبرها بأن نهايتها قد اقتربت, وأن خطاياها لا يمكن
التغاضي عنها..
كارميتا, التي كانت ترتجف على الأرض, رأت هذا البريق القاتم في عينيه.. اقترب
منها سلفادور بهدوء مُخيف, لتسمع همسًا خرج منهُ بحدة وعزيمة, صوتًا لم يسمعهُ
سواها, قال لها ببطء بصوت اخترق أذنيها كخنجر
" أنتِ لم تشفقي على لينيا, وغدرتِ بها.. ولذلك لن أُشفق عليكِ الآن
"
شعرت كارميتا برعب يجتاح كيانها وبأنفاسها تنحبس, كان الخوف يغزو جسدها حتى
العظم, لكنها أدركت أنه لم يعد هناك مفر, إذ كانت تعرف بأن سلفادور لا يتراجع
أبداً عن كلماته, وأنهُ جاد فيما يقوله, فصوته كان كالسيف الحاد الذي يقطع آخر خيط
من أملها..
وقبل أن تستوعب, رفع سلفادور رأسهُ عاليًا, عينيه تتألقان بتصميم قاطع,
نظراتهِ الحادة تُلامس كل من حوله, وهتف بصوتٍ مُرتفع وصل إلى آذان الجميع, حتى
أولئك الذين كانوا في أقصى الساحة
" لقد قررت حُكمي على كارميتا "
لكن قبل أن يُكمل سلفادور كلامه, قاطعهُ صوت آخر، جاء من خلفه بقوة، محملًا
باعتراض وألم
" لا, سلفادور! "
ارتجت الساحة بصوت خوان, شقيق كارميتا, الذي كان يدفع كرسيه المتحرك بقوة
نحوهم, كأنهُ كان يُسابق الزمن للوصول قبل أن ينطق سلفادور بالحُكم..
التفتَ سلفادور وعيناه تتوهجان بالغضب بينما كان الجميع يحدقون بذهول
باتجاه خوان, الذي كان يقترب من المتادور وشقيقتهِ بتصميم لم يكن قد أظهرهُ من قبل..
توقفت بسرعة عن البكاء, ونظرت بذهول إلى اليمين لأرى شقيقي خوان, الذي تحرك
بسرعة عجيبة وكأنما يتحدى إعاقته من أجلي, حتى وصل أمامي وأمام المتادور
الغاضب..
أوقف خوان كرسيه أمام سلفادور, ونظر في عينيه بثبات, ثم رفع بصرهُ نحو أهل
اكستريمادورا ورجال عشيرة دي غارسيا الذين تجمعوا حولهم.. هتف بصوتٍ ممتلئ بالألم
والتصميم
" لن أوافق على حُكم الموت على شقيقتي "
شهقت برقة وهمست بسعادة
" أخي, خوان! "
ونظرت إلى وجه شقيقي بدهشة وبحب كبير..
ساد صمت رهيب ومُخيف, كأن الهواء نفسهُ تجمد في هذه اللحظة من قوة كلماته, ونظرات
الجميع تحولت إليه, الجميع كانوا يحدقون في خوان بذهول, غير مصدقين لجرأته, وكأنهم
لا يصدقون ما يسمعونه.. حتى سلفادور نفسه نظر إلى خوان بنظرات تتراوح بين الغضب
والاستغراب..
تابع خوان قائلاً بصوت ممزوج بالحزن وهو يواجه ابن عمه, كانت كلماته تشع
ألمًا, لكنهُ كان يتحدث بحزم لا يلين
" لن أسمح بأن تفقد عشيرتنا شخصًا آخر.. لن أسمح بأن تموت شقيقتي
اليوم... لن أتحمل خسارتها "
نظرت إلى شقيقي بدهشة وبحب كبير, لم أستطع تصديق أن شقيقي الوحيد كان يقف
في وجه الجميع مدافعًا عني, خاصةً أمام سلفادور.. بدأ ذلك الأمل الضئيل ينبض في داخلي,
وبدأت أرى في شقيقي الملجأ الأخير.. لم أتوقع يومًا أن يقف خوان, شقيقي الوحيد
ويدافع عني بهذا الشكل.. كنتُ أعرف الآن عمق حزنه بسبب ما فعلتهُ وبسبب ما فعلهُ
بي سلفادور, لكن لم أتخيل أن يُدافع عني بكل هذه القوة..
تابع خوان كلامه لـ سلفادور, قائلاً بلهجة تفيض بالألم
" ماتادور, أريدُكَ أن تتذكر ما شعرتَ به عندما فقدتَ شقيقك بينيتو..
إن ماتت كارميتا اليوم, فسيكون موتها سببًا آخر لتعذيبك ومعاناتك, كما شعرتَ عندما
فقدتَ بينيتو.. إذا ماتت كارميتا اليوم, ستجعلني أشعر بالألم الذي شعرتَ به أنتَ
حينها, وأنا لا أستطيع تحمله "
كانت كلماته تخترق الصمت المشوب بالتوتر, وتجعل الجميع ينظرون في وجوههم,
يتذكرون أحزانهم الشخصية وفقدانهم لمن يحبون.. رفع خوان نظره نحو الجميع, وقال
بحزم
" كارميتا مُذنبة.. نعم, هي مُذنبة.. لكن إن حُكم عليها بالموت اليوم,
فرغم ذلك, سنشعر جميعًا بالألم لفراقها.. عقاب الموت لن يُرضي أحدًا, ولن يُرضي
الله.. كل إنسان يستحق فرصة ثانية "
كلماته كانت تضرب على وتر حساس داخل الجميع, تحركت بعض الرؤوس بالإيماء,
بينما البقية ظلوا ساكنين, يستمعون لصوت الحقائق التي يرويها خوان..
واصل خوان حديثهُ, والهدوء يغمر المكان
" كارميتا أخطأت بحق لينيا, وتستحق العقاب, لكن ليس عقاب الموت.. لذلك
أطلب منكم جميعًا, وخاصةً ابن عمي سلفادور, والذي هو رئيس عشيرة دي غارسيا, أن
تسمحوا لي بأن أقوم بمعاقبتها بنفسي.. عقابًا يُرضي الجميع "
كان الجو مشحونًا, وعيون الجميع تنقلت بين سلفادور ووجه خوان الثابت, بينما
كارميتا كانت تنظر إلى شقيقها بدموعٍ تلمع بالأمل, وبهذا الخيط الرفيع من الحياة
الذي كان قد بدأ ينقطع.. في هذه اللحظة عرفت كارميتا أن شقيقها كان مستعدًا للقيام
بأي شيء لإنقاذها.. شقيقها الوحيد الذي تحبّهُ بكل جوارحها..
في ساحة القصر الصامتة, وقف سلفادور شامخًا, عينيه المتقدتين ترمقان
كارميتا بنظرات أشبه بالخناجر, نظرات لم تعرف الرحمة ولم تحتوي على أي شعور
بالشفقة.. كانت عيناه تحملان حكمًا صارمًا, وقسوته تنعكس في ملامح وجهه الثابت..
تجمدت كارميتا تمامًا, إذ شعرت وكأنها أمام حكمٍ لا عودة عنه.. كان الجميع
صامتين, يراقبون بترقب شديد بينما المتادور يتخذ قراره.. ثم فجأة, رفع سلفادور
بصره نحو خوان, وأعلن بصرامة أمام الجميع
" خوان, أنا موافق.. سأترك لك أمر مُعاقبة شقيقتك كارميتا "
توقفت أنفاس الجميع لوهلة, لم يتوقعوا أن يترك سلفادور هذا القرار لـ خوان,
وكأن الجميع بمن فيهم كارميتا, كانوا يتوقعون عقابًا مختلفًا تمامًا..
تابع سلفادور قائلاً بصوتٍ حاد لا يقبل النقاش, موجهًا كلامه لـ خوان
" لكن عليك أن تعرف أولاً, على الرغم من أنني وافقت على قرارك بمُعاقبة
كارميتا, لكن يجب أن تعلم, هي لم تعد مرحبًا بها في قصري ولا في أي مكان أمتلكهُ..
ولن أسمح لها بالاقتراب من لينيا, مهما كانت الظروف "
كانت هذه الكلمات مفاجأة أخرى للجميع, فأنفاس الناس توقفت مرة أخرى, وكأن
الجو المحيط بهم يتقلص تحت وطأة صرامة سلفادور.. عاد سلفادور للتأكيد, وسط نظرات
الدهشة من الحاضرين
" لك الحق الآن يا خوان في إصدار قرار عقابك على شقيقتك "
ساد صمت ثقيل في الساحة, عيون الجميع كانت مثبتة على خوان بترقب بانتظار
إعلانه عن العقاب الذي سيختاره.. كل شيء كان يوحي بترقب مخيف يملأ القلوب..
نظر خوان إلى وجهي بحزن عميق, عينيه غارقتين في الدموع, ثم همس بصوت متهدج
لم يسمعهُ سواي
" كارميتا.. سامحيني, شقيقتي "
تجمدت في مكاني وتوقفت أنفاسي للحظة, بينما قلبي كان يخفق بعنف وكأنما
يحاول الهروب من صدري, وعيني متسعتان من الذعر.. نظرت إلى شقيقي بدهشة وخوف عميق..
كلمات خوان كانت تحمل في طياتها ألمًا دفينًا, لكنها أيضًا كانت تُنذر بعقاب قادم
قد لا أستطيع تحملهُ..
شعرت بصدمة وذعر كبير عندما سمعت ما همس بهِ خوان بحزن.. تلك الكلمات, رغم
هدوئها, جعلتني أدرك أن ما ينتظرني ليس سهلاً.. لقد فهمت أن عقاب خوان سيكون
عميقًا ومؤلمًا, ومختلفًا عن أي شيء تخيلته..
ثم, تحاشى خوان النظر إليّ مباشرةً, وأعلن بصوت مُرتفع أمام الجميع
" لقد قررت عقاب شقيقتي "
تسمرت العيون على خوان, بينما كان هو يبدو كمن يقاوم شيئًا من الداخل..
أكمل قائلاً ببطء وقد ترددت كلماته في الساحة وكأنها إعلان مُهيب
" بما أنني الوصي الشرعي على أملاك شقيقتي حتى تبلغ سن الخامسة
والثلاثين كما نصّت وصية والدنا, فإنني أُقرر حرمانها من ميراثها بالكامل.. لن
تستطيع صرف يورو واحد الآن من ميراثها "
ارتفعت دهشة كارميتا وهي تحدق بشقيقها بذهول, لكن سرعان ما شعرت ببعض
الراحة, فالعقاب بدا سهلاً نسبيًا, واعتقدت أنها تستطيع تجاوز ذلك بمساعدة جدتها
الحنونة.. لكنها لم تكن تعرف أن العقاب الحقيقي لم يكن قد نطق بعد..
إذ قبل أن تتنفس كارميتا بارتياح, تابع خوان بصوت أشد صرامة وبتصميم لا
يهتز
" وبما أن سلفادور أعلن أن كارميتا لم تعد مرحبًا بها في أي مكان
يمتلكه, فهي أيضًا لن تكون مرحبًا بها في قصري الخاص, ولا في أي مكان أمتلكهُ
"
" خوان! "
شهقت كارميتا بصدمة لا توصف, وهمست باسم شقيقها بصوتٍ مهزوز, تحاول أن
تستوعب الصدمة الكبيرة التي فاجأتها.. لكن خوان لم ينظر إليها, بل تابع حديثه أمام
الجميع, وقال بنبرة حزينة لكنها قوية, موجهًا كلامهُ للجميع
" اليوم كان من المفترض أن يكون يوم زفاف المتادور, ولكنه أُلغي بسبب
ما فعلته كارميتا.. لكنني أقول لكم الآن, سيكون هناك زفافًا آخر سيتم اليوم.. زفاف
كارميتا.. فهي سوف تتزوج اليوم رجلاً سأختارهُ لها بنفسي, والآن "
كلمات خوان كانت كالصاعقة على مسامع الجميع, وعلى مسامع كارميتا التي لم
تستطع استيعاب ما يقولهُ شقيقها.. ارتجفت كارميتا بصدمة لا مثيل لها, عيناها
اتسعتا بذهول وهي تنظر إليه, ولكن قبل أن تنطق بشيء, صُدمت مرة أخرى حين سمعت
صوتًا قويًا يهتف من خلفها, محملًا بالثقة والتصميم
" سنيور خوان, أرجو منكَ ومن عائلتكَ الكريمة, ومن المتادور رئيس
العشيرة, أن تقبلوا بي زوجًا لـ سنيوريتا كارميتا "
شهقت كارميتا مجددًا بصدمة, واستدارت ببطء لترى خانتو, الذي اقترب منها
بثقة, ووقف بعيداً عنها بعدة خطوات.. رفع رأسهُ ونظر إلى خوان ثم إلى رجال عشيرة
دي غارسيا بنظرات مليئة بالعزم..
ثم تابع بصوت عميق وهادئ, قائلاً للجميع بجدية
" أطلب يد سنيوريتا كارميتا دي غارسيا لتُصبح زوجتي, وأطلب موافقة
الجميع على هذا القرار "
ثبتت كارميتا في مكانها.. ركبتيها ترتعشان بقوة ولم تعد تقويان على حمل ثقل
جسدها.. كانت ما تزال جالسة على ركبتيها وسط الثلوج, الصدمة تتخلل تفاصيل وجهها,
وارتجفت شفتاها كأنما تريد قول شيء لكنها لم تستطع.. كان قلبها ينبض بقوة, شعورها
بالخوف والحيرة يتضاعف, وعيون الجميع متجهة نحوها, بانتظار نهاية هذا القرار
الجريء والمصيري..
كانت نظرات كارميتا مذهولة, فقد اختلط عليها الشعور بالذعر من قرار زواجها
المفاجئ, والدهشة لرؤية خانتو, الذي تحدى كل شيء وأعلن رغبتهِ في الزواج منها أمام
الجميع..
نظر سلفادور إلى
كارميتا, عيناه متجمدتان بنظرات باردة لا تعرف الشفقة, تُحدق بـ كارميتا كما لو
كانت غريبة عنه.. كانت عيناه مليئتين باللوم والازدراء, كأنما يُحملها مسؤولية عار
لا يُغتفر, نظراته كانت تزرع الرعب في قلبها, لتتسلل برودة الجليد إلى أعماقها
وكأنها تعاقبها.. كانت عينيه تروي غضبًا مكتومًا وعزمًا صارمًا على تنفيذ الحُكم
الذي صدر بحقها.. أما كارميتا كانت تجلس على الثلج, ترتجف وذعرها يتصاعد, كانت
تشعر وكأن مصيرها ينقلب أمام أعينها..
وبينما هي
ترتجف من الرهبة, سمعت صوت شقيقها خوان وهو يقول لـ خانتو بنبرة حازمة
" موافق
على زواجكَ من شقيقتي.. أنا بالفعل لن أجد لها زوجاً أفضل منك "
تحولت ملامح
وجه كارميتا إلى قناع من الذهول, عينيها متسعتان وشفتاها ترتجفان كأنها غير قادرة
على استيعاب ما قاله.. رمقت شقيقها بذعر وكادت أن تسقط إلى الأمام, لكن بسرعة
استندت بكلتا يديها على الثلج, تجثو على ركبتيها كأنما تستنجد بالبرودة علّها
توقظها من هذا الكابوس المرعب.. ارتعش جسدها من البرد والصدمة, وشهقت بقوة وهي
تُحدق في الأرض من غير قدرة على استيعاب ما يحدث..
ومع هذا, لم
يكن الكابوس قد انتهى, فقد سمعت سلفادور نفسه يُعلن موافقتهِ بلهجة لا تقبل النقاش
" أنا
موافق كذلك على هذا الزواج "
تبعهُ رجال
عشيرة دي غارسيا, وحتى جدتها رامون, يُعلنون موافقتهم برفع أصواتهم إلى السماء
كأنما يحتفلون بعقابها, وكأن كل شيء كان قد تهيأ مسبقًا لهذا العقاب..
شهقت كارميتا
بقوة, ورغم الصدمة الهائلة التي هزّت كيانها, تمكنت من النهوض ووقفت على قدميها
بصعوبة, وذهنها مشوش.. نظرت بذهول إلى الحشد المُحيط بها, تشعر وكأن الثلوج تحت
قدميها قد بدأت بالذوبان, لتغرق في مستنقع من اليأس..
رفعت رأسها
ببطء, محاولًة أن تفهم حقيقة ما يجري.. فجأة, ضحكت ضحكة مُتشنجة, ضحكة كانت أقرب
إلى التعبير عن الصدمة وعدم التصديق.. لكن ضحكتها اختفت بسرعة حين أدركت أن كل ما
يجري حقيقي, وأن مصيرها قد حُسم دون رجعة..
حدقت بذعر نحو
شقيقها خوان الذي كان يجلس على كُرسيه المُتحرك يتأملها بنظرات ثابتة وجامدة, لا
تعكس أي شفقة.. في هذه اللحظة, استيقظت كارميتا من صدمتها, وكأنها تستعيد وعيها..
بكت بحرقة, كانت دموعها تسيل على وجنتيها, وبدأت تهز رأسها ببطء وهي تهمس بحرقة
وخوف وكأنها تحاول إيقاف المصير بصرخات لا تُسمع
" لا..
لا!.. لا يمكن أن يحدث ذلك.. لا!... "
لكنها صمتت حين
دوى صوت خوان بحدة وصراحة قاسية
" ستتزوجين
خانتو الآن, حتى لو كان ذلك بالقوة, ولن تتلقي أي مساعدة من أحد, خاصة من جدتنا رامونا
"
كلمات خوان
كانت بمثابة الضربة القاضية, جعلت كارميتا تشعر بأن الأرض تبتلعها.. اقتربت من
شقيقها خطوة, ثم انهارت على ركبتيها أمامه, يديها تمسك بيدهِ بقوة, وعيناها
ممتلئتان بالرجاء.. توسلت إليه بصوتٍ مُختنق بالبكاء, تترجاه برجاء مُر, وكلماتها
تخرج متعثرة من الحزن والخوف
" أرجوك
أخي... لا تزوجني من خانتو, أو من أي رجل آخر.. أرسلني إلى قصركَ في مدريد, سأكون
خادمة هناك, سأفعل أي شيء تريده.. لكن, أرجوك, لا تزوجني من رئيس حرسك.. لا
تُجبرني على هذا الزواج "
بقي خوان
ثابتًا, لا يلين أمام توسلاتها, لكنهُ لم يقل شيئًا بينما كانت كارميتا تتوسل
وتبكي, محاولة أن تجد في وجهه أي تعبير يُعيد إليها الأمل.. للحظة, نظر خوان إليها
بنظرات حزينة, كانت عيناه تلمعان بشيء من الحزن والألم, لكن سرعان ما تماسك, وسحب يدهُ
بهدوء من قبضة كارميتا, ثم قال بصوت ثابت
" ماتادور,
أرجو منكَ مرافقة شقيقتي كارميتا إلى كنيسة القرية ليتم زفافها على خانتو "
لم يتردد
سلفادور لحظة, إذ تقدم نحو كارميتا, وقبض على ذراعها ليجعلها تقف, مجبرًا إياها
على الابتعاد عن شقيقها.. ثم أمر بنبرة حازمة, وكأنهُ يحكم بأمر لا رجعة فيه
" لنتجه
جميعًا إلى كنيسة القرية لحضور الزفاف "
بدأ الجميع
يتحركون ببطء, متجهين نحو الكنيسة.. كانت كارميتا تحاول الإفلات وهي تنظر أمامها
بذهول ودموعها تسيل بحرقة على وجنتيها, لكنها لم تجد سبيلًا للهرب من القبضة
الحديدية التي أحاطتها, ومن المصير الذي كُتب عليها, والذي بدا أنه لا مهرب منه..
كانت تسير
وسطهم وهي تتعثر في خطواتها, تجر نفسها كأنها مسلوبة الإرادة, بينما الثلوج تستمر
في الهطول بهدوء, تغطي الأرض, وكأنها تسجل بصمتٍ حزين لحظات العقاب التي لن تُنسى..
وقف سلفادور
عند باب الكنيسة, يتأمل كارميتا بنظرات لا رحمة فيها, نظراته كالثلج البارد, تخترق
كيانها كأنها دعوة صامتة للعقاب, خالية من أي مشاعر رحمة أو عطف.. تحولت خطواتها
الثقيلة إلى داخل الكنيسة وكأنها تمشي على جمرٍ مشتعل..
كانت الكنيسة
مزينة بالورود البيضاء الجميلة ومضاءة بوهج الشموع التي ترسم ظلالًا ترتجف على
الجدران الحجرية, وتزيد من رهبتها.. وحين وصلت أمام الكاهن, وقفت كارميتا كتمثال
بارد, ذاهلة من الواقع الذي يُفرض عليها..
نظرت بذعر إلى
خانتو الواقف بجانبها, رافضًا ترك عينيه تتلاقى بعينيها.. بينما شعرت هي وكأن
العالم بأسره قد انهار حولها.. كانت نظراتها مليئة بالذعر, قلبها ينبض بسرعة, لكن
لم يكن لديها القوة للاعتراض, وكأنها مسلوبة الإرادة, محاصرة في مصيرها دون أدنى
قدرة على تغييره.. وكانت كل خلية من جسدها تهتف بالرغبة في الهروب, إلا أن قدميها
كانتا مغروزتين في الأرض كأنهما فقدتا الإحساس..
مرت لحظات
طويلة, لتسمع فجأة وبذعر الكاهن أمامها يسألها بصوتٍ هادئ وجليل
" هل
تقبلين, كارميتا دي غارسيا, الزواج من خانتو بارفيو, وتعدين أن تكوني مُخلصة له في
السراء والضراء, في الصحة والمرض, في الغنى والفقر, حتى يفرقكما الموت؟ "
كانت كلمات
الكاهن تطرق أذنيها كالمطرقة, وشعرت بجسدها يتجمد, ولم تستطع أن تُحرك لسانها بأي
اعتراض.. كانت الدموع تتجمع في عينيها, لكنها لم تُخرج أي كلمة.. شعرت وكأن صوتها
قد اختفى, وكأن الزمن توقف..
كانت الصدمة
تقيد لسانها فلم تجد في نفسها قدرة على الاعتراض أو حتى التمتمة بأي حرف, ومرت
الثواني كأنها ساعات, حتى في النهاية وبصعوبة استطاعت هز رأسها قليلا والهمهمة
بضعف وبخوف
"
هممم.... "
أخذ الكاهن هذه
الهمهمة الضعيفة على أنها موافقة.. وأعلن أمام الجميع بأن كارميتا أصبحت زوجة
خانتو بارفيو
" بناءً
على هذا القبول, أُعلن أمامكم أن كارميتا و خانتو قد أصبحا زوجين.. خانتو, يمكنك
تقبيل عروسك "
توسعت عينا
كارميتا برعب, ترى وجه خانتو يقترب منها ببطء كأنهُ يعبر الحدود بين عالمين..
بسرعة أغمضت عينيها بشدة, وتدفقت دموعها بغزارة, وهمست بصوت مُرتعش ومُختنق
" لا..
أرجوك "
تجمد خانتو
لوهلة وهو يتأمل وجهها المبلل بالدموع, وعيناه تومضان بحزن خفي, ثم استجمع شجاعته
واقترب منها, غير قادر على مقاومتها تمامًا, وقبّل جبينها برقة بالغة, كأنما يحاول
تخفيف الألم الذي تشعر به..
أحست كارميتا
بوقع القبلة على جبينها, وشعرت كأنها لمسة عابرة تحمل شيئًا من التعاطف أكثر من أي
شيء آخر.. فتحَت عينيها ببطء, ونظرت إلى خانتو بدهشة وارتباك, لتجد أنهُ قد ابتعد عنها
بخفة, وكأنهُ يحترم المسافة بينها وبينه..
بصوت هادئ, طلب
الكاهن من خانتو أن يضع خاتم الزواج في يدي.. شعرت بنظرات خانتو عليّ, فرفعت رأسي
قليلاً ونظرت إليه.. شعرت بالدهشة عندما رأيت نظراتهِ الحزينة وارتباكه.. ثم نظر
إلى الكاهن وكان على وشك أن يتكلم, لكن قبل أن يتمكن من الكلام, قاطعته جدتي
رامونا, التي اقتربت منه وهي تحمل بيدها خاتمها الخاص, وتعلو وجهها ابتسامة رضا
وهدوء, وقالت بسعادة
" سأهدي
حفيدتي خاتم زفافي الخاص, ليكون عربون حب ووفاء لكما "
توسعت عيناي
بصدمة كبيرة وهتفت بداخلي بغيظٍ شديد, عن أي حُب ووفاء تتكلم جدتي الآن؟!.. لا شيء
يجمعني بهذا الرجل الوضيع.. نظرت إلى جدتي بقهر وهمست بصوت بالكاد يُسمع
" جدتي, الخائنة
"
آوه, نعم,
بنظري الآن رأيت جدتي خائنة لأنها باعتني لهذا الرجل الفقير ووافقت على زواجي منه
بالقوة..
رأيت بقهر جدتي
تُسلم خاتمها لـ خانتو, ثم ابتعدت وهي تبتسم بسعادة.. أمسك خانتو يدي برفق, ووضع الخاتم
في إصبعي البنصر.. لكن بنظرات ملؤها التحدي, سحبت يدي بسرعة, وأمام أعين الجميع,
نزعت الخاتم من إصبعي البنصر ووضعته في إصبعي الوسطى.. بهذه الحركة الجريئة مني
كنتُ أُرسل رسالة واضحة لكل من حولي بأنني أرفض رفضاً قاطعاً بأن أكون مُلكًا لهذا
الرجل, وبأنني سأتخلص منهُ قريباً..
راقبني خانتو
ببرود وبنظرات جامدة, ووجههُ ثابت وعيناه تُخفيان مشاعر مختلطة, لكنهُ لم يتفوه
بكلمة, بل أكمل خطوات الزفاف, إذ دون أن ينبس بكلمة استدار واتجه نحو الكاهن, ووقع
بهدوء على وثيقة الزواج, موقعًا على الميثاق الذي جعلهُ زوجًا لي..
وعندما حان دوري
للتوقيع, كنتُ أُحدق في القلم بعيون ممتلئة بالتردد والرفض, لم أستطع رفع يدي لأخذ
القلم.. كنتُ غير قادرة على تحريك يدي للتوقيع على الورقة التي تثبت عقد هذا
الزواج المفروض عليّ..
لكن سلفادور لم
يترك لي مجالًا للتراجع, فقد اقترب بسرعة ووقف بجانبي, ووضع القلم في يدي بقوة,
وأمرني بحدة قائلاً
" وقّعي,
وبسرعة "
تجمدت يدي
للحظة تحت وقع تهديده, ولم أجد أمامي سوى الخضوع.. ارتجفَت أصابعي حول القلم,
ودموعي كانت تتساقط على الوثيقة, وملامح وجهي ممتلئة بالألم, لكن لم أجد مهربًا..
وقّعت على وثيقة الزواج مُرغمة, وسط دموعي وانكساري..
في هذه اللحظة,
عمّت الكنيسة أصوات التصفيق الحار, وكأن الحضور كانوا يحتفلون بحدثٍ طال انتظاره..
وكأن الجميع يحتفل بحدث لم أرى فيه سوى أسوأ كوابيسي..
من بين دموعي
وضباب رؤيتي, لمحت كُرسي شقيقي خوان المتحرك يقترب ببطء نحوي حتى وقف أمامي تمامًا,
ثم نظر خوان بسعادة نحو خانتو وهنّأه بفرحٍ كبير على زواجه, دون أن يظهر عليه أي
شعور, وكأنه لا يرى دموعي ولا يهمه ما أشعرُ به..
ثم نظر إليّ بعيون
باردة, بعينين لا تحملان أي عاطفة سوى برود كالصقيع.. شقت شفتيه ابتسامة مريرة,
وهمس بتهكم
" مبروك
الزواج, شقيقتي "
كانت كلماته
كضربة موجعة أخرى, كأنني لستُ أخته التي يعرفها وإنما فتاة غريبة تحمل اسمها فقط..
تأملتهُ بذهول, وحاولت تفسير القسوة التي تتجلى بوضوح في ملامحه..
ببرود, رفع
خوان يدهُ مشيرًا إلى خاتم زفافي, وأمرني بصوت هادئ ولكنه حازم
" ضعي
خاتمكِ في إصبعكِ البنصر "
لكن لم أتحرك,
ظللت جامدة كتمثال أمامهُ.. نظرت إلى شقيقي بمرارة وقهرٍ لا يوصفان, وبعينين
تغليان بالتمرد والتحدي, غير قادرة على استيعاب بأنهُ أجبرني على الزواج من موظف لديه..
بعد الآن لن أقوم بتنفيذ أوامرهُ اللعينة.. وكنتُ الآن أنظر إليهِ بطريقة وكأنني
أقول له بأني سأبقى على عنادي, ولن يُخيفني مهما فعل..
في هذه اللحظة,
رأيت خوان يبتسم ابتسامة خبيثة, مما جعل الرعب يتسلل إلى قلبي.. بلعت ريقي بقوة
وهتفت بداخلي بفزع.. اللعنة, ما زلتُ أخاف منه وبشدة..
ثم, ببرود
مروّع, رأيت خوان يلتفت نحو خانتو وقال لهُ بنبرة خبيثة, بصوت جعلني أرتجف من
الخوف
" يمكنك الذهاب
الآن وأخذ زوجتك إلى منزل عائلتك, القريب من الحدود الغابة الشمالية "
تسمرت في
مكاني, وتوسعت عيني برعب حقيقي, وبدأت تتنقل نظراتي بين شقيقي و خانتو, محاولة
استيعاب ما يجري.. كان خانتو ينظر إلى خوان بدهشة وصدمة, وهمس بصوت مضطرب
" لكن..
خوان, المنزل في الغابة غير صالح للسكن..
إنهُ قديم ويحتاج إلى الكثير من الترميم.. و.... "
قاطعهُ خوان
ببرود لا يُحتمل, قائلاً له بنبرة حازمة وهادئة وبأمر واضح
" خذها
إلى هناك.. هذا هو المكان الذي ستعيش فيه مع زوجتك "
كانت كلماته
ثقيلة كالحكم النهائي, ليس فيها أي مساحة للنقاش.. حاول خانتو التكلم لكن خوان لم
يعطه وقتًا للاعتراض, إذ قال ببرود وأمرهُ بلهجة قاطعة
" ستأخذها
إلى ذلك المنزل, ولن أسمح بأن تعيشا في مكان آخر سواه.. هل كلامي واضح, خانتو؟
"
ارتعشت كارميتا
بصمت بينما خانتو كان يُجيب شقيقها قائلاً باحترام
" نعم, سنيور "
لكن ذعرها ازداد
عندما سمعت شقيقها يُكمل بصوت مثقل بالقسوة, موجهًا كلامه إلى خانتو وكأنهُ يصدر
حكمًا نهائيًا
" كارميتا
يمكنها الاعتناء بالمنزل والقيام بكامل واجباتها الزوجية تجاهك "
كان وقع كلماته
كالرصاص في أذناي, زادت من ذعري.. شعرت بأنني أصبحت سجينة الانتقام وقسوة القلوب..
شعرت بقلبي يغرق في هاوية من الألم والخوف.. وقبل أن استوعب كلماته, أضاف خوان,
بصوت خالٍ من الشفقة, وهو ينظر إلى خانتو مباشرة
" خذها
الآن.. سأرسل ملابسكم إلى ذلك المنزل قريبًا, ويمكنك استخدام سيارتي للذهاب إلى
هناك.. كما سأرسل أحد الحراس لاستعادتها بعد ساعة "
في ذهولٍ لم
تعرف كارميتا كيف تتجاوزه, وقفت جامدة تنظر أمامها بشرود تام بينما كانت جدتها
تُعانقها وتبكي بفرح وهي تتمنى لها السعادة, ثم اقتربت أريا وتمنت لها السعادة..
بعد لحظات, رأت كارميتا نفسها تسير دون وعي برفقة خانتو, خطواتها بطيئة وكأنها
تسير نحو المجهول..
خرجت معه من
الكنيسة, وتوجهت إلى السيارة, وجلست بصمت في المقعد الأمامي, تنظر إلى الطريق
بعينين تائهتين, فيما بدأ خانتو يقود السيارة..
كان كل شيء
حولها كالحلم المُخيف, ترى الغابة تقترب, وتبتعد عن كل شيء تعرفه.. الهواء البارد يُحيط
بها, والثلوج المتساقطة تملأ المكان بصمتٍ ثقيل.. قلبها ينبض بسرعة, والذعر يحتل
كل جزء منها.. لم تستطع النظر إلى خانتو, وكأنها لم تعد ترى أمامها إلا الطريق
الذي يقودها بعيدًا..
شيئًا فشيئًا,
بدأت السيارة تدخل في عمق الغابة الكثيفة, وتبتعد كثيرًا حتى باتت على الحدود
الشمالية لـ اكستريمادورا.. الثلوج تتساقط بهدوء شديد, تغطي الأشجار والأرض بطبقة
بيضاء نقية, تعكس الضوء الباهت كأنها حلم أو كابوس مرعب..
وأخيرًا, وسط
الثلوج المتراكمة, توقفت السيارة أمام كوخ صغير مهجور..
كان الكوخ يبدو
بائسًا, وعتيقًا, وكأنه لم يسكنهُ أحد منذ زمن.. كان المكان موحشًا, كأن الزمن
نسيهُ وتركهُ يذبل.. تجمدت نظرات كارميتا على الكوخ بذعر, عيناها الواسعتان تحدقان
في المكان بصمتٍ مُتجمد, قلبها مثقل بالرعب, غير قادرة على استيعاب أن هذا المكان
سيكون منزلها من الآن فصاعدًا..
تحت وهج
الأضواء الخافتة القادمة من مصابيح السيارة, حدّقت كارميتا إلى ذلك الكوخ المهجور,
تنفست بعمق وقد اغرورقت عيناها بالدموع.. تملكها الرعب والذعر, فاستدارت ببطء نحو
خانتو وسألته بصوت مُرتعش وباشمئزاز واضح
" ما هذا
المكان؟ "
كانت نبرتها
تحمل مزيجاً من الخوف والذهول والقرف, كأنها تقف أمام قفصٍ يحبس أحلامها ويجعلها
ترى الكوابيس..
نظر إليها
خانتو بهدوء, رغم العواصف التي تتلاطم داخله, وقال بصوت بارد
" هذا
الكوخ هو منزلنا الجديد "
كانت كلماته
قصيرة, لكن وقعها كان كصفعة قوية على وجه كارميتا, إذ لم تستطع تصديق ما تسمعه..
نظرت حولها مرة أخرى وتأملت الكوخ بنظرات مشمئزة وبقرف واضح, ثم عادت تتأمل وجه
خانتو بدهشة وذعر كبير..
وبصوت يمزقهُ
الخوف, هتفت كارميتا بجنون
" مستحيل!
أنا لن أسكن هنا! هذا الكوخ قذر ومتهالك! "
زاد صوتها
ارتفاعاً وغضباً, وأخذت تصرخ بشكل هستيري وكأنها تريد طرد كل ما بداخلها من كبت
وخوف
" أنا لن
أسكن هنا.. لن أعيش في هذا المكان المتعفن! مستحيل! لن أعيش هنا! لن أعيش في هذا
الكوخ القذر.. هذا المكان غير صالح حتى لتسكن بهِ الحيوانات "
لم تتحمل
كارميتا هذا المكان, فوجهت غضبها وإحباطها نحو خانتو.. لكن خانتو, الذي كان يتحمل
صرخاتها بنظرات باردة, لم يعد قادرًا على السيطرة على غضبه هو الآخر.. فجأة, وبغضب
لم تره منه من قبل, صرخ بصوت ملأ المكان بحدة
" توقفي,
كارميتا.. هذا الكوخ هو منزل عائلتي, ورثتهُ من والدي المرحوم, ونحن الآن سنعيش
هنا, شئتِ أم أبيتِ "
راقبت بذعر لا
يوصف تعابير خانتو التي ازدادت قسوة.. لأول مرة أرى الغضب يتطاير من عينيه بسببي,
فتراجعت إلى الخلف والتصقت بالباب خوفاً منه.. كانت كلماته كالصواعق, لم أتوقع قط
أن يتحدث خانتو بهذه الحدة ومعي شخصياً.. شعرت كأن الأرض تهتز تحت قدمي, وتجمدت في
مكاني, أنظر إليهِ بذعر بينما هو تابع هاتفاً بغضب جنوني
" إذا
كنتِ لا ترغبين بالعيش هنا, فالطريق إلى قصر المتادور مفتوح أمامكِ.. ولكن إن
ذهبتِ سيكون المتادور بانتظاركِ, حيث سيحكم عليكِ بالموت "
تسمرت نظراتي
عليه, وقد أدركت أن لا مفر لي من هذا المصير.. رأيت خانتو يغادر السيارة, وصفع
الباب خلفهُ بقوة جعلت جسدي يرتعش.. سار بخطوات حازمة نحو باب الكوخ, وتابعت
مُراقبتي له بذعر وهو يحاول فتح الباب بصعوبة, كأن الزمن تجمد في اللحظة التي كان
يحاول فيها تجاوز صدأ الماضي الذي يغطي هذا المنزل العتيق.. وأخيراً, فتح الباب
ودخل إلى الكوخ تاركاً الباب مفتوحاً خلفه, كدعوة صامتة ومؤلمة لي للدخول..
تساقطت دموعي
بصمت, فقد كان كل شيء يحدث خارج إرادتي, لا حيلة لي في هذا المصير الذي لم يكن ضمن
حساباتي..
نزلت من
السيارة بخطوات ثقيلة, وكأن كل خطوة تأخذ جزء من روحي, ثم وقفت أمام باب الكوخ,
نظرت إليهِ برعب وقرف.. كان المكان يبدو بائسًا, الجدران المهترئة, والسقف المتصدع
الذي يتهالك تحت وطأة السنين, تجرعت الصدمة وبلعت ريقي بمرارة, ثم اندفعت بخطوات
بطيئة عبر الباب, كأنني كنتُ أدخل في كابوس..
لكن كارميتا لم
تكن تعلم ما ينتظرها داخل هذا الكوخ الذي كان يُخفي بين جدرانه قدرًا سيرسم مصيرها
الجديد..
المتادور سلفادور**
بعد انتهاء
زفاف كارميتا و خانتو, وقف سلفادور عند مدخل الكنيسة, متجنباً أن تلتقي عينيه
بجدتهِ رامونا التي كانت تقف أمامهُ, مثقلة بالحزن والخجل.. كان يعرف أنه قد جاء
الوقت لمواجهتها, لكنهُ لم يكن مستعداً للكلمات التي تتراقص على لسانه وتخنق صدره..
رامونا, أم
العشيرة.. كانت تنظر إلى حفيدها سلفادور بعينين مملوءتين بالحزن والخجل.. كانت
تعرف جيدًا أن ما حدث قد حطم شيئًا في داخله, ورغم صلابتهِ المعتادة, كانت تعلم أن
قلبهُ مُتعب..
حاول سلفادور
تفادي نظراتها, استدار ليغادر المكان, فقد كان كل ما يشغله هو الذهاب إلى المستشفى
للاطمئنان على لينيا.. لكن رامونا, بخطى مترددة, اقتربت وأمسكت بذراعه بخفة, وقالت
له بصوتٍ حزين
" سلفادور..
من فضلك, توقف.. اسمح لي بأن أتكلم معك للحظة "
رفع سلفادور
نظره إلى جدته بتلك النظرات المعاتبة التي لم تكن تجهلها, وقال بصوت ممتلئ بالحزن
والعتاب, وهو يسحب ذراعه من قبضتها
" جدتي,
لا أرغب بالتحدث الآن.. عليّ الذهاب لرؤية لينيا والاطمئنان عليها "
كانت كلماته
تحمل في طياتها الكثير من الألم, وكأن عذابات الماضي قد عادت لتعيد حساباتها معه..
بسرعة, وقبل أن
يتحرك سلفادور ويبتعد, قالت رامونا بصوت مرتعش
"
ماتادور, أنا آسفة.. أريدُك أن تسامحني.. أعلم أنني أخطأت عندما لعبت بعواطف
كارميتا وجعلتُها تُصدق أوهامًا كاذبة عنك.. لقد ظلمتُها وظلمتُك "
كانت كلماتها
تخرج كاعترافٍ موجع, تدرك فيه عمق الخطيئة التي ارتكبتها بحق حفيديها..
وقف سلفادور
للحظة, ونظر إليها بحزنٍ شديد, ثم همس لها بصوتٍ خافت
" أشكركِ
جدتي لأنكِ كنتِ صادقة واعترفتِ لي وأمام الجميع بما فعلتِه بـ كارميتا.. لكنني
الآن لا أستطيع مسامحتكِ.. ربما في يومٍ ما... ولكن ليس اليوم "
بكت رامونا
وهزت رأسها بتفهم, وقالت لهُ ببكاء هادئ
" أعلم, أنا
أعلم بأنك لن تُسامحني.. ولكن يجب أن تعرف بأنني لن أُسامح نفسي إن لم أحصل على
مسامحتك.. لكنني لن أستسلم حتى أنال تلك المسامحة "
رفعت يدها
لتلمس وجهه, كأنها تحاول أن تعيد إليه الأمان الذي سرقته منه, لكن رامونا سحبت
يدها بسرعة خوفاً من أن ترى نظرة الازدراء من حفيدها إن لمسته.. وتابعت بصوتٍ خافت
" شكراً
لك لأنك لم تقتل كارميتا "
تجمد سلفادور
في مكانه, نظر إليها بتأمل, وكأن كلماتها أصابت جرحًا عميقًا في داخله.. ردّ بحزن
وصراحة لم يخفيا عنف مشاعره
" لم أكن
سأقتل كارميتا, رغم كل ما فعلته بـ لينيا.. كنتُ أعلم أن خوان سيتدخل لإنقاذ
شقيقته, ورغم كل شيء, لم أكن لأتجاوز هذا الحد.. ففي النهاية هي ابنة عمي, وأنا
لستُ بقاتل "
كانت كلماته
بسيطة, لكنها حملت كل صدقه, كل ما يجول في قلبهِ المُتعب.. تابع بنبرة حزينة
قائلاً
" جدتي,
يبدو أنكِ لا تعرفينني حقًا, رغم أنكِ من ربتني.. لو كنتِ تعرفينني, لكنتِ عرفتِ
منذ البداية أنني لن أقتلها "
كانت تلك
الكلمات كصاعقة تهبط على رأس رامونا, تتفجر داخلها كندم مرير واعترافات كانت تخشى
مواجهتها.. لكنها لم تتمكن من قول أي شيء, فقد أدار سلفادور ظهره بسرعة وغادر دون
أن ينتبه إلى انهيار جدته, ودموعها التي سالت على خديها بحرارة الندم والألم..
ما إن وصل
سلفادور إلى المستشفى حتى اندفع بسرعة نحو غرفة العناية المركزة, قلبهُ يخفق بقلق,
ووجهه يعبّر عن خليط من التوتر والترقب.. وما أن دخل إلى الممر المؤدي إلى غرفة
العناية حتى سمع صوت خطوات سريعة خلفهُ, يرافقها صوت عجلات متحركة..
توقف لوهلة
ونظر إلى الخلف, ليجد صديقهُ ميغيل يدخل إلى الممر بسرعة, ونظراتهِ توحي بالقلق
الشديد, وخلفهُ كان خوان, يدفع كرسيه المتحرك بقوة وبعزيمة.. ساد بينهم صمت قصير, قبل أن ينظر سلفادور إلى خوان بحدة
ويقول له بصوت منخفض لكنهُ ممتلئ بالتحدي
" يمكنك
التوقف عن التمثيل أمامي, خوان.. أعلم جيداً أنكَ لستَ مُقعداً "
سمعت ميغيل
يهتف بصدمة كبيرة
" ماذا؟!
"
كانت كلماتي كطلقة
مدوية في الممر الصامت, و كالصاعقة بالنسبة لـ خوان, إذ توسعت عيناه بصدمة, وتأملني
بذهول لم يستطع إخفاءه.. رأيتهُ يبلع ريقهُ بقوة, ثم همس بصوت مليء بالحيرة
" كيف..
كيف عرفتَ ذلك؟ "
ابتسمت برقة,
تلك الابتسامة التي تحمل في طياتها شفافية وثقة, ثم أجبته وسط نظرات ميغيل
المصدومة
" الطبيب
أخبرني بذلك, بعد مرور أسبوع من استيقاظك من الغيبوبة "
أمام هذه
الحقيقة, نظر خوان أمامهُ بغيظ وكأنهُ يسعى لإخفاء مشاعره, ثم همس بحدة
" سأنتقم
من ذلك الطبيب.. بل سأقتله "
بدا وكأن كلماته
تكشف عن إحباطه وحنقه العميق, وكأن سلفادور كشف ورقةً لم يكن يتوقع أن تُكشف بهذه
السرعة..
بهدوء, اقتربت
من خوان ووضعت يدي على كتفهِ بحنان, ثم قلتُ له بنبرة تجمع بين الحزم والمودة
" لن أسمح
لك بلمس الطبيب, لأنهُ وثق بي وأخبرني بالحقيقة تحت وعد مني بحمايتهِ منك.. لقد كشف
لي السر وأخبرني كيف أجبرته على الكذب.. ولكن كُن مطمئناً, لن أُخبر أحداً بما
عرفته, لأني أعلم أنك فعلتَ ذلك لحماية أريا.. ولأنكَ شعرتَ أن هذا هو أفضل ما
يمكن فعله في تلك اللحظة لحمياتها "
كانت كلمات
سلفادور كالعزاء لـ خوان, إلا أنها لم تخلو من إحساس بالمسؤولية..
أبعدت يدي عن
كتفه, ونظرت إلى خوان قائلاً بجدية, بصوت صادق يحمل في طياته بعض العتاب
" أظن حان
الوقت.. عليكَ أن تعترف أمام الجميع بأنكَ بخير, وبأنكَ لم تُصب بأي شلل "
تنهد خوان, وفي
عينيه ظل من الحزن الذي لطالما حملهُ وحده, ثم اعترض بصوت مليء بالأسى
" سأفعل
ذلك.. ولكن ليس الآن " كانت كلماته تخرج كأنها اعتراف مرير, وكأن شيئاً في
داخله لا يزال يقاوم تلك اللحظة التي تفرض عليه كشف كل شيء..
ثم رفع خوان
بصره وبرجاء خافت يتلألأ في عينيه, تابع قائلاً
" أطلب
منكما, يا رفاق, أن تحتفظا بسري.. حتى أُقرر مواجهة الجميع, وخاصةً أريا, وأعترف
لها وللجميع أنني بخير ولم أُصب بأي شلل "
نظر إليه ميغيل
بتفهم وأومأ برأسه موافقاً, لكن في عينيه كان هناك مزيج من الحيرة والتساؤل.. أما
سلفادور قال له بجدية تامة
" أتمنى
أن لا تندم على هذا القرار.. ولكن أنا شخصياً سألتزم الصمت كما فعلت سابقاً "
دخل سلفادور
إلى غرفة الانتظار أمام غرفة العناية المركزة حيث كانت لينيا تتلقى الرعاية بها
بعد الحادث, ومعه ميغيل وخوان اللذان بدا عليهما القلق والارتباك.. وقبل أن يتمكن
سلفادور من التحدث إلى إحدى الممرضات, لمح ممرضة تخرج من غرفة لينيا على عجل,
وجهها يعكس انفعالاً متسارعاً, وكأنها تحمل أخباراً ذات أهمية..
بخطوات واثقة,
وقف سلفادور أمام تلك الممرضة, وقلبه ينبض بلهفةٍ شديدة.. سألها بقلق حقيقي وبحذر
" هل
استيقظت لينيا؟ هل هي بخير؟ "
نظرت الممرضة
إلى عينيه وقالت بابتسامة خفيفة
"
ماتادور, سنيوريتا لينيا, لقد استيقظت الآن, وهي بخير.. سأذهب لإبلاغ الطبيب
"
تملّكته سعادة
لم يستطع إخفاءها, وارتسمت على شفتيه ابتسامة تعكس راحة انتظرها طويلاً, بينما أخذ
نفساً عميقاً كأنهُ يتنفس الحياة من جديد..
وقبل أن يتمكن
ميغيل أو خوان من الاعتراض على ما يفعله, سار سلفادور دون تردد نحو باب الغرفة
وفتحه بخفة ودخل إلى غرفة العناية المركزة, ولم يكن يهمهُ أي شيء آخر سوى رؤيتها..
وقف سلفادور بصمتٍ عندما رأى السرير الأبيض وسط الغرفة, وهناك كانت لينيا, مستلقية
بوجه شاحب, عينيها متجمدتان تنظران إلى السقف بشرود, كأنها في مكان آخر بعيد عن
الواقع..
اقترب سلفادور
بخطوات هادئة, قلبه يملأه شوق غامر, ونظر إليها بنظرات عاشقة تُعبر عن كل ما في
قلبه من مشاعر لم يستطع التعبير عنها طيلة تلك الفترة.. بدت لينيا في عينيه كزهرة
ساكورا متفتحة بلطف وسط قسوة الظروف.. همس بصوت مُنخفض, كأنهُ يحييها بلقبها الذي
طالما استعملهُ لها
" ساكورا...
"
سمعت لينيا همستهُ
الرقيقة, فحركت رأسها ببطء, وعينيها المثقلة بالشرود تتجهان نحوه.. وعندما وقع
بصرها عليه, برزت الدهشة في عينيها, وتابعت النظر إليه بتعجب, وكأنها تحاول
استيعاب ما تراه.. نظراتها بدت مُرتبكة, ثم تحولت إلى دهشة حينما أدركت من يقف
أمامها, وخرجت منها همسة مرتجفة, كأنها تكتشف شيئًا من أعماق الماضي
" ماتادور...
"
شعر سلفادور
بفرحة غامرة, وكاد يقترب من السرير ليأخذ يدها بين يديه ويعترف بحبه الكبير لها..
لكن الباب انفتح بسرعة, ودخل الطبيب برفقة ثلاث ممرضات, نظر الطبيب إلى سلفادور
بصرامة وطلب منه المغادرة فورًا
"
ماتادور, لو سمحت, يجب عليك الخروج فوراً "
نظرت إلى
الطبيب بتردد, نظراتي تنقلان له بوضوح اعتراضي, بينما قلبي كان يصرخ شوقاً للبقاء
بالقرب منها, لكن تجمدت فجأة, حينما سمعت لينيا تهمس بصوت خافت يرتجف
" أين
أنا؟ ماذا أفعل هنا؟ "
هرع سلفادور
نحو السرير بسرعة, يريد الوصول إليها ليجعلها تطمئن ولا تشعر بالخوف, لكن الطبيب
قفز واعترض طريقه بيد مرفوعة, متابعاً إصراره قائلاً باحترام
" لو
سمحتَ سنيور دي غارسيا, عليك الخروج, الآن "
احتدت نظرات
سلفادور, وقبل أن يقول شيئاً, صمت الجميع فجأة, عندما سمعوا صوت لينيا يتكرر بخوف
وارتباك واضح
" أين
أنا؟ ماذا أفعل هنا؟ غداً لديّ عمل, إنهُ أول يوم دراسي في الجامعة.. ماذا حدث لي؟
ولماذا أنا هنا؟ ولماذا أرى طوريرو العظيم أمامي؟ لا بُد أنني أهلوس.. ولكن أين
أنا؟ ماذا أفعل هنا؟ غدًا هو يومي الأول في الجامعة, لدي محاضرات لطلابي "
تجمد سلفادور
في مكانه, نظر إلى لينيا بذهول, الكلمات التي نطقت بها أصابته كالصاعقة.. ارتعش
فكهُ بقوة وهمس بدهشة, كأنهُ يختبر صدى كلماته في عقله
" أول يوم
دراسي في الجامعة؟ لديها مُحاضرات!... "
كلماتها جعلت
عالمه يهتز, تلك الكلمات البسيطة كشفت عن مأساة أكبر مما تخيل.. قبل أن يستوعب
وقعها بالكامل, شعر بيد الطبيب تدفعهُ نحو الخارج.. ووسط دهشته وصدمة ميغيل ودهشة
خوان, انغلق الباب أمام وجهه, وبقي واقفًا أمامه, يتطلع إليه بجمود وذهول..
وقف سلفادور جامدًا
أمام باب غرفة العناية المركزة, وجهه شاحب وملامحه متجمدة كأنها لوحة جمدها الزمن,
عيناه عالقتان على الباب كأنهما تراقبان شيء خفيّ خلفه.. داخلهُ كان يشتعل بألمٍ
لم يكن يتوقعه, قلبهُ ينبض بعنف وكأن انفجارًا على وشك الحدوث في صدره.. كان يختنق
بنبضات متلاحقة من الخوف والحزن, منتظرًا أن يسمع صوتًا آخر من داخل الغرفة, شيئًا
يطمئنه على ساكورا..
لكن صوت لينيا,
الذي اخترق الصمت من خلف الباب, جاء كسكين في قلبه.. كان صوتها يرتعش, مشوبًا
بالخوف والقلق, تردد صدى صوتها وهي تهتف بخوف وارتباك
" لا أذكر
أنني ذهبت إلى اكستريمادورا.. أين أنا؟ ما الذي يحدث؟ "
صوتها كان
مفعمًا بالخوف والحيرة.. صوتها كان يقطّع الفؤاد..
شعر سلفادور
بالصدمة تغمره كأمواجٍ هادرة, وكأن طعنة خفية قد اخترقت أعماق روحه.. ولم يلبث حتى
سمع صوتها وهي تبكي, بكاءً يخترق السكون ويهز أركان قلبه.. سمعها بعذاب تصرخ ببكاء
داخل الغرفة, كلماتها غاصت في صدره, وكأنها سهم حاد يمزق قلبه ببطء
" لماذا
لا أتذكر أي شيء؟ لماذا لا أتذكر؟ أريدُ أمي.. أريدُ أبي.. أريدُ العودة إلى منزلي
وعملي "
كانت دموعها
كصرخة ألم تدفعهُ إلى حافة الجنون, لم يستطع احتمال سماع صوت بكائها أكثر من ذلك,
فاندفع بجنونٍ إلى داخل الغرفة, مزيج من الغضب واليأس يتأجج في عينيه.. صاح
سلفادور بصوتٍ مشحون بالغضب على الطبيب والممرضات الواقفات حولها
" ابتعدوا
عنها! " كان صوتهُ كهدير الرعد, حاملاً في نبرته كل الألم الذي يحملهُ قلبه..
اقترب من
السرير بخطوات ثابتة رغم العاصفة داخله, دفع الطبيب جانبًا دون تردد, ثم جلس بجانب
لينيا وعانقها برفق رغم قوته الواضحة.. ضمّها إلى صدره كأنها جزء منه, عيناه
تتوسلان لها أن تتذكر, أن تعود كما كانت..
نظرت إلى وجه
ساكورا التي كانت ترتجف بين ذراعي, صدمة وحيرة ترتسم في عينيها بينما كانت تنظر
إليّ, وكأنها تحاول فهم ما يحدث حولها ولكن عبثًا, فقد كانت عالقة في ضباب
الذكريات المتلاشية..
عم الصمت
الغرفة, لكن توتري كان يكفي ليملأ الجو.. الطبيب, الذي حاول الحفاظ على هدوئه,
كلمني بحذر قائلاً
"
ماتادور, يجب أن تبتعد عن المريضة, هذا ليس لمصلحتها "
نظرت إلى
الطبيب بغضب وهتفت بحدة, بنبرة تحمل
تصميمًا لا يقبل الجدال
" لن
أبتعد عنها.. لن أبتعد "
ضممتُها إلى
صدري أحاول حمايتها من الخوف الذي تشعرُ به, ولم أبتعد عنها لدقائق طويلة..
فجأة, وقفت
بسرعة, وعيني تومضان بالغضب والحيرة.. سألت الطبيب بصوت خافت يحمل مرارة كبيرة
" ماذا
حدث لها؟ لماذا لا تتذكر؟ لماذا تنسى مرحلة من حياتها؟ ما الذي حدث لها؟ ماذا تعني
بقولها بأنها لا تتذكر مجيئها إلى هنا؟ "
أجاب الطبيب
بحزنٍ متردد وهو ينظر إلى وجه المتادور المليء بالألم
" قد تكون
لينيا قد تعرضت لفقدان الذاكرة الانفصالي أو فقدان جزئي للذاكرة, حيث قد ينسى
الشخص فترات زمنية مُعينة من حياته بسبب صدمة نفسية أو جسدية, أو بسبب تعرضه
لإصابة في الرأس.. أظن بأن الضربة التي تعرضت لها سنيوريتا لينيا قد أتلفت جزء من
ذاكرتها جعلتها تنسى مرحلة معينة من حياتها "
نظرت إلى
الطبيب, وقد أصابني التوتر الذي جعلني أشعر بالضعف للحظة.. سألتهُ بسرعة بصوت خافت
مليء بالأمل
" وهل..
هل يوجد علاج؟ هل يمكن أن تستعيد ذكرياتها؟ "
لكن الطبيب هز
رأسه بحزن, وأجابني بصوت يحمل أسفاً عميقاً
" للأسف
ماتادور, لا يوجد علاج مضمون لفقدان الذاكرة من هذا النوع.. قد تستعيد ذكرياتها مع
الوقت, أو قد تبقى ضائعة في مكان ما داخل عقلها, ولا نعلم متى ستعود أو إذا كانت
ستعود "
كانت كلمات
الطبيب كطعنةٍ أخرى, شعر بها سلفادور تخترق قلبه وتزيد من ألم الجرح.. شعر بالعجز
يتملكه, وأخذ نفسًا عميقًا ليحتوي هذا الشعور الجارف بالألم, ثم استدار ببطء ونظر
إلى لينيا بحزن, وعيناه تغمرها دموع مُحتجزة.. همس بصوتٍ مكسور يمتلئ حرقة
" أنا آسف..
آسف جدًا, لينيا "
لم يتحمل
المتادور البقاء لحظة أخرى قبل أن ينكشف ضعفهُ أمامها, فأسرع خارج الغرفة, خطواته
ثقيلة تتهادى كأنها تحمل أوزار الألم..
وعند وصوله إلى
الباب, توقف لوهلة, ودون أن يلتفت, غادر وهو يُخفي دموعه التي بدأت تفيض, ليبكي
بصمت بعيدًا عن عينيها المندهشتين وعن نظرات الطبيب والممرضات اللواتي وقفن في
ذهول, ليرحل وقد حمل قلبه وجعًا يصعب تجاوزه..
خوان**
بينما كان خوان
ينتظر في الممر خارج غرفة العناية المركزة, رأى سلفادور يخرج من الغرفة ودموعهُ
تنساب على وجهه رغمًا عنه, وجههُ شاحب وملامحهُ متصلبة كأنها تحمل ثقلاً لا
يُحتمل.. كان خوان يراقبهُ بدهشةٍ كبيرة من كرسيه المتحرك, لم يكن يتوقع أن يرى
ابن عمه الذي طالما عُرف بقوته وصموده يبكي بهذه الطريقة, كان المنظر صادمًا له..
بصوت يحمل كل
القلق, هتف خوان باسم ابن عمه
"
سلفادور! "
ثم وقف عن
كرسيه بعزم وركض برفقة ميغيل باتجاهه, متجاهلًا أن يراه أحد ويكشف سره.. وقف أمام
المتادور ونظر إليه بقلقٍ لا يخفى..
رأيت الحزن في
عيني سلفادور وهو يمسح دموعه سريعًا, يحاول أن يُخفي ضعفهُ أمامنا, لكن أثر البكاء
كان واضحًا كأن العواصف قد اجتاحت روحه.. بقلقٍ لم أستطع كتمانه, سألت سلفادور
بتوتر
" هل
لينيا بخير؟
نظر سلفادور
إلى خوان بألمٍ عميق, وهمس بغصة لا يستطيع كبحها
" لينيا
فقدت ذاكرتها… لا تتذكر شيئًا عني, بل تظن أن غدًا هو أول يوم عمل لها في الجامعة
"
كانت الكلمات
كالخناجر تخترق قلبه, وصدى صوته يملأ الممرات كأنهُ صدى ضائع في الهواء.. نظر خوان
و ميغيل إليه بدهشةٍ كبيرة, غير قادرين على استيعاب الصدمة التي أصابت ابن عمهما
القوي المتادور, وما حدث مع البروفيسورة الجميلة..
اتسعت عينا
خوان و ميغيل دهشة, لم يتوقعا هذا الرد.. شاهداه وهو يبتعد عنهما, خطواته متثاقلة
وكأن الأرض نفسها تقيده, ثم غادر المستشفى مسرعًا دون أن ينظر خلفه..
وقف ميغيل أمامي,
وسألني بقلق
" هل يجب
أن نتبعه؟ "
أجبتهُ بتنهيدةٍ
عميقة وبحزن
" دعنا
نتركهُ وحدهُ قليلاً… يحتاج إلى وقت للتفكير "
غادر خوان
وميغيل معًا المستشفى, وكل منهما يحمل في قلبه ثقلًا يشاركه مع الآخر.. وعندما عاد
خوان إلى قصر المتادور, اتجه مباشرة إلى المصعد, وعبر الطوابق وهو جالس على كرسيه
المتحرك حتى وصل إلى غرفته..
عندما دخل
الغرفة, توقفت عيناه بدهشة كبيرة على المشهد الذي أمامه.. أريا, زهرة القمر, كانت
نائمة على سريره, ملامحها الهادئة تعكس جمالًا خفيًا كأنها جزء من حلم..
رمش خوان بقوة,
كأنه لا يصدق ما يراه, ظنًا منه أن عينيه تخدعانه.. اقترب ببطء وهو يدفع كرسيه
المتحرك حتى وقف بجانب السرير, ثم مد يده ليمسك يد أريا بلطف, وأخذ يتأمل وجهها
وهي نائمة, بعاطفة وإعجاب لا يستطيع إخفاءه.. راقبها بصمت بينما كان يمسك يدها, كانت
دافئة بين أصابعه, وكأنهُ وجد شيئًا يفتقده منذ زمن..
ظل خوان يحدق
في ملامح زوجته بهدوء, عينيه تلمعان بإعجاب عميق لا يفهمه تمامًا أو ربما لا يريد
الاعتراف به لنفسه.. كانت مشاعر الحب تنمو داخله كزهرة لم تفتح أوراقها بعد.. بعد
وقتٍ طويل, تنهد بعمق, وحرر يدها بلطف, ثم أمسك بهاتفه واتصل برئيس حراسه في
الكازينو, وأعطاه توجيهات سريعة قائلاً
" اهتم
بضيفنا في القبو لحين عودة خانتو من شهر العسل "
أنهيت المكالمة
وتنهدت بخفة, حركت الكُرسي المُتحرك باتجاه الحمام, وعندما دخلته, وقفت عن الكُرسي
وبدأت بخلع ملابسي ببطء وهدوء استعدادًا للاستحمام, تاركًا تلك الأفكار تتجول في ذهني..
فجأة، سمعت صوت
أريا تهتف باسمي من الخارج بقلق
" خوان! أنتَ
بخير؟ "
وفي حركة سريعة,
حاولت العودة إلى الكرسي المتحرك بينما كنتُ أخلع سروالي, لكن تعثرت وسقطت على
الأرض بقوة..
" تباً..
هذا مؤلم "
همست بألم بتلك
الكلمات, وحاولت الجلوس.. ولكن تجمدت في مكاني عندما سمعت أريا تصرخ بذعر لأنها
سمعت صوت سقوطي.. رأيتُها تدخل إلى الحمام بسرعة وهي تهتف بخوف
" خوان,
ماذا حدث؟ أنتَ بخير؟ "
رأيتُها تقف
أمامي بينما وجهها يشع بالخوف, اقتربت بسرعة تجثو على ركبتيها بجانبي وهي تهتف
بقلق
" لماذا
لم تطلب مساعدتي؟ لماذا تحاول القيام بكل شيء وحدك؟ هل تأذيت؟ "
نظرت إليها
بدهشة, كأنني لا أُصدق وجودها بجانبي في هذه اللحظة وخوفها الواضح عليّ.. كانت تعابير
وجهها الجميل مليئة بالحنان والقلق, وكأن مشاعرها تجاهي تنكشف لي للمرة الأولى..
نظرت إليها
بحنان وأجبتُها برقة
" أنا
بخير, زهرة القمر "
تأملتني أريا
بنظرات وكأنها لم تُصدق كلامي.. تنهدت بقوة وقالت بحزن وبتأنيب واضح
" أنتَ
دائماً مُتسرع بتصرفاتك.. لماذا لم تطلب مني مُساعدتك؟... في غياب خانتو أستطيع
مُساعدتك إن أردت "
ساعدتني أريا
برفق لأجلس على الكُرسي, وقد استخدمت قليلًا من قوة عضلات جسدي وذراعي لأُخفف عنها
ثقلي دونَ أن تُلاحظ ذلك..
عندما جلست
أخيرًا على الكُرسي, نظرت إلى أريا بصدمة عميقة عندما رأيتُها تبكي وهي تتأملني
بخوفٍ شديد, وسألتني بلهجةٍ مكسورة
" أنتَ
متأكد بأنكَ بخير؟ لم تُصب بأي أذى؟ "
تجمدت نظراتي
على وجهها, وعيني تحملان حزنًا ودهشة وعاطفة كبيرة..
بلعت ريقي
برقة, وهمست بصوت دافئ وحنون
" زهرة
القمر, لماذا تبكين؟ "
تجمدت نظراتها عليّ,
وترددت للحظة قبل أن تهمس بصوت رقيق
" لأنني
شعرت بالخوف عليك "
توسعت عيناي
ونظرت إلى أريا بصدمة كبيرة..
" إلهي...
"
همست بصدمة
كبيرة بتلك الكلمة, إذ في هذه اللحظة, عرفت.. لقد عرفت حقيقة مشاعري نحو أريا..
أغمضت عيني
بشدة, ولأول مرة في حياتي شعرت بأن هناك دموعًا تتسلل من عيني أمام أحد.. أدركت
بقوةٍ لا تقبل الشك أنني أعشقُها, بل أعشقُها بجنون لا يمكن السيطرة عليه..
لأول مرة في حياتي
تنساب دموعي بحرارة, دون أن أُحاول منعها.. وفي هذه اللحظة, اعترفت لنفسي أخيرًا أنني
أعشق أريا.. أعشقُها بجنون, ولم أعُد أستطيع إنكار هذه الحقيقة..
عندما رأته
أريا يبكي, هتفت بخوف عميق, وصوتها يرتجف
" خوان,
هل أنتَ بخير؟ هل هناك ما يؤلمك؟ "
كانت تنظر إليه
بقلق وخوف, وعيناها تمتلئان بالدموع التي تتدفق بلا توقف, ووضعت كلتا يديها على
وجنتيه لتتحقق مما يحدث له, تسأله برقة وذعر
" لماذا
تبكي؟ "
رفع خوان يديه
وأمسك بيديها, ثم أبعدهما عن وجنتيه قليلًا, وقبلهما برقة على ظهر كل كف, كأن تلك
القبلة البسيطة هي أصدق ما يمكنهُ أن يهديها.. ثم ابتسم بحنان, وهمس بصوت دافئ
ومطمئن
" لا
تقلقي.. فقط دخل شيء في عيني, لا شيء أكثر "
نظرت إليه أريا
بعيون متسعة, وجهها يشع بالخجل, وسحبت يديها من بين يديه برفق, تحدق به بنظرة غير
مصدقة, وكأنها تحاول فهم ما يحدث.. رفع خوان يدهُ برقة, ومسح دموعها ببطء, ثم قال
بصدق وعينيه تحملان لطفًا نادرًا
" لا أُحب
رؤية دموعكِ, زهرة القمر.. دموعكِ تجعلني أشعر بالحزن "
تجمدت أريا
مكانها, تُحدق إليه بدهشة, ثم توقفت عن البكاء ببطء, واستعادت بعضًا من هدوئها..
نهضت بسرعة, وقالت لهُ بارتباك ظاهر
" هل
ترغب.. هل ترغب أن أساعدك لتستحم؟ "
تأمل خوان
عرضها السخي, وذكّر نفسهُ بأنهُ لو كان في وقت سابق, لم يكن سيتردد للحظة في قبول
مساعدتها, وربما حتى كان يستغل الفرصة ليكون قريبًا منها ويمارس معها الحُب.. لكنهُ
الآن, بعد أن اكتشف مشاعرهُ تجاهها واعترف لنفسه بحبهِ لها, شعر برغبة حقيقية في
أن يبقى وحده, ليستجمع أفكاره ويتأمل ما يشعر به حقًا..
تنهدت بقوة,
وأجبتُها بلطف وحنان
" لا, لا
تقلقي عليّ, زهرة القمر.. أستطيع الاستحمام بمفردي, اذهبي ونامي.. لا داعي لأن
تقلقي عليّ "
ترددت أريا
للحظة, لكنها أومأت برأسها, وابتعدت ببطء، وأغلقت الباب خلفها برفق..
بمجرد أن أصبح
وحده, تنهد خوان بعمق, وكأن كل ما في داخله من ألم وندم كان يبحث عن منفذ للخروج..
أغمض عينيه, وهمس لنفسه بألم
" كيف
يمكن لزهرة القمر أن تُحبني بعد كل ما فعلتهُ بها؟ "
تسللت الدموع
مجددًا إلى عينيه, دموع ندم صامتة تتدفق بهدوء, لكنها تحمل في طياتها كل ما يحملهُ
قلبه من أسى على الأذى الذي سببهُ للمرأة
التي أصبحت كل شيء بالنسبة له, المرأة التي يُحبها بصدق..
بكى خوان بحرقة
وألم, وهو يشعر وكأن تلك الدموع تروي أعماق روحه الجريحة, وكل دمعة تُذكرهُ
باللحظات التي تسبب فيها بألمها, لحظات كان فيها قاسيًا ووحشاً عنيفاً غير مُكترث
بمشاعرها..
عرف الآن بصدق
أن أريا, زهرة القمر, كانت شخصًا يستحق الحب والاحترام, وأنه رغم كل شيء, كانت في
قلبه منذ البداية.. لكنهُ أدرك بغصة مؤلمة, أن حُبها له قد يكون مستحيلًا, وأنه
ربما قد فقد فرصتهِ معها للأبد, وأن الألم الذي جلبهُ إلى حياتها قد يكون حاجزًا
لا يمكن تجاوزه, مهما فعل...
بعدما أنهى
خوان استحمامه وخرج من الحمام, وقع بصرهُ على السرير حيث كانت أريا نائمة بسلام,
وكأنها زهرة مُتفتحة تحت ضوء القمر.. قاد كرسيه المتحرك بصمت حتى أصبح قرب السرير,
ثم رفع جسده مستخدماً قوته ليتسلل برفق بجانبها..
للحظة, تأمل
وجهها الهادئ بشغف وسعادة عارمة, ثم ابتسم برفق وهمس لها بمرح, بنبرة دافئة
" أعرف
أنكِ مستيقظة, زهرة القمر "
تحركت أريا
بسرعة وجلست بارتباك, وسقط الغطاء عن جسدها, لتنكشف أمامهُ بثوب النوم الحريري
المثير الأحمر الذي كانت ترتديه.. تجمدت نظرات خوان عليها, وشرد عميقاً في
تفاصيلها, إذ بدت أمامه كأنها قطعة من السماء تلامس الأرض, وجمالها أشعل فيه رغبة
عارمة كان يُكافح بصعوبة لاحتوائها..
لكن أريا لم
تنتبه لنظراته العميقة والعاشقة, غافلة عن أثر إطلالتها عليه, بل نظرت إليه بقلق
وعتاب, وهتفت بغضب دافئ
" لماذا
لم تسمح لي بمساعدتك, خوان؟ ماذا لو تأذيت؟ "
ابتلع خوان
ريقه بصعوبة, محاولًا السيطرة على قلبه المتلهف وعلى عقله الذي يأمره بالاحتفاظ
بهدوئه, رغم أن رغبته كانت تدفعهُ للتقرب منها واحتضانها بقوة وممارسة الحُب معها بجنون,
ليغمرها بحبه المكبوت.. أجابها بصوت مرتعش من الرغبة, قائلاً
" أنا
بخير, لا داعي للقلق "
ساد الصمت
بينهما لوهلة, وكأنهما يتبادلان أفكارًا ومشاعر صامتة من خلال نظراتهما.. فجأة,
كسرت أريا حاجز الصمت وسألته بحزن
" لماذا
لم تُساعد شقيقتك كارميتا عندما رفع سلفادور المسدس نحو رأسها؟ كيف استطعتَ الصمت
في تلك اللحظة؟ "
تبدلت ملامح
خوان, وابتسم بصدق, وغمغم بصوت خافت
" لأني
كنتُ أعرف جيداً أن سلفادور لن يقتلها "
نظرت إليّ أريا
بذهول, عيناها تلمعان بدهشة كبيرة, وقالت معترضة
" لكنهُ
كان جادًا, خوان! لقد أطلق النار بجانب رأسها في جناح أم العشيرة, كان واضحًا أنه
كان على وشك قتلها "
أجبتُها بثقة
تامة, وعيني تعكسان قناعة عميقة
" سلفادور
فعل ذلك فقط ليجعلها تندم, ليُخيفها ويردعها عن أفعالها.. هو لا يريد أذية أحد,
لكنهُ أراد حماية لينيا من مُحاولات كارميتا المستمرة لإيذائها.. كان يعرف أن
الطريقة الوحيدة لجعلها تتوقف هي أن تخاف عواقب أفعالها "
ثم تابعت حديثي
قائلاً بنبرة صادقة وحنونة
" سلفادور
رجل نبيل, ولديه قلب حنون.. بالرغم من كل ما يمر به, فهو يحمل مسؤولية الجميع على
عاتقه بحب وصدق.. هو يتمتع بكرامة وشجاعة تجعلهُ مستعداً لفعل أي شيء من أجل من
يحبهم.. هو لن يؤذي أحدًا إلا إذا كان مضطرًا.. واليوم فعل كل ذلك ليجعل كارميتا
تدرك حجم خطأها "
ثبتت أريا
نظراتها على وجهي, وقد بدأت أفكارها تتبدل تجاه سلفادور, واكتسبت ملامح وجهها
تعبيرًا مزيجاً من الفهم والإعجاب..
ابتسمت برقة
وتابعت وصفي لـ سلفادور قائلاً
" إنه رجل
عادل.. يعرف جيداً كيف يحمي من يحبهم دون أن يفقد رحمته أو إنسانيته "
شعرت أريا
بكلماته تتسرب إلى أعماقها, وكأنها ترى سلفادور من منظور جديد, وأحست بالاحترام
والاعتزاز يملآن قلبها تجاهه وتجاه خوان الذي كان يعكس بأفعاله صدقًا نادرًا
وعاطفة صادقة..
ساد صمت ثقيل
وجميل بين خوان و أريا, تبادلت عيناهما نظرات مطولة مشحونة بأحاسيس مكبوتة, تحمل
في طياتها مشاعر مُعقدة, لم يتمكن أي منهما من التعبير عنها بالكلمات, وأخذ كل
منهما يقرأ ملامح الآخر بصمت متوتر..
اقترب خوان
ببطء, محاولًا كسر الحاجز الصامت بينهما, كانت عيناه تتألقان بحنان, وبلمحة من
جرأة, ونظراته تتسللان بشوق نحو شفتيها, وكأنهُ على وشك أن يلثمها.. وعندما اقتربت
شفتاه من شفتيها, انتفضت أريا فجأة, وابتعدت بسرعة عنه, ثم هتفت بتوتر وغضب
" ماذا
تفعل؟! هل جُننت؟ "
ظهرت خيبة
الأمل وعلامات الحزن على وجه خوان, كطفل صغير فقد لعبتهُ المفضلة.. حرك رأسهُ بأسى
وقال ببساطة
" كنتُ
فقط أرغب في تقبيلك "
توسعت عينا
أريا بصدمة, وهي تهتف بغضب وتوبيخ
" أنتَ
مُنحرف! "
ثم استدارت
بسرعة، ونامت على جنبها وهي ترفع الغطاء على جسدها, كأنها تضع حاجزًا بينهما..
همس خوان
بمرارة
" لكن..
أنتِ زوجتي "
تجمدت أريا
للحظة, ثم دون أن تنظر إليه أجابته بصوت خافت يحمل في طياته الغضب المكتوم
" أنا
زوجتك على الورق فقط.. من الأفضل لك أن تنام الآن وتتوقف عن إزعاجي "
وغرقت بعدها في
صمت, تاركة خوان وحيداً في تأملاته وأحزانه..
مضى أسبوع كامل
بعد تلك الليلة, وقد شغلت الأجواء مشاعر متوترة مختلطة بالرغبات المترددة بينهما..
وفي هذا الصباح الباكر كان خوان يجلس مع جدتهِ رامونا في غرفة الطعام, يتناول وجبة
الفطور بصمت, حينما قطع الهدوء صوت بوق سيارة يتردد من أمام القصر..
فجأة, ابتسمت
أم العشيرة وهي تهتف بسعادة
" أخيرًا,
وصلت! "
توقفت عن تناول
طعامي, ونظرت إلى جدتي بذهول, ثم سألتُها بينما كنتُ أرى جدتي تقف بسرعة وعلى وشك
المغادرة
" من هي
التي وصلت؟ "
نظرت جدتي إليّ
وقالت بسعادة غامرة
" لينيا
هارفين قد وصلت الآن إلى القصر, وسأذهب بنفسي لاستقبالها "
تبدلت ملامح وجهي
للحزن, وأجبتُها بلطف
" لكن لا
تنسي يا جدتي, لينيا فقدت جزءًا من ذاكرتها, هي لا تتذكركِ "
ابتسمت جدتي
بحكمة وقالت
" هذا
أفضل! الآن ستتعرف لينيا على الجميع بطريقة جديدة, وربما تقع في حب سلفادور من
جديد "
ثم خرجت رامونا
من الغرفة وهي تهتف للخدم في القصر, وتأمرهم بالاستعداد لاستقبال الضيفة, وخرجت
إلى ساحة القصر الكبيرة حيث كان الخدم يتجمعون حولها..
وقف خوان عن
كرسيه المتحرك, واقترب من النافذة, يشاهد المشهد من خلف الستائر.. رأى جدته تخرج
من القصر مع حشد كبير من الخدم, وفي نفس الوقت شاهد سلفادور يُساعد لينيا لتترجل
من السيارة.. كانت نظراته تراقب لينيا بترقب, محاولًا التقاط ردود فعلها ورؤية أي
إشارة تدل على حالتها..
تابع خوان
بتمعن, راصداً ردة فعل لينيا وهي تنظر إلى جدته بابتسامة فاترة..
رفع خوان يدهُ
نحو رأسه, ثم مرر أصابعهُ برقة على جبينه مُفكراً بعمق, ثم ابتسم بوسع وهمس لنفسه
" من
الجيد أن أريا خرجت لتتسوق مع أشقائها "
بعدها عاد
ليجلس على كرسيه, وأكمل تناول طعامه بهدوء, بينما يدور في ذهنه مُخطط ما ليتأكد من
أمر يشك فيه..
عند الظهيرة,
كان خوان في مكتبه الخاص داخل القصر, يضع خطته قيد التنفيذ.. رفع سماعة الهاتف
وطلب من رئيس الخدم أن يذهب إلى غرفة سنيوريتا لينيا ويخبرها بأن ابن عم
المتادور يرغب برؤيتها.. وأضاف بلهجة تحمل في طياتها انتظارًا نافد الصبر
" أخبرها بأنني
أرغب برؤيتها ومُقابلتها هنا لأمر ضروري "
انتظر خوان
بلهفة, والتوتر كان يتسلل إلى داخله.. وعندما سمع طرقًا على الباب, هتف بسرعة
" تفضلي
"
عندما دخلت
لينيا إلى المكتب, كانت ملامحها هادئة, متجمدة بلا تعبير, كأنها تحاول إخفاء
أفكارها..
عندما أغلقت
الباب خلفها, ابتسمت بوسع ووقفت واقتربت منها, رفعت يدي لمُصافحتها, قائلاً بلطف
" الحمد
لله على سلامتكِ, بروفيسورة "
راقبت كيف
تجمدت ملامح وجهها, وكيف نظرت لينيا إلى وجهي بذهول ثم إلى قدمي, وكأنها لا تصدق
ما ترى عينيها.. ثم همست بصدمة وهي ترفع نظراتها ببطء إلى عيني
" أنتَ..
لستَ مقعدًا؟! "
ابتسمت بوسع,
وأجبتُها بهدوء, بنظرة خبيثة لم أستطع تفاديها
" كنتُ
أعلم بأنكِ لم تفقدي ذاكرتكِ, سنيوريتا "
بدت الصدمة على
ملامح لينيا, وقد اكتشفت بوضوح أن خوان كشف خدعتها بأسلوبه الهادئ.. وأدركت أن
سرها انكشف الآن أمام الرجل الذي لم يكن سهلًا أبدًا..
أنتظر تعليقاتكم الجميلة