لهيب الغضب
العودة إلى الماضي**
خوان دي غارسيا**
بعد مرور خمسة أيام على حادثة إطلاق النار*
استيقظ خوان فجأة وهو يشعر بالثقل في رأسه وبألمٍ شديد يجتاح كل أنحاء جسده,
وكأن كل عضلة وكل عظم في جسده يصرخ من الألم, وكأن جسدهُ ممزق من الداخل.. كانت
أنفاسهُ ثقيلة, والشعور بالوهن والخدر يسري في أطرافه..
فتح عينيه ببطء, جاهدًا في محاربة الدوار الذي كان يُسيطر عليه.. المكان حولهُ
بدا غريبًا, جدران الغرفة بيضاء ناصعة, مغطاة بهدوء مُطبق, وكأن هذا السكون يُخفي
شيئًا خلفه.. كان الهواء باردًا ورائحة المُعقمات قوية, وفي الخلفية كان يسمع صوت
أجهزة غريبة تصدر إشارات متقطعة ومنتظمة..
كانت عيناه لا تزالان مشوشتين, ولكن ما لبث أن بدأ يستوعب ما يُحيط به,
تنقلت نظراته بدهشة وذهول على المعدات الطبية التي تحيط بالسرير.. هذه الأجهزة
كانت تُصدر أصواتاً رتيبة وغريبة, تخبره بطريقة ما أنهُ لا يزال على قيد الحياة.. شاشة
تعرض نبضات قلبه, أنابيب مغذية وسوائل تخرج من أكياس معلقة, وأسلاك متصلة بجسده..
رأى أسلاكًا ملتصقة بصدره, وأخرى تمتد إلى يديه وخصره, وكأنها تربطهُ بالحياة بشكل
ميكانيكي.. مما زاد من شعوره بالعجز والرهبة والارتباك..
حاول أن يرفع رأسهُ قليلاً, أن يجلس ولو ببطء, لكن الألم في بطنه كان لا
يُحتمل.. شعر وكأن نارًا مُشتعلة تمتد من خصره حتى ظهره, لدرجة جعلته يتوقف فورًا
عن محاولة الحركة, ليغرق مرة أخرى على السرير..
حاول خوان مرة أخرى التحرك ليجلس, لكن الألم كان كالسيف الذي يخترق بطنه,
يمتد إلى خصره وظهره, ليشعر وكأنهُ أسير لجسدهِ المتألم..
في هذه اللحظة, انفتح باب الغرفة ودخل الطبيب مُسرعاً.. كان يبدو شابًا
وعلى وجهه ملامح جادة وهادئة, ولكن ظهرت سعادة واضحة على وجهه لدى رؤيتهِ لـ خوان
مستيقظًا.. هتف الطبيب بفرح وهو يقترب من السرير
" سنيور خوان, أنتَ مستيقظ! الحمد لله "
لكن علامات القلق ظهرت على وجهه عندما رأى خوان يحاول الجلوس.. اقترب بسرعة
ليساعد خوان على الاستلقاء مجددًا, قائلاً له بنبرة حازمة
" من فضلك, لا تتحرك سنيور.. لقد تعرضتَ لإصابة بالغة في خصرِك, وأي
حركة منك قد تُسبب لكَ المزيد من الضرر وتؤذيك "
وجه خوان كان مشوبًا بالتعب, لكنهُ لم يستطع إخفاء الألم المتصاعد في صدره..
بعد لحظة من الاستراحة, نظر خوان إلى الطبيب بنظرة متوترة, سريعة, وكأن شيئًا
يطارده في ذاكرته..
حدق خوان بالطبيب بنظرات مليئة بالألم والقلق.. ورغم أنهُ يشعر بالثقل في
لسانه لكنهُ لم يستطع كبح السؤال الذي يلتهم قلبه.. إذ سأل الطبيب بسرعة, صوتهُ
كان مليئًا بالقلق وكأنهُ لم يهتم بحاله بقدر ما كان يفكر بشخص آخر, وعيناه
الواسعتان تبحثان عن إجابة واضحة
" أين هي أريا؟ "
تجمد الطبيب للحظة, ونظر إلى خوان بدهشة.. ثم رفع حاجبيه وقال بهدوء
" أريا؟ لا أعرف من تكون.. لم تحضر أي امرأة تدعى أريا إلى هنا.. أم
العشيرة, السنيورا رامونا, وشقيقتك ورئيس حُراسك لم يغادروا المستشفى منذ دخولكَ
إليها.. وطبعا ماتادور سلفادور, يأتي معظم الوقت للاطمئنان عليك.. لكن لم تحضر أي
امرأة تُدعى أريا لزيارتكَ سنيور "
ازدادت حيرة خوان وقلقه, وأخذ الألم يتصاعد في داخله, وكان التوتر يزداد في
قلبه.. لم يكن الطبيب يعلم من هي أريا, وهذا ليس بالشيء الجيد, لكن خوان لم يستطع
تجاهل قلقه.. حدق في السقف للحظات قبل أن يلتقط أنفاسه ويطرح سؤاله التالي بصوت
متعب لكنهُ مُفعم بالحيرة
" ما الذي حدث لي؟ وكم من الوقت مضى منذ أن كنتُ هنا؟ "
كنتُ فعلاً قد تذكرت كل شيء, كيف زهرة القمر أطلقت النار عليّ, ولكن بعدها
لا أتذكر أي شيء, وما قد حصل معي ومع أريا..
تنفس الطبيب بعمق ثم نظرَ إليّ بجدية وبدأ يتحدث بهدوء
" سنيور, لقد تعرضتَ لإصابة خطيرة.. أصابتكَ رصاصة في خصرك وكان
الجُرح عميق وخطير جدا, مما أدى إلى نزيف داخلي.. تم إسعافك بسرعة إلى المستشفى,
وأجرينا لك عملية طارئة.. كانت حالتك حرجة في البداية, لقد كنتَ في غيبوبة لمدة
خمسة أيام, ولكن حالتك بدأت تتحسن الآن, لقد تجاوزتَ المرحلة الصعبة "
كلمات الطبيب كانت ثقيلة على أذناي.. خمسة أيام! خمس ليالٍ وأنا غائب عن
الوعي.. هذا وقت طويل جداً.. خمسة أيام وأنا عالق بين الحياة والموت, وعقلي لا
يتوقف عن التفكير في أريا, زهرة القمر التي لا تُفارقني..
طغى عليّ شعور بالقلق العميق.. ما الذي حدث خلال تلك الفترة؟ أين هي أريا؟
ماذا حدث لها؟ هل سلفادور وجدتي قد فعلوا شيئًا بها؟... الألم في خصري لم يكن
شيئًا مقارنة بالألم الذي يعتصر قلبي في هذه اللحظة..
نظر خوان إلى الطبيب بجدية, ونظراته اشتدت أكثر عندما خرج صوته على نحو
قاطع وهو يوجه أمراً للطبيب وكأنهُ لا يحتمل الانتظار
" أريد أن أرى رئيس حُراسي, خانتو... أريد أن أراه أولاً, ثم بعده
جدتي و سلفادور.. لكن خانتو, أدخلهُ الآن.. أريد رؤيتهُ فورًا.. هل كلامي واضح؟
"
تأملني الطبيب بوجهٍ جاد, عينيه تُظهران مزيجاً من القلق والاحترافية.. وقال
بنبرة حاول أن يجعلها هادئة قدر المستطاع
" سنيور خوان, أُفضّل ألا ترى أي زائر حالياً.. وضعكَ الصحي ما زال
حساساً, وأنتَ بحاجة إلى الراحة أكثر من أي شيء آخر "
فتح خوان عينيه على وسعهما, كانت عيناه تشتعلان بالغضب والكبرياء.. حدّق
مباشرة في وجه الطبيب, صمتهُ في البداية كان أثقل من الكلمات, ثم همس بحدة وبنبرة مغرورة
تكاد تكون قاطعة كالسكين
" تُفضل!.. أنتَ تُفضل؟!.. لا يحق لك أن تأمرني بأي شيء.. أنا من
يُقرّر هنا, وليس أنت "
ارتعشت يد الطبيب وهو يحاول أن يُحافظ على رباطة جأشه, لكن عينيه كشفتا عن
خوفٍ لم يستطع إخفاءه.. شعرَ بأن الغضب يتصاعد من خوان كعاصفة لا يستطيع إيقافها..
تابع خوان كلامه, صوتهُ أصبح أكثر صرامة, وكأنّ قوتهُ الداخلية قد عادت
إليه رغم حالته
" ستُنفّذ ما أطلبهُ منك, وفوراً.. أريد أن أرى خانتو يدخل إلى هنا
أولاً, ثم تأتي جدتي و المتادور.. لكن خانتو أولاً.. هذا أمر.. هيا تحرك ونفذ ما
أمرتُك به "
انحنى الطبيب قليلاً, محاولاً امتصاص الغضب الذي كان يطغى على الجو في
الغرفة.. نظر إلى خوان بتوتر وقال بصوتٍ مُنخفض وبخوف
" أنــ... أنا آسف, سنيور خوان.. لم أكن أقصد... سأُحضرهُ فوراً
"
تراجع الطبيب بخطواته المُرتعشة, شعور بالعجز يملأ صدره.. انحنى بخفة وخرج
من الغرفة, مرتعباً من أن يتسبّب بالمزيد من الاحتكاك ويُشعل أكثر غضب خوان الذي
كان كبركان جاهز للانفجار..
ترك الغرفة بهدوء, تاركاً خلفهُ خوان يراقب ببرود, عيناه مليئتان بالغضب
والسلطة, وكأنهُ كان يتحكّم بكل شيء من على فراش المرض..
نظرت باتجاه الباب, وهمست بسخط وبسخرية
" أُفضّل!.. قال لي أُفضّل!.. هذا الطبيب محظوظ جداً لأنني لم أقتله
"
رغم الغضب الذي كان يشتعل في جسد خوان, إلا أن ذهنه كان في مكان آخر.. إذ عاد
خوان إلى دوامة أفكاره المُظلمة.. كان قلقه على أريا ينهش روحه..
" ما الذي فعلوه بها؟ ماذا فعلوا بزهرة القمر خاصتي؟ "
همس بتلك الكلمات بقلق.. كان هذا السؤال يتردد في ذهنه بلا توقف.. كان يعلم
أن سلفادور وجدته لن يتركا الأمور تمر بسلام بعد الحادث.. كانت أريا دائمًا مثل
زهرة القمر, جميلة, هشة, لكن قوية في نفس الوقت..
كان يعرف أن سلفادور عندما يغضب لا يرحم.. أريا لم تكن مجرد زهرة القمر, بل
كانت المفتاح لكل شيء له.. بدأ خوان يتساءل إن كانت أريا قد تعرضت للأذى بسببه,
ربما كانت في خطر بسببه.. هل سلفادور حكمَ أريا أمام رجال العشيرة؟!.. الأفكار هذه
كانت تغلي في عقله, والقلق ينهش قلبه.. كان يعلم أن عليه التصرف بسرعة.. عليه
حماية أريا بأي ثمن..
كانت الغرفة هادئة إلا من صوت الأجهزة الطبية التي تصدر إشاراتها المتقطعة,
بينما استلقى خوان على السرير, عينيه مثبتتين على السقف.. شعور الألم يتردد في
جسده, لكنه لم يكن يشعر بشيء سوى القلق على أريا.. كان ينتظر بصمت, ينتظر معرفة حقيقة
ما حدث معها.. ثم فجأة, انفتح باب الغرفة ببطء..
انفتح باب غرفة العناية بهدوء, دخل خانتو بسرعة, عينيه متسعتين بفرحة غير
مخفية
" خوان! "
هتف بصوت يملأه الارتياح باسم صديقه.. ولكن خانتو دخل بخطوات سريعة متجهًا
مباشرة نحو السرير.. وجهه كان يعكس مزيجًا من القلق والفرح, لم يستطع الانتظار
أكثر, ركض واقترب من خوان وهو يهمس بتنهيدة راحة
" خوان, الحمد لله أنك بخير! "
ثم انحنى بحذر شديد ليعانق صديقه, غير راغب في زيادة الألم الذي كان يعرف
أن خوان يعانيه, ولكنه لم يستطع منع نفسه من هذا التعبير الصادق عن الفرح..
همس خانتو بسعادة, صوته يرتعش قليلاً
" أنا سعيد جدًا لأنك بخير, يا صديقي.. لقد جعلتنا جميعًا نقلق
عليك... الجميع هنا لم يغمض لهم جفن بسببك "
أغمض خوان عينيه للحظة, مستمتعًا بدفء صداقة خانتو.. ورغم الألم الذي كان
يسري في جسده, رفع ذراعه اليمنى ببطء وحذر وربتَ على كتف خانتو برفق, وهمس قائلا
" أنا بخير, لا تقلق "
ابتعد خانتو قليلاً لينظر في وجه خوان مباشرة, وكان من الواضح أن الراحة
بدأت تستقر في قلبه بعد أن رأى صديقهُ مستيقظًا.. لكن سرعان ما تجمدت ملامحهُ
عندما عاد عقله إلى السؤال الأكثر إلحاحًا.. فسأل صديقهُ بجدية, بصوت هادئ لكنهُ
مشوب بالتوتر
" خوان... هل تتذكر ما حدث؟ "
نظرت إلى خانتو, ثم ابتسمت بخفة, وكأن العبء الذي يحملهُ قلبي لم يعد يثقل
عليه بقدر ما كنتُ أظن.. وأجبتهُ بهدوء تام
" هل تقصد إن كنتُ أتذكر كيف أطلقت أريا النار علي؟ "
ضحك خوان بخفة رغم الألم الذي كان يشعر به في جسده وخاصةً في خصره, وكأن
ذكرى الحادثة لم تفقده حس السخرية, ثم قال بهدوء
" نعم, أتذكر كل شيء "
لكن سرعان ما تغيرت ملامحي, وبدأت تظهر على وجهي علامات القلق, فبادرت
بسؤال خانتو بلهفة
" أخبرني بسرعة... ماذا حدث لـ أريا؟ هل فعل سلفادور أو جدتي شيئًا
بها؟ "
تنهد خانتو بعمق, وكأنهُ يحمل أثقالاً على صدره.. ثم قال بنبرة متوترة
" المتادور وضع أريا داخل الزنزانة في القصر, ورفض تدخل الشرطة, وأمر
الجميع بالقول بأنكَ أصبتَ نفسك بالخطأ بينما كنتَ تُنظف سلاحك.. سلفادور يريد مُحاكمة
أريا أمام رجال العشيرة, لكن ذلك سيحدث فقط عندما تتحسن حالتُك وتتمكن من الوقوف
أمام الجميع "
شعر خوان بالقلق يتزايد في صدره كاللهب, عيناه متسعتان باضطراب.. نظر إلى
صديقه بنظرات متوترة وقال بصوت مُهتز
" يريد محاكمتها؟ أنا أعرف تمامًا ما يعنيه ذلك.. سيتم الحُكم على
أريا بالموت "
تأملني خانتو بنظرات حزينة, وقال
" هو فعلاً المتادور أعلن أمام الجميع بأنهُ سيحكم عليها بالموت, وبأن
هذا قرارهُ النهائي ولن يتراجع عنه "
وبينما كنتُ في صراع داخلي كبير, سمعت خانتو يقول
" ظننت بأنك ستشعر بالسعادة عندما تكتشف مصيرها, فهي كانت على وشك
قتلك "
تنهدت بعمق, ثم نظرت إليه وهمست بحزن وبصدق تام
" لا أستطيع لومها بسبب ما فعلته.. في الحقيقة كنتُ أستحق منها تلك
الرصاصة.. لقد آلمتُها كثيراً "
رأيت خانتو يتأملني بنظرات مذهولة لكنهُ لزم الصمت..
تنهدت بضعف, ثم نظرت مباشرة إلى صديقي بعينين جادتين, وقلتُ لهُ بحزم
" يجب أن نفعل شيئًا.. لا أستطيع أن أتركهم يحكمون على أريا بالموت.. لا
يمكنني أن أدعهم يقتلونها.. سأوقف هذا الحُكم بأي ثمن.. أنا مدين لها بذلك "
تأملني خانتو بنظرات قلقة, بدا وكأنهُ مشوشًا.. كان مدركًا لخطورة الموقف..
تنهد بعمق, ثم سألني بصوت هادئ
" وماذا تُفكر أن تفعل, خوان؟ إنقاذ أريا من حُكم سلفادور ورجال
العشيرة ليس بالأمر السهل... إنهُ يكاد يكون مستحيلاً.. الجميع يعرف ذلك "
غرق خوان في صمته, وبدأ يُفكر بعمق, أفكاره تتسابق في رأسه.. كان يبحث عن
حل, أي طريقة يمكن أن ينقذ بها أريا من مصيرها المحتوم.. عيناه تتجولان في أنحاء
الغرفة دون أن ترى شيئًا محددًا.. وبينما كان غارقًا في أفكاره, استقرت نظراته على
ساقيه المغطاة بالبطانية البيضاء.. فجأة, برقت فكرة في ذهنه, ابتسم ابتسامة ملؤها
الانتصار وكأنه توصل إلى فكرة غير متوقعة..
نظرت بسرعة إلى خانتو وسألته بحماس مفاجئ
" خانتو... هل تحمل سلاحك معك؟ "
حدق خانتو إليّ بتساؤل, ثم أجاب دون تردد
" طبعًا, فأنا رئيس حرسك, سلاحي لا يُفارقني أبدًا "
ابتسمت ابتسامة واثقة وقلت بصوت هادئ
" جيد... الآن, اخرج واطلب من الطبيب أن يدخل بسرعة.. لدي خطة "
رفع خانتو حاجبهُ عالياً, وسألني بتعجُب
" آها!, تريدني أن أجلب لك ذلك الطبيب؟ يا ترى ما هي خطتك؟ وماذا
ستفعل بالطبيب المسكين؟.. أنا متأكد بأنك لن ترحمه "
قهقهت بخفة وأخبرته بهدوء عن خطتي.. تجمد خانتو للحظات وهو يتأملني بنظرات
مصدومة.. نظرت إليه بتكشيرة وسألته بحدة
" ماذا؟ لم تُعجبكَ خطتي؟ "
تأملني خانتو بنظرات مُتعجبة, ثم قال بجدية
" لقد أعجبتني.. كنتُ أعرف جيداً بأنك لن تُخطط لشيء عادي.. ببساطة
أنتَ تريدني أن أقوم بتهديد الطبيب حتى يقول أمام الجميع بأنك أصبحتَ مُقعداً..
فإن ظن الجميع وخاصة المتادور بأنك أصبحتَ مُقعداً حينها سوف تتمكن من الطلب من
سلفادور بأن يسمحَ لك بأن تحكم أريا بنفسك.. كما سوف تتزوجها لتحميها من عشيرتك,
هذا جميل.. أنا مُعجب بذكائك صديقي.. ولكن, ماذا لو رفضَ الطبيب تنفيذ مــ...
"
قاطعتهُ بسرعة قائلاً وبثقة
" ذلك المُغفل لن يرفض.. وإن حاول الرفض, تعلم جيداً ما يجب أن تفعله
"
ابتسم خانتو بوسع, ثم قهقه بمرح, ثم نظر إليّ بنظرات ماكرة, وقال بنبرة
خبيثة
" أهلا بعودتك إلينا من جديد, سنيور خوان.. الفترة المُقبلة ستكون
ممتعة جداً... "
توقف خانتو عن التكلم, ثم غمزني وتابع قائلاً بمرح
" سأعتني بك جيداً صديقي, لا تقلق.. سوف أُساعدُك في الاستحمام
وارتداء ملابسك و... "
نظرت إليهِ بغضب, وقاطعتهُ هاتفاً بحدة
" توقف عن السخرية, واذهب واجلب لي ذلك الطبيب "
غادر خانتو الغرفة بخطوات هادئة لكن سريعة.. ثم عاد بعد بضع دقائق برفقة
الطبيب الذي بدا متحيرًا ومضطربًا من استدعائه المفاجئ.. وقف الطبيب بصمت أمام
السرير ونظر إلى خوان بنظرات متوترة, غير متأكد مما سيحدث بعد أن طلب منهُ خانتو
العودة على الفور.. كان خوان مستلقيًا على السرير, عينيه تلمعان بثقة..
ابتلع الطبيب ريقهُ ببطء عندما التفتَ إليه خوان بنظرة صارمة وثابتة, ثم
قال بصوت حاد وبجدية
" أريد منك أن تُخبر الجميع
وخاصة عائلتي.. السنيورا رامونا, متادور سلفادور, شقيقتي, وكل أفراد العشيرة... أن
إصابتي جعلتني مُقعدًا, ولن أستطيع السير مجددًا.. أي عليك أن تُخبرهم أنني لن
أستطيع المشي مرة أخرى "
تجمد الطبيب في مكانه, عينيه تتسعان بصدمة, ثم هتف بدهشة لا تُصدق
" ماذا؟! "
ثم تابع قائلا بجدية وبصوت حاد مليئًا بالرفض المُطلق
" لا يمكنني فعل ذلك, سنيور خوان!.. كطبيب, هذا يتعارض مع أخلاقي
المهنية.. لا يمكنني التلاعب على عائلتك.. أنا هنا لأحمي حياتك, لا لأكذب عليهم
بشأن صحتك "
بدأ الغضب يتصاعد في جسد خوان, وعيناه توهجتا بتصميم خطير.. ببطء, حول
نظراته نحو خانتو, وكأنه يعطيه أمرًا صامتًا.. بدون تردد, تحرك خانتو بسرعة, وقبض
على كتف الطبيب بقوة, وفي حركة خاطفة, سحب سلاحه ورفعه نحو الطبيب, واضعًا فوهة
المسدس مباشرة على جبين الرجل الذي وقف أمامه متجمدًا من الرعب..
تراجعت أنفاس الطبيب, وبدأ جسدهُ يرتعش بعنف بينما كان ينظر إلى وجه خانتو
بذعر لا مثيل له.. كان الموقف يفوق تصوره, ولم يكن لديه أي وسيلة للهروب..
نظر خانتو إلى الطبيب المذعور بنظرات مُرعبة جعلت الطبيب يرتعش أكثر بخوف,
وقال بصوت مُنخفض لكنهُ مُفعم بالتهديد
" اسمعني جيدًا، يا دكتور, إذا لم تفعل ما أمركَ به سنيور خوان,
سأقتلك هنا والآن.. ليس فقط أنت, بل سأجعل كل من تحبهم يدفعون الثمن.. أنتَ لن
تخرج من هذه الغرفة حيًا.. هل تفهمني؟ "
ارتعش الطبيب بذعر, وعيناه اتسعتا بصدمة شديدة, عرق بارد انساب على جبينه, شعرَ
ببرودة تسري في جسده, ولم يعد قادرًا على التفكير بوضوح.. تملكهُ الخوف تمامًا,
حتى أنهُ بالكاد تمكن من الرد بصوت مرتعش
" أ... أرجوك, لا... لا تفعل.. سأنفذ... سأنفذ أوامر السنيور.. فقط...
أرجوك... لا تقتلني... "
ابتسم خانتو بسخرية مريرة, وأبعد السلاح عن جبهة الطبيب ببطء, وأعاده إلى حزامه,
ثم عدل ربطة عنقه بشكل متعمد, وكأن الوضع تحت سيطرتهِ الكاملة.. نظر إلى الطبيب
بنظرات مُخيفة جعلته يشعر وكأن الأرض تنسحب من تحت قدميه..
كاد الطبيب أن يسقط على الأرض من شدة الخوف بسبب نظرات خانتو المُرعبة.. في
لحظة من الرحمة المتعمدة, أمسك خانتو بالطبيب من ذراعه كي لا يقع, وقال لهُ بحدة
" جيد جدًا.. اخرج الآن, وأخبر السنيورا رامونا بما يجب أن تعرفه عن
وضع خوان.. لكن افعل ذلك بحزن... أريد أن تشعر كما لو أنك قد أعلنتَ حُكمًا
مأساويًا "
أبعد خانتو قبضته عن ذراع الطبيب, وهمس بحدة
" تحرك, ولا تفكر حتى في رفض ما قلته "
نظر الطبيب إلى خانتو بذعر, كان يعلم أن رفضه تنفيذ الأمر سيكلفهُ حياته.. هز
رأسه بسرعة, وهمس بذعر
" حاضر... نــ.. نعم.. سأذهب... ســ... سأفعل "
ثم خرج من الغرفة بخطوات سريعة ومُهتزة وكأن شياطين الأرض كلها تُلاحقه..
بمجرد أن خرج الطبيب من الغرفة وهو يحاول السيطرة على أعصابه المهتزة, عاد
الهدوء للحظات بين خوان و خانتو.. نظرَ خانتو إلى صديقه, ثم قهقه بخفة وقال بصوتٍ
مُنخفض
" المسكين, كاد أن يتبول على نفسه من الخوف "
نظرت إلى صديقي خانتو بنظرة تحمل إشارات لا حصر لها من الإصرار والجنون
وبتصميم لا يلين, وقلتُ له بصوت مُنخفض وحازم
" لقد حان وقت تنفيذ الخطة "
ثم فجأة, بدأ خوان يصرخ بجنون.. كانت صرخاته تهز الغرفة, صرخات ملؤها الغضب
واليأس.. بيديه الضعيفتين, بدأ يمزق الأسلاك الطبية الموصولة بجسده, سحبها بقوة
وأطاح بالمعدات الطبية المجاورة, مُحطمًا كل شيء يمكنه الوصول إليه.. تحطمت
الشاشات وسقطت الأنابيب على الأرض, وصوت الآلات المكسورة تصاعد في الغرفة, بينما
كان خوان يصرخ من أعماق قلبه
" أنا لا أشعر بساقيّ.. لا أشعر بهما.. لقد أصبحت مقعدًا! لن أتمكن من
السير مجددًا!... "
استمر خوان في تحطيم كل ما تطاله يديه, فيما خانتو يقف بجانبه دون أن يُحرك
ساكنًا, يراقب المشهد بصمت.. كان يراقب تصرفات صديقه الجنونية, مع علمه أن هذه
اللحظة كانت جزءًا من خطة خوان لإرباك الجميع, ولتمهيد الطريق لإنقاذ أريا من
المصير الذي كان ينتظرها.. كان على خوان أن يظهر أمام الجميع وكأنه فقد السيطرة
تمامًا, وأن الألم الذي يعانيه ليس فقط جسديًا, بل يتجاوز روحهُ الممزقة..
بدأت الأصوات تخرج من الغرفة, وجذب ذلك انتباه الجميع في الممرات.. كان
الوقت قد حان لكي يعرف الجميع أن خوان دي غارسيا, الرجل الشجاع والقوي والذي لا
يُقهر, قد أصبح رجلاً محطمًا, جسدًا وروحًا....
العودة إلى الحاضر**
خوان دي غارسيا**
كانت دموع الخوف تتساقط من عينيّ رودريغو, وبدا كأنهُ قد فقد القدرة على
الكلام.. ابتسمت بسخرية بينما كنتُ أنظر إليه, وتابعت قائلاً بصوت يملأه الحقد
والغضب
" لكن الآن سأجعلك تدفع الثمن غاليًا.. لقد أهنتني منذ قليل ووصفتني
بالمُعاق, ولكن الأهم لقد صَفعتَ زوجتي أريا, وأخفتَ أشقائها الصغار.. والأسوأ من
كل ذلك, قتلتَ شقيقك الوحيد والذي هو والد أريا الحقيقي "
في لحظة جنون, أمسكت رودريغو من عنقه بقوة غير متوقعة, رفعتهُ عالياً بيد
واحدة, بينما بدأ رودريغو يصرخ بصوت مُختنق وهو يبكي بشدة طالبًا الرحمة...
وبينما كان رودريغو يتوسل إليّ ويطلب مني الرحمة, نظرت إليه بنظرات مليئة
بالكراهية, لم أتأثر بتوسلاته.. ضغطت على عنقهِ أكثر, مما جعل رودريغو يختنق أكثر,
وبالكاد يستطيع التنفس..
في غرفة المكتب الفخمة, كان الجو يعج بالتوتر والعنف المتفجر, وكأن الغرفة
تحولت لساحة معركة بين القلوب المكسورة والنوايا الدامية.. كانت الأضواء الخافتة
تتراقص على الجدران بفعل الوهج القادم من الثريات, مما أضاف للجو رهبة لا تُوصف..
كان الغضب يتصاعد في عيني خوان كالنار التي لا تُطفأ, ويده مغروسة بقوة على
عنق رودريغو, يرفع جسده عاليًا حتى بدأت قدماه تتأرجح في الهواء بشكل غير مستقر,
وجه رودريغو يزداد احمرارًا وعيناه تتسعان بخوف لا يمكن وصفه..
كان رودريغو يحاول بضعف أن يسحب الهواء إلى رئتيه, لكن ضغط خوان على عنقه
كان يسلبهُ كل نفس.. اقترب خانتو بسرعة ووضع يدهُ على ذراع خوان, يحاول استعادة
السيطرة على الموقف.. نظر بثبات إلى وجه صديقه الذي أشعلهُ الغضب, وقال بهدوء شديد,
وعيناه مليئتان بالجدية والحرص
" "خوان, توقف.. سوف تقتله, ولا يمكنك المخاطرة بهذا الآن "
توقفت أنفاس خوان للحظة, ثم نظر إلى خانتو, وكأن كلماته اخترقت جدار غضبه
للحظات.. الغضب كان يشتعل في مقلتيه, واستمر لحظة يتصارع داخليًا.. تسربت بعض
المرونة في قبضته حول عنق رودريغو, ثم أخيرًا أرخى قبضته قليلاً..
تنفس رودريغو بعمق وبدا وكأن الحياة بدأت تعود إلى جسده.. كان صوت تنفسهِ وهو
يلهث لإدخال الهواء إلى رئتيه مزيجًا من الألم والارتياح.. لكن في اللحظة التالية
وقبل أن يدرك ما يحدث, دفعهُ خوان بقوة ليرميه بعيدًا, فسقط رودريغو بقوة على
الطاولة الزجاجية أمام المكتب, مما تسبب في تحطم الزجاج إلى مئات الشظايا, وأصبح
المكان مشهدًا من الدمار..
انكمش رودريغو على الأرض, يبكي بذعر, ويديه ترتعشان وهو يحاول إزالة شظايا
الزجاج التي انغرست في ذراعيه وجسده.. كان جسده كله يرتجف, وعيناه ممتلئتان بالهلع..
تقدم خوان بخطوات بطيئة وثقيلة نحو رودريغو, وكل خطوة كانت تحمل في طياتها
تهديدًا أكبر من السابق, وكان لها وقع ثقيل كأنها تجر وزن غضبهِ المكبوت منذ زمن..
وقف أمام رودريغو لوهلة, ينظر إلى الرجل الذي انهار أمامه كطفل مذعور.. انحنى خوان
وأمسك سترته بعنف, رفعهُ عن الأرض مجددًا, وعيناه غارقتان بالحقد والغضب..
نظر في عيني رودريغو مباشرة, التصقت نظراتهِ بعمق في عيني رودريغو
المتوسلتين, وكأنهما تنتظران رحمة لا وجود لها.. ابتسم خوان ابتسامة باردة كالجليد,
ثم قال بصوت مشحون بالحقد والغضب
" سوف أريك العذاب ألوانًا, قبل أن أُسلمكَ للشرطة... لن أنسى ما
فعلته بي وبمن أحب "
ثم رفع خوان ذراعه, وعيناه تقدحان شرارًا من شدة الغضب, وعلى وشك توجيه
لكمة قوية نحو وجه رودريغو.. وقال بغضب حارق, بصوت كان مليئًا بالعاطفة المتوهجة
" هذه... من أجل زوجتي, أريا "
لكم خوان رودريغو بكل قوته, كان الصدى يتردد في الغرفة.. رودريغو كاد أن
يسقط, لكن خوان أمسكه من السترة, يثبتهُ بقوة, كأن غضب خوان ذاته هو ما يبقيه
واقفًا.. أصاب رودريغو حالة من الذهول, وعيناه بالكاد مفتوحتان, والدماء بدأت تسيل
من أنفه وشفتيه..
نظر خوان إليه مجددًا, وكانت الدماء تتدفق من أنف رودريغو وتلطخ وجهه.. ثم
قال بصوت مليء بالألم والغضب الذي لم يهدأ
" وهذه من أجل صغاري "
سدد خوان لكمة أخرى, كانت أقوى من سابقتها, ضربة أصابت رودريغو في جانب
وجهه بقوة جعلته يغيب عن الوعي فورًا.. رأسه تدلى نحو الأمام, والدماء تغمر وجهه
بشكل كامل, كأنها تروي حكاية النهاية الحتمية لرجل كان يستحق هذا المصير..
تركه خوان ليسقط على الأرض بقوة, كما لو أنه لا يستحق المزيد من الاهتمام,
وسقط جسد رودريغو بلا حياة تقريبًا, مع بقايا الزجاج المتناثرة حوله, وكأن الأرض
تحتضنه ببرود..
وقف خوان للحظة, يتنفس بعمق, ثم أخرج منديلًا أبيض من جيبه, مسح الدماء عن
يده بينما نظرة باردة تسيطر على ملامحه, ثم رمى بالمنديل على جسد رودريغو الذي كان
غائبًا عن الوعي, وكأنه ينهي المشهد بحركة قاسية رمزية..
التفت إلى خانتو وقلتُ لهُ بهدوء
" أدخل الحراس.. ليأخذوه ويرموه في القبو.. حسابي معه سيكون الليلة, بعد
انتهاء زفاف سلفادور "
أومأ خانتو بجدية, وخرج من الغرفة لينفذ الأمر.. جلست بهدوء على الكرسي
المتحرك, وبعد لحظات قليلة عاد خانتو برفقة رجالي.. دخلوا وحملوا جسد رودريغو دون
أي شفقة, وأخذوه خارج الغرفة باتجاه القبو في الطابق السفلي في الكازينو, المكان
الذي أصبح مكبًا للأرواح المهزومة والأسرار المظلمة..
بعد أن هدأ الجو في الغرفة, جلست بهدوء أنظر أمامي والابتسامة ترتسم على
شفتاي بشكل بارد.. كنتُ أعرف أنه لا يزال هناك الكثير لأقوم به من أجل أريا
وصغاري, ولكن هذا الجزء من العذاب لديهم قد انتهى..
بعد مرور دقائق قليلة, دخل خانتو إلى الغرفة ووقف أمامي.. نظرت إليه وقلتُ
لهُ بجدية
" حان الوقت للعودة إلى قصر الجوهرة, لحضور زفاف المتادور "
ابتسم خانتو وهز رأسه موافقًا, ثم تقدم ووقف خلف خوان, ودفع الكرسي المتحرك
ببطء وغادرا الكازينو وكأنهما يتوجهان نحو المرحلة القادمة من هذا الصراع المحتدم,
حيث ينتظرهما مصير جديد وسط الاحتفالات والدموع التي تنتظر الجميع..
أريا**
كانت أريا تقف
في صالون الشرف بقصر الجوهرة تنظر إلى الزينة التي ملأت الأرجاء.. الأضواء
الكريستالية, الزهور البيضاء التي زينت الأعمدة, والشرائط الذهبية التي كانت تتدلى
من السقف, كل شيء كان يلمع ببهجة, يعلن عن احتفال كبير لا يشبه سواه..
الأجواء كانت
مفعمة بالبهجة في كامل القصر, لكن قلب أريا كان يتأرجح بين الفرح والحزن.. في عمق
قلبها, كان هناك شعور متناقض, شيء يذكرها بأنها غريبة وسط كل هذا الفرح, وأن
مصيرها لا يزال مجهولًا..
كانت أريا
تتأمل الزينة والورود التي تناثرت بألوانها في كل مكان, بينما نظراتها كانت تحمل
مزيجًا من السعادة والقلق.. اليوم كان يوم زفاف المتادور و صديقتها لينيا, ومع كل
بسمة في الصالة كانت أريا تُخفي وجعًا عميقًا في قلبها, فاليوم عرفت حقيقة من هو
والدها الحقيقي, وكم تعذبت أمها..
رغم الحزن الذي
كان يخيم على قلبها, إلا أنها شعرت ببعض السعادة في رؤية المكان بهذا الجمال
البهيج.. كانت تعلم أن هذا الزفاف كان سيجعل الكثيرين سعداء, وأنه كان مهمًا
للعائلة..
وبينما كانت
أريا مستغرقة في أفكارها, دخل خوان إلى الصالون على كرسيه المتحرك, وخلفه خانتو
يدفعه ببطء.. كان صوت عجلات الكرسي على الأرض الرخامية يعلن وصوله بهدوء, وما إن
اقترب حتى همس بصوت خافت مليء بالشوق
" أريا...
"
التفتت أريا
ببطء, نظرتها هادئة لكنها كانت تحمل خلفها بحراً من المشاعر المتداخلة..
تجمدت عينا
خوان على ملامحها, كأنها استحوذت على قلبه من جديد, لم يستطع منع نفسه من تأملها
بإعجاب وحب صادق.. حُب لم يعترف بهِ لنفسهِ لغاية هذه اللحظة..
استدارت أريا
ببطء, شعرها الطويل يتراقص حول وجهها, وعينيها تحملان لمعة هادئة حينما التقت
بنظرات زوجها.. تجمد خوان في مكانه, وعيناه لم تستطيعا الفكاك من تأملها..
كانت ترتدي
فستانًا أسود طويلًا, ضيقًا على جسدها, يعانق منحنياتها بسلاسة ويبرز جمال جسدها
بكل رقي وأناقة.. كان الفستان مكشوفًا من الظهر, مما أضاف له سحرًا خاصًا, بينما
كان شعرها يتدلى بسلاسة على ظهرها, ينساب كالشلال في تناسق رائع.. بدت وكأنها ملكة
في هذا القصر, وحركاتها الرشيقة أكدت ذلك.. كانت أريا تمثل كل جمال ورقة, ولم
يستطع خوان أن يرفع عينيه عنها..
تسارعت أنفاسي
بينما كنتُ أنظر إلى خوان.. شعرت بالخجل والارتباك بسبب نظراتهِ.. كان يتأملني
بطريقة وكأنني قد سحرته.. بلعت ريقي بقوة وهمست بارتباك واضح
" خوان,
لقد تأخرت "
دفع خوان كرسيه
ببطء نحوها, وعندما توقف أمامها رفع رأسه لينظر إليها بعينيه التي تملؤهما الإعجاب
والحب.. قال لها برقة وحنان, وصوته لا يخفي مشاعرهُ الصادقة
" زهرة
القمر, تبدين جميلة جدًا "
أمسك خوان
بيدها بلطف, رفعها وقبل ظهر كفها بنعومة.. كانت القبلة مليئة بالعاطفة, وتركزت
فيها كل المشاعر التي لم يستطع التعبير عنها..
شعرت أريا
برعشة تسري من يدها وصولاً إلى أعماق جسدها, دفء شفتيه جعلها تشعر بأنها ليست
وحدها, بأن هناك حبًا حقيقيًا ما زال ينتظرها وسط كل هذه الفوضى.. قبلتهُ الناعمة
جعلت قلبها ينبض بقوة, وكأن العالم من حولهما قد تلاشى, ولم يبقَ سوى هي وزوجها في
هذه اللحظة السحرية..
التقت عيونهما
مجددًا, وتجمدت النظرات بينهما, كل منهما يحدق في الآخر بحب لم تستطع الكلمات
التعبير عنه.. كانت هناك ألف كلمة غير منطوقة, حديث صامت من التفاهم والأمل..
لحظات مرّت كأنها أبدية, كأن الزمن توقف لكي يمنحهما هذه اللحظة من الصفاء والحب
الصافي.. كانت هذه اللحظات عميقة, مليئة بمشاعر لم تُبح بعد, وكأن كلاهما كان يغرق
في بحر من العواطف, لا يريدان الفكاك منه..
ولكن فجأة, تحولت
اللحظة الرومانسية إلى شيء آخر, توسعت عيون أريا بقلق وخوف, وسحبت يدها بسرعة من
قبضة خوان.. نظرت نحو السلالم المؤدية إلى الطابق العلوي حينما سمعت صوت صرخة قوية,
صدى تلك الصرخة جعل الهواء في الغرفة يتجمد..
كانت صرخة
الجدة رامونا, واضحة ومليئة بالذعر
" لينيا,
ليست في غرفتها.. اختفت العروس! لينيا اختفت! "
التوتر بدأ
يتصاعد في الصالون, والهمسات بدأت تنتشر بسرعة في القصر.. شعرت أريا بقبضة من
الخوف تشد على قلبها, ويدها التي كانت قبل لحظة تشعر بالدفء والراحة الآن أصبحت
متوترة, وأنفاسها تتسارع مع تصاعد التوتر في القصر..
في لحظات قليلة
تحولت الأجواء في القصر من رومانسية هادئة إلى حالة من الفوضى والقلق.. نظرت أريا
بسرعة إلى خوان, الذي كان يحاول أن يستوعب ما حدث, نظراته تغيرت من الإعجاب إلى
الاستفسار والقلق, وكأن كل شيء جميل انهار في لحظة واحدة..
تسارعت أنفاسي
بخوف, فعقلي بدأ يتحرك بسرعة, يبحث عن تفسير لما يحدث.. هل هربت لينيا؟ أم أن هناك
شيئًا آخر يدور خلف هذه الجدران المزينة ببريق الزفاف؟..
أمسك خوان يدي
وضغط عليها برقة, وسمعته يقول بجدية
" أريا,
اصعدي إلى غرفتنا ولا تخرجي منها "
نظرت إليه
بخوف, وهمست بقلق وبتوتر
" ولكن
أنا أريد الاطمئنان على صديقتي.. يجب أن أبحث عنها و... "
قاطعني خوان
قائلاً بأمر ولكن بنبرة هادئة وحازمة
" لا.. لن
أسمح لكِ وسط هذه الفوضى بالخروج.. اصعدي إلى غرفتنا ولا تخرجي منها حتى أعود
"
حاولت الاعتراض
لكن خوان هتف بغضب هذه المرة موجهاً حديثه لصديقه خانتو, إذ أمرهُ بأخذي ومرافقتي
إلى الغرفة..
وبينما كنتُ
أصعد السلالم بقهر وبغضب برفقة خانتو, رأيت بذهول المتادور سلفادور ينزل السلالم
راكضاً برفقة صديقه ميغيل, ثم رأيت ساريتا تنزل السلالم برفقة والديها.. حاولت
التكلم مع ساريتا لكن خانتو وقف أمامي وتأملني بنظرات جادة قائلاً
" سنيورا,
من الأفضل أن تصعدي إلى غرفتك.. الوضع خطير "
نظرت إليه
بيأس, ثم أومأت مُرغمة موافقة, وصعدت برفقته إلى الغرفة.. دخلت بمفردي إلى الغرفة,
ثم ركضت وخرجت إلى الشرفة.. رأيت بذعر وبتوتر المتادور يصرخ بجنون وهو يُلقي
أوامره على رجاله بالذهاب والبحث عن لينيا.. ثم رأيت المتادور يركض باتجاه
الاسطبل, وبعد لحظات قليلة خرج من الاسطبل وهو يمتطي حصانه إيتان..
نظرت باتجاه
الغابة التي كان الثلج يُغطيها بالكامل.. تنهدت بقوة وهمست بقلق وبحزن
" لينيا,
كوني بخير.. أرجوكِ "
دخلت إلى
الغرفة وجلست على الكرسي بهدوء أنتظر بحزن ما سيحدث.. ولكن فجأة سمعت صرخة مدوية
في القصر.. وقفت وركضت خارجة من الغرفة ونزلت السلالم مسرعة.. عندما وصلت إلى
الطابق الأرضي رأيت جميع الخدم يقفون حول الجدة رامونا وحفيدتها كارميتا..
رأيت بذهول
الجدة رامونا تمسك معصم كارميتا بقوة, وهتفت بغضب وبحدة في وجهها
" أين
كنتِ منذ قليل؟ تكلمي, وإياكِ أن تكذبي عليّ كارميتا.. تكلمي بسرعة, أين كنتِ منذ
قليل؟ "
رأيت كارميتا
تنظر إلى جدتها بذعر, ثم قالت بصوت مُرتعش
" جدتي,
لقد كنتُ في غرفتي و... "
ولكن أم
العشيرة حررت معصم كارميتا من قبضتها وصفعتها بقوة على وجنتها, ثم أمسكت كارميتا
بكتفيها وهزتها بقوة وهتفت بغضب جنوني في وجهها
" كاذبة..
أنتِ كاذبة.. عندما اكتشفت اختفاء لينيا ذهبت إلى غرفتكِ ولم أجدكِ بها.. تكلمي
قبل أن أقتلكِ.. ماذا فعلتِ بها؟ أين هي لينيا؟ "
بدأت كارميتا
تبكي بذعر, وهمست ببكاء من بين شهقاتها
" كنتُ في
الحمام, صدقيني جدتي.. أنا لا دخل لي بشيء.. لا أعرف أين هي لينيا "
وقفت جامدة في
مكاني أنظر بصدمة كبيرة إلى الجدة رامونا, إذ أمسكت أم العشيرة بخصلات شعر كارميتا
وجذبته بقوة إلى الخلف, ثم دفعت الجدة حفيدتها بعنف إلى الخلف لتقع على الأرض, ثم
أمرت حارسها الشخصي خوسي ليأخذ كارميتا إلى غرفتها ويُقفل عليها الباب بالمفتاح..
رأيت بذهول
الجدة رامونا تقف بشموخ وهي تنظر إلى حفيدتها المنهارة أمامها, وسمعتُها بصدمة
كبيرة تقول بغضب لحفيدتها
" إن أصاب
لينيا أي مكروه, سأقتلكِ بنفسي هذه المرة كارميتا "
ثم أمرت الجدة
حارسها خوسي بصوت صارم
" خذها
بسرعة من هنا, لا أريد رؤيتها أمامي "
ثم استدارت
الجدة ونظرت إلى الجميع, وبهدوء تام مشت بخطوات بطيئة وصعدت السلام باتجاه جناحها
الخاص..
في أقل من
ثواني أصبحت أريا بمفردها.. جلست وحيدة في الصالون الكبير, متمسكة بيديها فوق
حضنها, وعيناها تنظران إلى الزينة التي تملأ المكان, لكنها لم تكن ترى شيئًا.. كل
تلك الورود الجميلة, والأضواء المتلألئة التي كانت تعطي القصر رونقًا استثنائيًا,
لم تستطع أن تُخفي الحزن العميق الذي كان يملأ قلبها.. كل شيء كان معدًا ليوم زفاف
المتادور و لينيا, ولكن الفوضى والقلق هي التي سيطرت على الأجواء بعدما هربت لينيا..
أريا شعرت بغصة
في حلقها بينما تتذكر تفاصيل اللحظات الأخيرة قبل أن تكتشف الجدة رامونا غياب
لينيا.. كانت تتمنى لو استطاعت فعل شيء لمنع كل هذا, لكنها تعلم جيدًا أن قرار
لينيا بالهرب لم يكن مفاجئًا كليًا, فقد كانت تحمل عبء الكثير من الضغوطات
والمخاوف التي لم تفصح عنها لأحد.. ومع كل هذا, كانت أريا تشعر بوجع الفراق, فهي
تعرف جيدًا كم كانت لينيا تحب المتادور, ومع ذلك, كان الهروب هو الخيار الذي
اتخذته..
كانت أفكارها
تتشابك في رأسها, تدور بلا توقف, كأنها في دوامة لا تستطيع الخروج منها.. تساءلت
في داخلها عمّا سيفعله المتادور الآن, وكيف ستكون ردة فعله.. شعرت بالخوف على
لينيا من غضب المتادور, لكنها أيضًا تفهم لماذا فعلت صديقتها ذلك.. ربما كانت
لينيا تريد الهروب من قدر لم تكن مستعدة لمواجهته, ربما كان خوفها من الماضي أو من
المستقبل..
فجأة, دخل
خانتو إلى الصالون, وصوت خطواته على الأرضية الصلبة كسر الصمت العميق الذي كان
يحيط بالمكان.. رفعت أريا رأسها لتنظر إليه, وعيناها تملؤهما تعابير الحزن والقلق..
وبسرعة سألته أريا بقلقٍ شديد
" أين هو
خوان؟ ثم, هل عرفتَ شيئًا عن لينيا؟ "
وقف خانتو على
بُعد خطوات قليلة منها, ثم أطلق تنهيدة طويلة وقال بهدوء
" سنيورا
أريا, سنيور خوان ذهب برفقة السنيور ميغيل للبحث عن لينيا.. الجميع يبحث عنها..
المتادور طلب من الجميع التعاون للعثور عليها.. أنا لم أذهب بأمر من خوان, لقد
أمرني لأبقى في القصر وحمايتكِ "
أومأت أريا
بصمت, وأخذت نفسًا عميقًا, ثم قالت بصوت هادئ يختلط فيه الألم
" أنا لا
ألوم لينيا.. أعرف تمام المعرفة كم هي ضغوط هذا المكان كبيرة, وكم هو صعب أن تكون
جزءًا من هذه العائلة "
نظر خانتو إلى
أريا بتعاطف, ثم قال بصوت خافت
" نعم,
أستطيع أن أتفهم ذلك.. لكن يجب أن نفكر الآن في كيفية تهدئة الوضع.. المتادور ليس
سعيدًا بما حدث.. لم أراه مُسبقاً غاضباً بهذا الشكل.. والجدة رامونا, تعرفين كيف
ستكون ردة فعلها "
تنهدت برقة
ونظرت بعيدًا.. كنتُ أعرف أن الأيام المقبلة ستكون صعبة للغاية, وأن الغضب والخيبة
سيغمران القصر.. لكن قلبي كان مع لينيا, مع صديقتي التي ربما الآن تهيم في مكانٍ
ما, وحيدة وخائفة.. شعرت بالعجز, لكن أيضًا لم أفقد الأمل بعد.. كنتُ أعلم أن
لينيا قوية, وأنها قادرة على اتخاذ القرارات الصحيحة مهما كانت الظروف صعبة..
قطع خانتو
الصمت مجددًا, وقال بحذر
" هل
تعتقدين أن هناك أي طريقة يمكن أن نساعد بها لينيا الآن؟ أعني, إن استطعنا إيجادها
قبل أن يعثر عليها المتادور, ربما يمكننا تجنب الأسوأ "
نظرت إليه
بعجز, وهمست بأسى قائلة
" لا فكرة
لدي أين هي الآن.. أنا خائفة عليها من غضب المتادور "
ابتسم خانتو
قليلاً وقال بجدية
" المتادور
قد يكون صارمًا, لكنهُ يحترم ويُحب البروفيسورة.. من المستحيل أن يؤذيها.. لكن لا
أعرف إن كان حبهُ لها كافياً لإيقاف غضبهِ منها اليوم.. أنا أعرف تماماً أن الحب
يمكن أن يكون معقدًا, وأن قرارات القلب لا تتماشى دائمًا مع ما يريده العقل "
نظرت إليه
بذهول وسألتهُ بدهشة كبيرة
" كيف
عرفت بأن المتادور يحُب لينيا؟ "
تنهد خانتو
بحزن, وسمعتهُ بصدمة كبيرة يقول قبل أن يغادر الصالون
" نظراتهِ
للبروفيسورة واضحة جداً بالنسبة لي.. ماتادور سلفادور رجل عاشق حتى النُخاع, فهو
ينظر إلى امرأته كما أنا أنظر إلى المرأة التي أعشقُها بجنون.. والآن, بالإذن منكِ
سنيورا, يجب أن تصعدي إلى غرفتكِ وتستريحي قليلا لحين عودة سنيور خوان.. إن احتجتِ
لأي شيء اتصلي بي, سأبقى في باحة القصر بانتظار عودة الجميع "
رمشت بقوة أنظر
أمامي بدهشة كبيرة.. خانتو يُحب؟! يا ترى من هي حبيبته؟!.. وقفت بهدوء وصعدت إلى
الغرفة وأنا أتمنى أن تكون لينيا بخير, وأن يتم إنقاذ ما يمكن إنقاذه في هذا القصر
الذي كان يعج بالصراعات والأسرار..
ميغيل**
كان الصباح
هادئًا بعد العاصفة الثلجية التي ضربت المنطقة في ليلة الأمس.. الثلج غطى كل شيء
برداء ناصع البياض, وأضفى على الأجواء سكونًا غريبًا وجمالًا نادرًا.. والهدوء كان
يُسيطر على كل ركن من القصر الفخم الذي يملكهُ ميغيل..
كان ميغيل يجلس
على الكُرسي خلف مكتبه الفسيح, الضوء الخافت للمصباح المكتبي يتسرب برفق ليضيء
الأوراق المبعثرة أمامه, لكن عينيه كانتا بعيدتين عن كل تلك التفاصيل.. كان ذهنه
غارقًا في التفكير في ساريتا, فراشته الجميلة, الفتاة التي أصبحت كل شيء بالنسبة
له..
في هذا الصباح
الباكر, كان يشعر بثقل الحزن, خوفه عليها كان يلتهم راحته, وكانت ذكرياتها تطارد
ذهنه, مثل الفراشة التي ترفرف في الحقول, لا يمكن له الإمساك بها أو حمايتها بشكل
كامل..
بينما كان
غارقًا في أفكاره, اخترق صمت المكان رنين هاتفه الخلوي.. نظر ميغيل سريعًا إلى
الشاشة, وبمجرد أن رأى اسم " فراشتي الجميلة " مكتوبًا, خفق قلبه بقوة,
وكأن الدماء عادت تسري في عروقه من جديد.. أمسك الهاتف بسرعة وأجاب دون تردد, صوته
مليء بالقلق والشوق
" فراشتي,
أنتِ بخير؟ "
جاءه صوت
ساريتا مخنوقًا بالبكاء, ارتجافها كان واضحًا من بين كلماتها, وهي تقول بخوف
( ميغيل, أنا
لستُ بخير.. خورخي لاريفا لم يتوقف عن الاتصال بي طوال الليل, وإرسال رسائل تهديد..
لم أجب عليه كما طلبتَ مني, لكنني خائفة )
كان صوتها
مليئًا بالذعر, كأنها كانت تبحث عن مأوى يحميها من كل شيء..
شعر ميغيل وكأن
أحدهم ضربه في صدره, والغضب تصاعد بداخله ضد خورخي.. وقف فجأة من مكانه, الكرسي
تراجع خلفهُ بعنف, وقال بصوت حازم وحنون في آن واحد ومليئًا بالتعاطف والاهتمام
" لا
تخافي فراشتي.. أنا قادم إليك الآن. سأكون بجانبك قريبًا, ولن أترك أحدًا يقترب
منكِ.. لن أترككِ وحدكِ "
بخطوات سريعة
وحاسمة, أنهى ميغيل المُكالمة وغادر مكتبه, ركض عبر الممرات, لم يهتم سوى بوصوله
بسرعة إلى ساريتا.. خرج من قصره الفخم, قفز داخل سيارته وانطلق بسرعة نحو قصر
المتادور..
كان الطريق
مغطى بالثلج, والرياح كانت تصفع وجهه من النافذة المفتوحة, لكن ميغيل لم يكترث,
كان همهُ الوحيد هو الوصول إلى ساريتا قبل أن يتفاقم خوفها.. كان يعرف كم كانت
خائفة الآن, وكم كان وجوده مهمًا بالنسبة لها في هذه اللحظات.. وأفكاره كانت تدور
فقط حول كيفية حمايتها..
عندما وصل إلى
قصر المتادور, لاحظ الحركة المستمرة في الخارج, العمال يقومون بتزيين القصر
استعدادًا لزفاف المتادور.. لكنهُ لم يعر ذلك اهتمامًا, لم يكن في نيته أن يقف
ويفكر.. تسلل بهدوء, محاولاً عدم لفت الانتباه, وتسلل إلى الداخل ثم صعد الدرج نحو
غرفة ساريتا, متجنبًا أي لقاء مع والدها أو أي شخص آخر..
وصل إلى الباب,
وبدون تردد فتحه بحركة واحدة سريعة, ودخل إلى الغرفة وهو يناديها بقلق
" ساريتا!
فراشتي! "
رآها تقف في
وسط الغرفة, عيناها منتفختان من البكاء, وملامحها مليئة بالقلق والخوف.. لم يتمكن
ميغيل من الانتظار.. ركض نحوها وعانقها بقوة, وكأن حضنه هو الملاذ الذي يحميها من
كل المخاطر, وكأن حضنه كان الحصن الوحيد الذي يمكن أن يحميها..
همس قرب أذنها
بهدوء, بصوت يُقطر حنانًا, وهو يحاول تهدئة أنفاسها المرتجفة
" لا
تخافي, ساريتا.. أنا هنا, بجانبكِ.. لن أسمح لأحد بأن يؤذيكِ.. لن أترككِ أبدًا,
سأحميكِ من كل شيء فراشتي "
أحاطته ساريتا
بذراعيها بقوة, وكأنها تخشى أن يختفي, شعرت بدفء جسده وقوة حضنه الذي جعلها تنسى
كل خوفها للحظة..
شعرت ساريتا
بالدفء ينساب إلى قلبها وهي بين ذراعيه, وكأن كل مخاوفها قد بدأت تتلاشى تدريجيًا..
ابتعد ميغيل قليلاً, ونظر إليها بعينيه العميقتين, تأملها للحظة, وكأنما كان يتأكد
أنها بخير الآن.. عينيه كانتا مليئتين بالحب, وبوعدٍ صامت بحمايتها مهما كلفهُ
الأمر..
نظرَ ميغيل في عمق
عينيها بعشق وهدوء, لم يكن هناك كلمات, فقط صمت مليء بكل العواطف التي لم يستطع التعبير
عنها..
نظرت إليه
ساريتا بصمت, بعمق الحب الذي تحملهُ له.. كان هناك الكثير من الكلمات التي تريد أن
تقولها, لكنها لم تستطع.. همست فقط قائلة بسعادة وبأمان
" ميغيل..
أنتَ هنا.. لقد أتيتَ من أجلي "
ابتسم ميغيل
برقة, ورفع يدهُ ليمسح دموعها, ثم همس برقة وهو ينظر في عمق عينيها, وكأنهُ يضع قلبهُ
بين يديها
" أنا هنا
من أجلكِ, ساريتا.. لن أسمح لأي شيء أن يؤذيكِ.. أنتِ فراشتي, وسأكون دائمًا هنا
لحمايتك "
تلاقت نظراتهما
في هذه اللحظة, شعور بالسكينة والطمأنينة تخلل المكان, وكأن العالم كله قد توقف
ليتسنى لهما العيش في هذه اللحظة فقط.. أحست ساريتا بالأمان بين ذراعي ميغيل,
وعرفت أنه مهما كانت التهديدات والمخاطر, طالما كان ميغيل بجانبها فهي ستكون بخير..
أخذ ميغيل
نفسًا عميقًا, ثم قال بحنان
" لن ندع
هذا الوحش يخيفكِ أكثر.. سأتعامل معهُ بنفسي.. وعدٌ مني فراشتي, سأحميكِ من كل شيء
"
وضعت ساريتا
يدها على قلبها, ونظرت إليه بامتنان لا يمكن للكلمات وصفه.. عرفت أنها محظوظة
بوجوده, وأن حُبها له هو الذي سيعطيها القوة لتواجه كل التحديات التي ستأتي..
ابتعدت عن
فراشتي بسرعة قبل أن أضعف أمامها وأُقبلها بشوق وعشق كبير.. نظرت إليها بتوتر,
وسألتُها بارتباك
" هل
يمكنني أخذ هاتفكِ؟ أريد قراءة رسائل خورخي "
انتفضت ساريتا
بخفة, ثم اقتربت من المنضدة وأمسكت هاتفها, ثم اقتربت ووقفت أمامي وسلمتني الهاتف,
ثم قالت بصوتٍ مُنخفض
" طبعاً,
تفضل.. يمكنك أخذه "
أمسك ميغيل
هاتف ساريتا بيده, وقلبهُ يشتعل بالغضب.. كان ينظر إلى الشاشة التي تضيء بالرسائل
التي أرسلها خورخي لاريفا, وبدأ يقرأ رسائل التهديد..
كان وجه ميغيل
يتحول تدريجيًا من التركيز إلى الغضب البارد, وعيناه كانت تتوهجان كما لو كانا
شعلة نار تتأجج.. الرسائل كانت مليئة بالكلمات المسيئة, تهديدات واضحة, وألفاظ
حملت كل أنواع القسوة.. كلمات خورخي التي هددت ساريتا وصفتها وكأنها شيء يمتلكه, وبأنها فريستهُ التي عليها أن تستلم لهُ
بسهولة..
كان يرى ميغيل
بوضوح كل كلمة تحمل في طياتها تهديدًا يُهدد سلامة فراشته الجميلة.. كان قلبه ينبض
بشدة, وكلما قرأ رسالة جديدة ازداد غضبه وغليانه.. الكلمات المهينة والتهديدات
المستمرة كانت تعكس قسوة خورخي وسوء نيته, وكان هذا يكفي لجعل ميغيل يشعر بأنه
يريد تدمير خورخي بأي ثمن..
كل رسالة كانت
كسكين تنغرس في قلبي, تدفعني نحو قرار لا رجعة فيه.. لن أدع خورخي يؤذيها مرة أخرى,
مهما كان الثمن.. بعد أن انتهيت من قراءة الرسائل, نظرت إلى ساريتا, التي كانت
تنظر إليّ بعيون متسائلة, مليئة بالخوف والقلق, وكأنها تنتظر حُكمًا على حالتها..
أعطيت الهاتف لـ
ساريتا بلطف, ثم نظرت إلى عينيها بحزم قائلاً
" في
اليومين القادمين, أريدكِ أن لا تُجيبي على مكالمات خورخي ورسائله.. لا تخافي منه,
فقط كوني قوية, وثقي بي فراشتي "
أمسكت بيديها
بلطف وحضنتهما بكلتا يداي, ثم نظرت إليها بحنان عميق وقلتُ لها برقة
" لا
تخافي, ساريتا.. ثقي بي.. سأحميكِ من خورخي مهما كلفني ذلك.. لن أسمح لأي شخص بأن
يمس فراشتي أو يؤذيها "
كانت ساريتا
تنظر إلى ميغيل بعشق وامتنان, وكأن كلماته كانت البلسم الذي يداوي جروح قلبها.. لم
تستطع أن تنطق بكلمة, فعيونها كانت تتحدث بما لم تستطع شفتيها التعبير عنه.. كانت
ترى في عينيه كل الحب والتضحية التي كان على استعداد لتقديمها من أجلها..
قربَ ميغيل
وجهه منها ببطء, وكأنهُ كان على وشك أن يُقبل شفتيها.. ولكن بدلاً من ذلك, قبل
جبينها برقة ودفء, كأنه كان يطمئنها بحنانه دون أن يتخطى الحدود.. ثم ابتعد عنها
بسرعة, ولم ينتبه لنظرات خيبة الأمل التي تأملتهُ
بها ساريتا.. لقد أرادت هذه اللحظة أن تكون مختلفة, أرادت أن تشعر بقربه
بأكثر من مجرد قبلة على جبينها, أرادت أن تشعر بحبهِ لها, ذلك الحُب الصامت الذي
تُخبرها بهِ عينيه الجميلتين.. لكن مشاعر ميغيل و ساريتا بقيت محبوسة خلف صمتهما
القاتل..
تنفست بعمق
وكأنني أُحاول استعادة توازني بعد هذه اللحظة العاطفية, ثم قلت بارتباك واضح
" فراشتي..
يجب علي أن أذهب الآن لأتجهز من أجل زفاف صديقي "
وغادر ميغيل
الغرفة بسرعة, وهو يحاول إخفاء الابتسامة التي كانت تزين وجهه بسعادة غامرة.. ولكن
لم يُلاحظ ميغيل كيف كانت ساريتا تحدق في الباب بعد رحيله, وابتسامة خفيفة, حزينة,
ارتسمت على شفتيها..
عندما أغلق
ميغيل باب غرفة ساريتا, كانت عيناه تتجهان نحو الأرض, مشغولًا بتفكيره, لكنهُ فجأة
تجمد في مكانه عندما رفع بصره ورأى ليون كاريلو يقف أمامه في الممر, مكتفًا يديه
على صدره, ونظرة ساخرة تملأ وجهه..
رفع ليون حاجبه
عاليًا, وقال بسخرية
" يبدو أن
سوبرمان لم يعد يتسلق الجدران ليدخل إلى غرفة ابنتي, بل أصبح يدخل من الباب
مباشرةً كأي إنسان عادي "
نظرت إليه
بذهول, وهمست بغيظ بصوت بالكاد خرج من حُنجرتي
" تباً..
بئسا لحظي اللعين... "
شعرت بالتوتر,
واحمر وجهي قليلاً وكأنما تم القبض عليّ في موقف غير مناسب.. قلتُ بسرعة وأنا
أُحاول الحفاظ على رباط جأشي
" آه...
صباح الخير, سنيور ليون.. كنتُ فقط... فقط... أردت أن أطمئن على ساريتا, و...
سأغادر الآن "
تأملني ليون
كاريلو بنظرات ماكرة, وقال بسخرية
" قلقكَ
على ابنتي يبدو واضحاً, إذ خرجتَ من غرفتها وأنتَ تبتسم بسعادة "
نظر ميغيل إلى
ليون كاريلو بارتباك ولم يستطع الإجابة, بل ركض مبتعدًا مثل مراهق وقع في مشكلة,
وكأن كل ثانية يقضيها في هذا الموقف تزيد من إحراجه.. شعر ميغيل وكأنهُ مراهق تم
القبض عليه وهو يتسلل من غرفة حبيبته..
وبينما كان
ميغيل ينزل السلالم راكضًا, سمع صوت ضحكات ليون تتردد خلفه, مما جعلهُ يشعر
بالغيظ.. كان يعلم أن ليون لن يفوت الفرصة للسخرية منه, لكنهُ في هذه اللحظة لم
يكن يهتم إلا بالوصول إلى نهاية السلالم والابتعاد عن هذا الموقف المحرج بأسرع ما
يمكن..
كانت تلك
الضحكات تُرافقني بينما كنتُ أخرج من القصر, رغم محاولتي لتجاهلها.. قلبي كان ينبض
بقوة, ليس بسبب الخوف من ليون, بل بسبب الحب الذي لم أعُد قادرًا على إخفائه عن
ساريتا..
وقفت ونظرت إلى
القصر, ثم ضحكت بقوة وهمست بمرح
" ليون
كاريلو, أحياناً يكون مُخيفاً مثل الأشباح.. ولكن من أجل فراشتي سوف أتحمله "
بدأت أضحك على
نفسي بينما كنتُ أقود سيارتي عائداً إلى قصري.. هذا الصباح كان بداية يوم غير عادي..
في الظهيرة في
قصر الجوهرة, دخل ميغيل برفقة والديه إلى البهو الرئيسي للقصر, عينيه تتجولان بين
الزينة والألوان التي أضافت حياةً جديدةً للمكان.. كان هناك شيء مميز في الجو, شيء
من البهجة والسعادة كان يملأ الهواء, فاليوم لم يكن يومًا عاديًا..
كان المكان يعج
بالحركة والنشاط تحضيرًا لحفل زفاف المتادور سلفادور والبروفيسورة لينيا, وكان
العاملون منشغلين بتجهيز آخر اللمسات, في حين كان خواكيم, الفتى الذي كان قريبًا
من سلفادور, واقفًا يتابع التحضيرات بحماس..
ما إن لمح
ميغيل خواكيم أمامه, حتى توجه نحوه وسألهُ بابتسامة على شفتيه
" خواكيم,
أين هو المتادور؟ هل تعرف مكانهُ الآن؟ "
أجاب خواكيم
بسعادة, وعيناه تلمعان بشغف
"
المتادور في جناحهِ الخاص, لم يخرج منه منذ الصباح, وأعتقد أنه يُجهز نفسه الآن
لزفافه من البروفيسورة.. الجميع ينتظرون هذه اللحظة بحماس كبير "
ربتَ ميغيل
بخفة على كتف خواكيم, وقال بنبرة دافئة
" تبدو
سعيدًا جدًا اليوم, وهذا بالطبع من أجل المتادور, أليس كذلك؟ "
ابتسم خواكيم
بسعادة واضحة وأجاب بحماس
" بالطبع..
أنا أحب المتادور كثيرًا, والجميع اليوم سُعداء من أجله ومن أجل البروفيسورة.. هذا
اليوم مميز جداً, فكل أهالي اكستريمادورا, بل إسبانيا كلها, نرغب برؤية سعادة
المتادور تتحقق "
ابتسمت بسعادة, قائلاً
" صحيح, كان الجميع ينتظرون هذا اليوم منذ زمن.. سأذهب لرؤية صديقي
الآن.. شكرًا يا خواكيم "
ثم استدرت وصعدت بسرعة عبر السلالم الفخمة للقصر, متجهًا نحو جناح المتادور..
كنتُ متلهفاً لرؤية سلفادور, خصوصًا في هذا اليوم المميز.. وعندما وصلت إلى باب
الجناح, طرقت الباب مرتين, وانتظرت بضع لحظات, لكن لم أسمع أي رد.. تعجب من ذلك,
وشعرت بشيء من القلق يتسلل إلى قلبي..
قررت الدخول, فتحت الباب بهدوء ودخلت إلى الجناح, وناديت بصوت هادئ لكن
بقلق
" سلفادور, أين أنت؟ هل أنتَ هنا؟ سلفادور؟! "
بدأت أبحث عنهُ في كل زاوية.. كانت الغُرف هادئة بشكلٍ غريب, وكأنها لم
تُستخدم طوال اليوم.. عندما دخلت إلى غرفة النوم, وجدتُها خالية, مما زاد من قلقي..
نظرت في أرجاء الغرفة بتوتر, وهتفت بصوت مُرتفع وبقلق
" سلفادور! أين أنت؟ "
فجأة, سمعت صوتًا هادئًا يأتي من الشرفة المفتوحة, قائلاً
" أنا هنا, ميغيل, على الشرفة "
كان هذا الصوت صوت سلفادور, لكن شيئًا ما فيه كان مختلفًا, كان هادئًا بشكلٍ
غريب..
ركضت باتجاه الشرفة, وشعرت براحة كبيرة لأنني أخيرًا سمعت صوت صديقي,
والابتسامة عادت إلى وجهي.. عندما خرجت إلى الشرفة, هتفت بسعادة قائلا
" ها أنت ذا, لقد أخفتني قليلًا عليكَ يا رجل "
وقفت أمامه وأسندت ذراعي على حاجز الشرفة ونظرت إلى سلفادور بفرحة.. لكن في
اللحظة التي رأيت فيها سلفادور بوضوح, اختفت الابتسامة عن وجهي تماماً وحل مكانها
العبوس والقلق..
كان سلفادور يقف بهدوء غريب, عيناه تنظران إلى الأفق البعيد وكأنهُ يحاول
رؤية ما وراءه, ولم يكن يرتدي البدلة الرسمية الخاصة بزفافه التي كان من المفترض
أن يرتديها, بل كان يرتدي ملابس عادية, بنطالًا وقميصًا بسيطًا..
تقدمت بخطوات بطيئة نحو سلفادور, ووقفت بجانبه.. نظرت إلى وجهه بقلق,
وسألتهُ محاولًا أن أفهم سبب تلك النظرة الحزينة التي لم أراها على وجه صديقي من
قبل
" سلفادور, هل كل شيء على ما يرام؟ "
لم يلتفت المتادور لينظر إليّ, بل ظلت عينيه مثبتتين على الغابة, وكأن
شيئًا بها كان يربطهُ بذكريات بعيدة.. وبذهول تام سمعت سلفادور يقول بهدوء, وبصوت
خافت
" ميغيل, هل تعلم بأننا أحيانًا نعتقد أننا نعرف ما نريده, ولكن عندما
يقترب الوقت لتحقيقه, نبدأ في الشك, ونبدأ في التفكير فيما إذا كان هذا حقًا ما
نريده "
توسعت عيناي أكثر, وهتفت بصدمة كبيرة
" تباً, لا تقل لي بأنك لم تعُد ترغب بالزواج من لينيا هارفين؟ "
التفت سلفادور ببطء ونظر إليّ بعينين مليئتين بالتأمل.. لم يكن هناك فرح أو
حماس الزفاف المنتظر, بل كان هناك هدوء غريب, وكأن هناك شيئًا يثقل قلبه..
نظرت إليهِ بتوتر, وسألتهُ بنبرة مليئة بالقلق والاهتمام
" سلفادور, هل أنتَ بخير؟ ما الذي يُحزنك؟ أخبرني بصدق.. أنتَ لم تعُد
ترغب بالزواج من البروفيسورة؟ "
تنهد سلفادور ببطء ونظر مجددًا إلى الأفق, وقال بحزن
" الشيء الوحيد الذي أريده في هذه الحياة هو لينيا هارفين.. أُحبها..
أُحبها بكل جوارحي.. لقد أحببت الحياة من خلالها.. هل تعرف, ميغيل؟ لقد أحببتها
منذ أول لحظة رأيتها فيها في الجامعة.. لم تكن مثل أي امرأة أخرى قابلتُها في
حياتي "
توقف للحظة, ثم تابع بصوت يملأه الشجن
" هي ليست فقط جميلة بجمالها الخارجي, بل هناك شيء في روحها, شيء ساحر
ومفعم بالحياة يجعل كل من يراها لا يستطيع أن ينساها, مثل زهرة ساكورا.. كانت
تُضفي ضوءً خاصًا على أي مكان تدخله, كأنها القمر حين يُضيء السماء في أحلك
الليالي "
كان ميغيل يسمع صديقهُ بإنصات, فهو يعرف أن هذه اللحظة ليست عادية, كان
يدرك أن سلفادور لا يبوح بمشاعرهِ بسهولة.. رفع سلفادور رأسهُ عالياً ونظر إلى
السماء المُلبدة بالغيوم, وتابع قائلا بحزن
" لقد أردت الزواج منها ليس فقط لأنها تُسحرني, بل لأنني أردت أن أعيش
بقربها للأبد, أن أحميها من كل شيء.. كنتُ أرى فيها المستقبل, كنتُ أرى فيها
العائلة التي طالما حلمت بتكوينها, أن أعيش معها وأنجب منها أبناء يشبهونها في
نقاء قلبها وقوة روحها "
ابتسم سلفادور بمرارة, ثم قال بصوت خافت يحمل حُزناً لا حدود له
" لكن, المشكلة أن لينيا لا تُحبني, قلبها مع شخص آخر.. مع بينيتو,
شقيقي الراحل.. كنتُ أعلم هذا منذ البداية, لكنني لم أستطع مقاومة مشاعري, لم
أستطع أن أتركها, حتى لو لم أكن الرجل الذي تُحبه "
تنهد سلفادور بعمق, وصمِتَ لثواني, ثم أدار رأسه نحو ميغيل قائلاً
" لقد كنتُ غبياً, أجبرتُها على هذا الزواج, كنتُ أعتقد أنني بذلك
سأحميها, وأنها مع الوقت قد تُحبني.. لكنني كنتُ مخطئاً.. أجبرت نفسي وأجبرتُها
على العيش في هذا الوهم, وكان هذا أسوأ شيء فعلتهُ على الإطلاق "
تجمدت ملامح سلفادور للحظة, قبل أن يُتابع قائلاً بصوت مليء بالندم والألم
" لقد لمست امرأة لا تُحبني, بل تُحب شقيقي, وهذا كان ذنبي الأكبر.. كنتُ
أعمى تماماً بسبب الحب, لم أفكر بما يمكن أن يعنيه هذا بالنسبة لها, لم أكن أعلم
مدى الألم الذي سأسببهُ لها "
أخفض سلفادور رأسه, ثم ضم يده بقوة كأنهُ يحاول التحكم باندفاع مشاعره, قبل
أن يضيف بصوت مُتحشرج
" أعلم أنني قد أفسدت كل شيء, وربما لن أحظى بفرصة أخرى.. لكن لا
أستطيع أن أتصور حياتي بدونها.. وجودها في حياتي هو ما يُبقيني قوياً, وما يجعلني
أستطيع مواجهة كل شيء.. هي الروح التي أعطتني معنى لكل شيء, وهي الوحيدة التي أريد
أن أمضي معها بقية حياتي, حتى لو لم تكن تُحبني "
شعرت بالصدمة لدى سماعي لهذا الاعتراف.. لم أتوقع مثل هذا الكلام من
سلفادور في يوم زفافه.. تقدمت خطوة أخرى ووضعت يدي على كتف صديقي, ونظرت في عينيه
مباشرة, قائلا له بصدق وبحزم
" سلفادور, إياك أن تستسلم.. أنتَ تُحبها, وهذا اليوم هو يومك..
تزوجها صديقي وعلمها أن تُحبك.. ستنسى لينيا حُبها لشقيقك وستقع في حُبكَ بجنون..
أنتَ تستحق السعادة, وهي كذلك.. القدر جمعكما لسبب, والسبب واضح أمامي, فأنتما
خلقتما لبعضكما البعض "
ابتسم سلفادور ابتسامة حزينة, وكأنهُ يعلم شيئًا لا يستطيع أن يشرحه, شيء
أكبر من أي كلمات يمكن أن يقولها.. وسمعتهُ بحزن يقول
" أحيانًا ميغيل, أشعر أنني في ساحة قتال أخرى, ولكن هذه المرة لا
أُقاتل ثيرانًا, بل أُقاتل نفسي.. أشعر بالغضب من نفسي الآن لأنني سأُجبر المرأة
التي أحبُها بجنون على الزواج بي اليوم "
ساد الصمت بينهما لوهلة, فقط صوت الرياح كان يتردد, كما لو أنها تتجاوب مع
الألم الذي يحملهُ قلب سلفادور..
نظرت إلى صديقي, وأدركت أن ما يعيشه سلفادور ليس مجرد حب عابر, بل هو حب
عميق وصلب, حب يحمل كل ما يمكن للروح أن تتحمله من شغف وألم وندم..
في هذه اللحظة, كانت الشرفة تشهد على اعتراف صادق ومرير, وعلى قلب يعاني من
ألم الحب غير المتبادل, ومع ذلك لا يزال متمسكاً بالأمل, أملاً بأن الحياة قد
تمنحه ولو جزءاً صغيراً من السعادة بجانب المرأة التي أحبها..
المتادور سلفادور**
في هذه الليلة المظلمة وبينما كان الثلج يهطل بكثافة, كان سلفادور يشعر بأن
روحه تغرق في بحر من الحزن.. رؤيته لـ ساكورا وهي تبكي, وتهمس باسم شقيقه الراحل
بينيتو, وكأن ذكراه ما زالت حية في قلبها بعمق لا يمكن تجاوزه, جعلت في قلبه ألماً
غير محتمل..
كانت تلك اللحظة مؤلمة جداً له, لكنها لم تكن كافية لتوقفه عن مواصلة خطته,
وكأن الرغبة في فعل شيء من أجل من يحب كانت طاغية على أي شعور آخر.. فبعد فترة من
التأمل والوحدة داخل جناحه, قرر سلفادور أن يخرج, وكأن العاصفة الثلجية التي تصفع
نوافذ القصر كانت تناديه لتشاركه ألمه..
ارتديت معطفي ووضعت الوشاح على عنقي.. تنهدت بقوة ونظرت أمامي بتفكيرٍ عميق...
" لا يجب أن أستسلم.. أنا أحبُها بصدق " همست بتلك الكلمات
بتصميم وخرجت مُسرعاً من جناحي..
خرج سلفادور في الليل, غير مبالٍ بالطقس القاسي, وشق طريقه عبر الحدائق
المغطاة بالثلج, متجهًا نحو بحيرة دورا..
كانت الرياح تصفر وتعصف بالأشجار المحيطة, والثلج يغطي الأرض حتى صار من
الصعب تحديد الطريق, لكن سلفادور كان يعرف الاتجاه إلى البحيرة جيدًا.. تقدم
بخطوات ثابتة, الثلج يتساقط على معطفهِ الثقيل, وكل خطوة كانت تُثقل عليه لكنها
كانت تأخذه نحو الوجهة التي يريدها..
عندما وصل إلى البحيرة, رأى العمال يعملون بجد على إنهاء تجهيز الكوخ
الخشبي الذي أمر ببنائهِ في الليلة السابقة, الكوخ الذي كان ينوي مفاجأة لينيا به
بعد زواجهما.. رغم قوة العاصفة, كانت الأنوار تضيء المكان, والرجال يعملون بإصرار
دون أن يتوقفوا..
عندما وصل سلفادور إلى البحيرة, رأى العمال يعملون بجهد داخل المنزل الخشبي,
متحدين قوة العاصفة والبرد القارس.. كان الكوخ يبعث شعورًا بالدفء وسط هذا البياض
البارد, وكأنهُ رمز للأمل الذي كان يريد أن يمنحه لـ لينيا.. كان العمال منهمكين,
عيونهم مشدودة تجاه العمل, ووجوههم تعكس العزيمة..
ركض رئيس العمال فور أن لمح سلفادور, ووقف أمامه بانحناءة احترام, كان وجهه
متجمدًا من البرد, لكن الاحترام في عينيه كان جليًا.. قال بصوت قوي رغم الرياح
" سيدي المتادور, نحن على وشك الانتهاء من تجهيز الكوخ كما طلبت.. إنه
جاهز تقريبًا.. لكني أطلب منك الآن أن تعود إلى القصر, فالعاصفة تزداد سوءًا ومن
الخطورة البقاء هنا "
ابتسم سلفادور ابتسامة هادئة, تلك الابتسامة التي كانت تفيض بشيء من
الامتنان لهؤلاء الرجال الذين وقفوا معه رغم كل الظروف.. لم يرد عليه بشيء, بل دخل
إلى الكوخ.. عندما فتح الباب, شعر بدفء المكان, وبأن كل شيء قد تم وضعه بعناية..
الأثاث البسيط والأنيق, والنوافذ المزينة بستائر دافئة, والمصابيح الصغيرة التي
كانت تعطي شعورًا بالراحة, وورود كاميليا البيضاء التي زينت الزوايا.. كان الكوخ
جاهزًا كما طلب, بل وأكثر من ذلك, كان يحمل روحه, يحمل حبه ولحظات الأمل التي رغب
في أن يشاركها مع لينيا..
كان كل شيء كما تخيله, مكانًا بسيطًا ودافئًا, يحمل روح الحب والسكينة..
كان من المفترض أن يكون هذا المكان مفاجأة لها في الغد, لكن الآن بدا كأنه حلم
بعيد, ضبابي, لا يمتلكه..
بعد أن تفقد كل شيء, غادر سلفادور الكوخ عائدًا إلى القصر, غير مكترث
للثلوج التي تلتهم الطريق أمامه, وكلما خطا خطوة كانت العاصفة تهب بشدة, وكأنها
تعكس ما يشعر به من اضطراب داخلي.. وصل إلى جناحه في القصر, وكان عقله لا يهدأ من
التفكير في لينيا.. جلس وحيدًا, وبدأ يتساءل بحزن إن كان فعلاً يقوم بالشيء الصحيح
بإجبارها على الزواج منه..
كانت الأفكار تحوم حوله, تملأ قلبه بحزن لا يمكن وصفه.. لينيا... تلك
المرأة التي أراد أن يجعلها جزءًا من حياته.. كانت فكرة أنها لا تزال تحمل مشاعر
تجاه شقيقه الراحل بينيتو تؤلمه بشدة.. أرادها أن تكون سعيدة, لكن هل كان يظلمها
عبر إجبارها على الزواج منه غداً؟ هل كان يسلبها حريتها وحقها في اختيار ما تريده
فعلاً؟...
استيقظ سلفادور في صباح اليوم التالي بعد ليلة طويلة لم تغمض له فيها عين..
كان بداخله صراع كبير, بين قلبه العاشق وعقله الذي يدعوه للتفكير بحكمة.. ظل يطرح
على نفسه نفس الأسئلة مرارًا وتكرارًا, هل كان حقًا يمنح لينيا الفرصة لتكون سعيدة,
أم أنهُ كان يضغط عليها ويجعلها تعيش ألم فقدان بينيتو مرة أخرى, لكن هذه المرة
بشكل مختلف..
كان بداخلهِ صراع لم يهدأ بين عقله وقلبه.. كان يعلم أنهُ يُحب لينيا بعمق,
ولكن كان يعلم أيضًا أنها كانت تحب بينيتو, شقيقه الراحل.. كان يفكر بأن ما يفعله
الآن قد يكون ظلمًا كبيرًا بحقها.. هي لا تزال شابة, تستحق أن تُحب بحرية, وأن
تعيش حياتها بعيدًا عن قيود العائلة..
خرج سلفادور إلى الشرفة في وقت الظهيرة, والسماء كانت رمادية تنذر بتساقط
ثلوج كثيفة.. وقف بهدوء, ونظر إلى الأفق باتجاه البحيرة من بعيد, مفكرًا بما
سيفعله.. كان يشعر بأن الوقت يمضي, وأن اللحظة التي عليه أن يتخذ فيها القرار
الحاسم قد اقتربت.. بينما كان غارقًا في أفكاره, سمع خطوات تقترب داخل غرفة نومه,
ثم سمع صوت صديقهِ ميغيل يهتف باسمهِ بقلق واضح.. تنهد سلفادور برقة وأجاب صديقه
بأنهُ على الشرفة..
تقدم ميغيل بخطوات هادئة, وعيناه تحملان شيئًا من القلق.. ولأول مرة في
حياتي أتكلم أمام أحد عن مشاعري.. عندما انتهيت من البوح له بقلقي وحزني ومشاعري
نحو ساكورا, ساد الصمت بيننا للحظات طويلة..
نظرت إلى ميغيل بنظرات حزينة, ثم تحدثت بصوت هادئ, لكنه مليء بالمشاعر
" إنه اليوم, اليوم الذي سأجعل فيه لينيا زوجتي.. لكنني لا أعرف إذا كنتُ
أفعل الصواب.. أحبها, لكنها لا تزال تحب بينيتو.. أشعر بأنني أجبرُها على شيء ربما
لا تريده حقًا "
ابتسم ميغيل ابتسامة خفيفة, ثم وضع يده على كتفي وقال
" أحيانًا الحب يتطلب منا المخاطرة, أن نعطي الطرف الآخر فرصة لرؤية
الأمور من زاوية مختلفة.. ربما لم تكن لينيا تتوقع أن تجد السعادة معك, لكن هذا لا
يعني أنها لن تجدها معك صديقي.. سلفادور, أنتَ تعرف أنك لست مضطرًا لفعل شيء لا
تريده.. إذا كنتَ تشعر بأي تردد, يجب أن تستمع إلى قلبك فقط "
ابتسمت بخفة وأومأت موافقاً, ثم همست بحزم
" معك حق.. سأتزوج لينيا اليوم وسأفعل المستحيل لأجعلها سعيدة,
وتُحبني "
ساد الصمت بين الرجلين, كان الهواء باردًا, وكأن الثلج يشاركهما هذه اللحظة
من التأمل والحزن.. فجأة, قطع الصمت صوت خطوات سريعة, ثم سمعا صوت خواكيم من داخل
الجناح, كان صوته مرتعشًا وهو يهتف بذعر
" سنيور سلفادور! سيدي المتادور... "
ركضت بسرعة إلى داخل جناحي, رأيت خواكيم يقف في وسط الصالون, عينيه
مملوءتان بالدموع, وجهه متشنج من الرعب.. اقتربت بسرعة ووقفت أمامهُ, وبينما قلبي
يكاد أن يتوقف من القلق, سألته بسرعة وبتوتر
" ماذا حدث, خواكيم؟ ما بك؟ تكلم "
انهار خواكيم بالبكاء, وقال بصوت مُتهدج, محاولًا السيطرة على نفسه
" ماتادور... بروفيسورة لينيا... لقد هربت.. لم نجدها في أي مكان في
القصر "
تجمد سلفادور للحظة, وكأن الكلمات لم تجد طريقها إلى عقله, ثم شعر باندفاع
قوي من القلق والخوف يملأ كيانه, ولم يكن يعرف ما يجب فعله, فقط شعر أن جزءًا من
حياته بدأ ينهار أمامه..
نظرت إلى خواكيم, وهمست بذهول
" لينيا, هربت! "
تجمد سلفادور في مكانه, كأن الزمن توقف.. لم يستطع أن يصدق ما سمعه, وشعر
كأن شيئًا في داخله قد تحطم..
في اللحظة التي تلقى فيها سلفادور خبر هروب لينيا, تجمدت الدنيا أمامه
لوهلة.. شعر بأن قلبه توقف عن النبض, وبأن دماءه توقفت عن الجريان في عروقه.. ولكن
بعد تلك اللحظة القصيرة من الجمود, استفاق سلفادور بغضبٍ عارم, كمن استفاق من
كابوس مرعب ليدرك أن الكابوس أصبح واقعًا..
" سلفادور, ماذا ستفعل؟ إلى أين تذهب؟ انتظرني... "
هتف ميغيل بقلق عندما ركض سلفادور مُسرعًا خارجاً من جناحه, وعيناه يملؤهما
اللهب.. نزل السلالم بسرعة جنونية, وهو يهتف بأمرٍ مدمّر لرجاله, صوتهُ كان يملأ
القصر ويُشعر كل من يسمعهُ أن هناك كارثة قد حلت..
خرج سلفادور من القصر, وكأن عاصفة من الغضب قد اجتاحته.. الهواء البارد لم
يكن يهمه, كان شعوره الوحيد هو الحاجة الملحة للعثور على لينيا.. كان صوته يهز
المكان, وهو يأمر رجاله بالتحرك بسرعة
" لينيا هربت.. ابحثوا عنها, انطلقوا الآن.. تفرقوا, ابحثوا في الغابة,
عند البحيرة, على الطريق.. ابحثوا في كل زاوية, في كل ركن.. إن أصابها مكروه,
سأقتل كل واحد منكم بيدي "
نظر سلفادور إلى رجاله الذين تجمدوا أماههُ بذعر عند مدخل القصر, وصرخ
بصوتٍ ملؤه الغضب المدمر ومليء بالتهديد, كان صوته ينضح بالغضب, وعيناه تلمعان
بحزم وقسوة غير معهودتين
" تحركوا بسرعة.. ابحثوا عنها.. لا أريد أي تأخير.. لا تتركوها تضيع
بين الثلوج.. إن أصاب لينيا أي مكروه, سأقتلكم جميعًا, لن أرحم أحدًا منكم, ولن
ينجو أحد من غضبي إن أصابها مكروه "
كان يهددهم بصدق, وعينيه تملؤها النار.. لم يكن أيٌ منهم يجرؤ على النظر في
وجهه, كانوا يعرفون جيدًا أن المتادور عندما يغضب يصبح مثل الوحش الجريح, مستعدًا
للقتال حتى آخر رمق.. ولم يكن هناك أحد يمكنهُ الوقوف أمامه وأمام غضبهِ الكاسح..
لم ينتظر سلفادور أي رد من رجاله, بل استدار وركض باتجاه الإسطبل.. عندما
وصل, كان قلبهُ يطرق بشدة, وكأنه على وشك الانفجار.. فتح باب الإسطبل, وإذا به يرى
حصانه الأسود, إيتان, يقف أمامه, كما لو كان ينتظره..
بمهارة لم تهتز بفعل الغضب, امتطى سلفادور ظهر إيتان, وأمسك بلجامه بإحكام,
ثم انطلق خارج الإسطبل بسرعة, تاركًا خلفه ضجيج العاصفة ومشاعر الخوف والاضطراب
تتخلله..
كان يشعر وكأن كل لحظة تمر هي وقت ثمين يمكن أن تكون فيه لينيا في خطر..
دفع الحصان لينطلق بسرعة عبر المروج المغطاة بالثلوج, متجهًا نحو الغابة حيث كان
متأكدًا أن لينيا قد ذهبت إليها, بعيدًا عن الأنظار..
كان الطريق نحو الغابة مليئًا بالثلوج, وكان حصانه يخطو بصعوبة, لكن إيتان
كان قويًا, و سلفادور كان يعرف أنه سيجد لينيا مهما كانت الصعوبات.. في عقله, كانت
فكرة واحدة تتردد.. يجب أن يجدها.. كانت لينيا في خطر, وكان يعرف كم هي ضعيفة أمام
هذا البرد القاسي, كان يعلم أنها بالتأكيد ترتجف تحت الثلوج, غير محمية من العاصفة
القادمة.. كان يعلم جيدًا أن الغابة في هذا الوقت من العام تكون شديدة البرودة,
والثلوج تجعلها خطرة لأي شخص لا يملك مأوى.. كان يفكر بها, بيديها المُرتعشتين وفستان
زفافها الذي لم يكن مناسبًا لمثل هذا الطقس..
كان سلفادور يبحث بخوف, عيناه تتحركان بسرعة, يُحدق بين الأشجار, يحاول
سماع أي صوت, أو رؤية أي علامة تدل على وجودها.. كان يشعر بالبرد يخترق عظامه, لكن
الخوف الذي يتملكه على لينيا كان أعمق وأقسى من برد العاصفة..
بعد وقت من البحث, في عمق الغابة, أوقف سلفادور حصانه ليلتقط أنفاسه.. بدأ ينظر
حوله بقلق, محاولًا العثور على أي إشارة تدل على وجود لينيا, يتساءل إلى أين يمكن
أن تذهب..
" لينيا, ساكورا.. لينيا!... "
هتف سلفادور للمرة المليون باسم حبيبته, وصدى صرخاته تردد في أنحاء الغابة
بكاملها..
كان المكان موحشًا, الأشجار طويلة وصامتة, والثلوج تكسو كل شيء بطبقة بيضاء
ناصعة, تُخفي أثر أي شخص قد مر من هنا..
تنهدتْ بقوة, وهمست بقلق أحرق روحي
" ساكورا, حبيبتي.. أين أنتِ؟!.. كوني بخير, أرجوكِ "
نظر سلفادور باتجاه بحيرة دورا, كان على وشك أن يتخذ قرارًا بالتوجه نحوها,
لكن فجأة, هبت الرياح بشكل غريب, بشكل معاكس للاتجاه الذي كان يريد الذهاب إليه..
شعر وكأن الرياح نفسها تحاول إرشاده, توجهه بعيدًا عن البحيرة, كما لو كانت تدله
على الاتجاه الصحيح للعثور على لينيا.. كان هذا الشعور غريبًا, لكنهُ قوي, وكأن
الطبيعة نفسها تناديه ليذهب في هذا الاتجاه..
نظر سلفادور إلى الاتجاه المُعاكس, إلى تلك الغابة الكثيفة حيث لا يوجد أي
طريق واضح, وفكر للحظة.. ثم قرر, بلا تردد أن يتبع تلك الرياح..
كانت الرياح تلعب دور المُرشد, وكأنها تخبره بأن هذا هو الطريق الذي يجب أن
يسلكه.. نظر سلفادور للحظة باتجاه الطريق الذي يؤدي إلى البحيرة, ثم قرر بثقة أن
يستمع إلى إحساسه, إلى الرياح التي بدت وكأنها تهمس له بأن لينيا هناك..
شدد قبضته على لجام الحصان, وضغط على جنبيه ليحثه على التحرك, وبدأ يتجه في
الاتجاه الذي أشارت إليه الرياح..
كان يشعر في داخله بأن هذا هو الطريق الذي سيقوده إلى لينيا, وأن الطبيعة,
أو ربما قلبه, كان يدله نحوها.. كان يعلم أن هذا الطريق قد يكون فرصتهُ الأخيرة
لإنقاذها, ليجدها قبل أن تفقد نفسها في هذا البرد القاتل..
سحب لجام الحصان باتجاه الطريق الذي فتحته الرياح أمامه, وانطلق في ذلك
الاتجاه, قلبه يملأه الأمل والخوف معًا.. كان يعرف أن عليه العثور عليها بأي ثمن, وأنهُ
لن يتوقف حتى يجدها, مهما كانت الظروف, ومهما كان الطريق صعبًا..
كانت الرياح تهمس بين الأشجار العالية في الغابة, تُحرك الثلوج التي كانت
تملأ المكان بطبقة بيضاء ناصعة.. كان سلفادور يُراقب الغابة من جانب إلى آخر
بتمعُن, يبحث عن أي علامة, أي دليل يقوده إلى لينيا.. في هذه اللحظة, وبلا مقدمات,
عينيه تركزتا على شيء لم يكن يتوقع أن يراه, وبحركة سريعة شد سلفادور لجام حصانه
وأوقفه فجأة..
نظر إلى ما كان أمامه.. آثار أقدام واضحة كانت تغرس نفسها في الثلوج
الناعمة, تمتد عبر الطريق الضيق بين الأشجار.. شعور غامر بالفرح والارتياح اجتاح
سلفادور, كأن قلبه الذي كان يخفق بسرعة عاد للحظة ليهدأ..
قفز سلفادور عن ظهر إيتان بسرعة, ثم أمسك لجام حصانه بقوة, وعيناه لا
تزالان تتابعان آثار الأقدام أمامه, ولكن فجأة تجمدت نظراته بذهول تام.. كانت هناك
آثار أخرى بجانب آثار الأقدام التي كان يعتقد بأنها تعود لـ لينيا.. كان ينظر
بذهول إلى أثار الأقدام أمامه, لم تكن لشخص واحد, بل لشخصين! كانت الخطوط المزدوجة
واضحة في الثلج..
انقبض قلبه, والغضب اختلط بالقلق الذي سيطر عليه.. تجمد الدم في عروقه,
عيناه تلمعان بحيرة وغضب.. من كان معها؟ من تجرأ على مرافقتها؟ بل من تجرأ على
مساعدتها بالهروب؟ من هو الذي كان يسير بجانبها في هذه الغابة الموحشة؟!..
نظرت إلى الأثار أمامي بقلق, وهمست بصوت يكاد لا يُسمع, وكأنما كنتُ أسأل
الفراغ
" من كان معكِ, ساكورا؟ "
كانت عيناه تدوران في المكان, يبحث عن أي إشارة أخرى, أي علامة تقوده إلى
حقيقة الشخص الذي كان مع لينيا.. وبينما هو في تلك الحالة من التركيز والتوتر, لمح
شيئًا يلمع من بعيد بين الثلوج, شيء لم يكن يتوافق مع الطبيعة البيضاء المُحيطة به..
بلا تردد, ترك لجام الحصان وركض نحو ذلك الشيء الغريب الذي لفتَ نظره, والذي
بدا كأنه يرسل نداءً له.. الثلوج كانت تُعيق خطواته قليلاً, لكنه كان يسارع, قلبه
يخفق بشدة, يشعر أن شيئًا ما ينتظره..
اقترب بخطوات سريعة, وكلما اقترب ازداد قلبه في ضرباته وكأنه يعلم أن ما
يراه يحمل له شيئًا مهمًا.. وعندما وصل إليه, انحنى على الفور, ومد يده ليزيل
الثلوج المتراكمة على ذلك الشيء..
أخذ سلفادور يمسح الثلوج عنه بأصابعه ببطء, وكأنما يخشى مما سيكتشفه..
وعندما أزاح الثلوج تمامًا, تجمد في مكانه, وجهه تحوّل إلى قناع من الذعر المفاجئ..
إذ رأى أمامه الحذاء من الكريستال ذو الكعب العالي, الحذاء الذي اختاره بنفسه لـ
لينيا, لتنتعله مع فستان زفافها اليوم..
تجمد سلفادور في مكانه, نظر إلى الحذاء بين يديه بذهول, شعر وكأن الثلوج
التي حوله قد تسربت إلى قلبه, لتجمدهُ تمامًا.. كانت هذه اللحظة كالصاعقة, تخبره
أن شيئًا ما سيئًا قد حدث, أن لينيا في خطر.. كان وجهه يعكس مزيجًا من الغضب
والخوف والذعر..
حمل فردة الحذاء ببطء, واستقام بوقفته.. كانت أصابعه ترتجف وهو يمسك بفردة
الحذاء, وكأنما يعجز عن التصديق بأن لينيا قد تركته هنا.. نظر حولهُ بفزع, كانت
الرياح تصدر صفيراً كئيبًا بين الأشجار..
بدأ يهتف بجنون, صوته يرتجف بين الأشجار التي لم تكن تملك أي إجابة له
" لينيا! لينيا!.. حبيبتي, أين أنتِ؟ ساكورا, أين أنتِ؟ "
كان يهتف بصوتٍ يحمل كل الألم والخوف الذي يشعرُ به, صدى صرخاته يتردد في
الغابة الواسعة, لكن الرد الوحيد الذي تلقاه كان همس الرياح وأصوات العاصفة
الثلجية القادمة..
عاد ليهتف بجنون, بصوت يمزج بين القوة والألم
" لينيا! أين أنتِ؟! أين أنتِ حبيبتي؟ "
صدى صوته ارتد في الغابة, ليصبح جزءًا من الطبيعة الجامدة من حوله.. الرياح
لم تجبه, والأشجار ظلت صامتة, ولكن صوته كان مليئًا بالغضب والقلق, وكأنما يناديها
من أعماق قلبه, قلبه الذي لم يكن يستطيع تحمل فكرة فقدانها..
كانت مشاعره تغلي, كان كل نبضة من قلبه تصرخ باسمها, كل ذرة من جسده تريدها
أن تكون بأمان.. وقف هناك في تلك الغابة الباردة, يحمل فردة الحذاء بيده, وعيناه
تملأها الدموع, وعزيمته تتجدد للعثور على لينيا مهما كلفهُ الأمر, فقد كان يعلم أنهُ
لن يهدأ لهُ بال حتى تكون ساكورا بين يديه مرة أخرى, حتى يرى عينيها وتطمئن روحه
بأنها بأمان..
رمى سلفادور فردة الحذاء بعيداً, ثم استدار وركض باتجاه حصانه إيتان, وصعد
على ظهره, وقرر متابعة البحث.. وبينما كان المتادور يتبع تلك الأثار, كان قلبه
يحترق, وكان عقله يدور بألف فكرة, لكنه لم يكن ليتوقف حتى يجدها, حتى ينقذها من أي
خطر قد يواجهها..
بدأ الظلام يلف الغابة, وبدأت الثلوج تتساقط بهدوء, وكأنها تحاول أن تُخفي
كل أثر للماضي والحاضر.. وكانت الرياح تعصف في الغابة, تملأ الأجواء بالبرد القارس,
والأشجار تهمس في صوتٍ خافت وكأنها تتحدث سرًا مع بعضها البعض..
فجأة, أوقف سلفادور حصانه إيتان, ونظر أمامه, وقلبه كاد يتوقف من الرعب,
عيناه متسعتان بذعر, وكأن العالم من حوله تجمد للحظة.. على بعدٍ قليل, كان هناك
شيء يلمع بين الثلوج البيضاء.. لون أحمر, لون الدم.. كان الثلج متسخًا بلون أحمر
دموي, وكأنهُ يروي حكاية مأساة لم يرغب سلفادور أن يفهمه.. كانت الثلوج مغطاة ببقع
من اللون الأحمر الدموي, وكأنها لطخة جريمة غادرة ضد براءة البياض..
لم يكن بحاجة إلى التفكير, كان يعرف في أعماق قلبه أن هذا الدم يخص حبيبته,
لينيا.. شعر كأن صاعقة ضربت جسده.. انطلق سلفادور كالعاصفة, جعل حصانه إيتان يعدو
بأقصى سرعة باتجاه تلك البقعة الدموية, وكأن كل لحظة تأخير كانت تزيد من عذابه..
كان يشعر أن قلبه قد قفز إلى حلقه, وأن أنفاسه باتت لا تتماسك, والخوف
يكتسحه كما لم يفعل من قبل.. كان يدفع حصانه للأمام, ليعدو بسرعة غير معهودة,
الرياح تضرب وجهه, لكن الألم في قلبه كان أشد من البرد, ومن كل شيء آخر..
كان حصانه إيتان يركض بكل قوته, كأنه يعرف مدى أهمية الوصول إلى هناك, وكان
سلفادور يصرخ به ليمضي أسرع وأسرع.. عندما اقترب أخيرًا من الثلج الأحمر, شد
اللجام وأوقف إيتان فجأة, وكأن صدمة الحقيقة ضربته بكل قسوة, وقلبه ينبض بعنف وكأنهُ
يريد أن يخرج من صدره..
استقرت عيناه على الجسد المُلقى أمامه على الثلوج الحمراء, وجفّ كل صوت في
حلقه.. كان جسد حبيبته لينيا, ممددًا على الأرض, محاطًا بالدم الذي صبغ الثلج
حولها.. وجهها كان شاحبًا, مثل الثلج الذي غطى الغابة, وعيونها مُغلقة, كأنها في
حلم بعيد.. شعر سلفادور وكأن الحياة تهرب منه, وكأن شيئًا حقيقيًا قد انكسر داخله..
" لاااااااااااااااااااااااا... حبيبتي.... اعععععععععععععع.....
"
صرخة انطلقت منه, صرخة من أعماق قلبهِ المكسور, صرخة كانت كافية لتجعل
الغابة تبكي.. الرياح التي كانت تعوي كأنها فقدت نفسها, هدأت فجأة, وكأنها تأثرت
بحزن سلفادور على العروس المغدورة.. كانت صرخته تحمل كل الألم, وكل الفقد, وكل
الندم, وكل الحزن..
قفز عن ظهر حصانه دون تفكير, ركض بأقصى سرعة, وعندما وصل إلى جسد لينيا,
سقط على ركبتيه بجانبها, وعيناه تجمدتا على وجهها الأبيض المُتجمد.. كان ينظر
إليها وكأنما كان يحاول أن يراها حية, يراها تبتسم له, لكنه لم يرَ إلا الشحوب
والخوف الذي غمر قلبه..
في هذه اللحظة, شعر سلفادور وكأن الزمن توقف, وكأن الكون كله اختفى ولم
يبقَ سوى هذا المشهد المؤلم أمامه.. أغمض عينيه بقوة وصرخ بجنون مُطلق
" لاااااااااااااااااااااااا.... "
صوت صرخته ارتفع, اخترق الهدوء القاتل للغابة, كان صراخًا من قلب مكسور,
صراخًا جعل الرياح تهدأ, وكأنها تُشارك هذا الألم, وكأن الغابة بأكملها تبكي على
العروس المغدورة..
فتحً سلفادور عيناه لتجمدان على وجهها المتجمد, كانت برودة الموت قد أخذت
منها كل ما كان يجعلها دافئة وحية..
الدموع تساقطت على وجنتيه, وهو يهمس باسمها بصوت مكسور
" لينيا... حبيبتي.. حبيبتي.. ساكورا, حبيبتي... "
كان صوته بالكاد مسموعًا, مليئًا بالعجز والخوف.. كانت يديه ترتجفان وهو
يمدهما نحو وجهها, لم يكن يصدق ما تراه عيناه, ولم يكن يريد أن يُصدق.. بحركة
بطيئة, أمسك وجهها البارد بين يديه, وعندما شعر ببرودة جسدها, صرخ بجنون, ضم رأسها
إلى صدره, وبدأ يبكي كالطفل الذي فقد أغلى ما يملكه..
ضم جسدها المتجمد إلى صدره بقوة, وكأنه يريد أن يعيد الحياة إليها, دموعه
كانت تغرق وجهه وهو يهمس بين بكائه
" لا تموتي... أرجوكِ يا لينيا, لا تموتي... لن أستطيع العيش بدونكِ,
أرجوكِ, استيقظي... أرجوكِ يا حبيبتي, ابقي معي "
بدأ المتادور يبكي بجنون, دموعه لم تتوقف, صوت نحيبه كان يملأ المكان,
يرتجف من البرد ومن الألم.. كان يحتضن جسدها المتجمد إلى صدره, يحاول بشدة أن
يعطيها كل دفء قلبه, كل ما يملك من حب..
أبعدت وجهها عن صدري قليلا ونظرت إليه بخوف.. مسحت برقة وجنتيها الشاحبتين,
ثم أخفضت رأسي وقبلت شفتيها المُتجمدتين برقة, ثم نظرت إليها وهمست بحرقة
" لن تموتي حبيبتي.. لن تموتي.. لن أسمح لأي شيء بأن يأخذكِ مني
"
كان صوته يملأ المكان بألم لم يعرفه من قبل, كل كلمة كانت تعبر عن خوفه, عن
حبه العميق الذي لم يكن مستعدًا لفقدانه.. كانت الرياح قد هدأت, وكأن الغابة
بأكملها كانت تحترم لحظته هذه, تحترم حزنه الذي كسر قلبه, وكانت الثلوج تتساقط بهدوء
وتلمع كما لو كانت تودع حبه المكسور..
كانت اللحظات تمر ببطء, و سلفادور كان يبكي دون خجل, يبكي على حبه الذي كاد
أن يضيع منه, يبكي على الحلم الذي بدأ يتبدد أمام عينيه.. لكنه كان يعلم في أعماق
قلبه أنه لن يستسلم, لن يترك لينيا تموت, لأنها كانت نبض حياته, وكل ما أراد أن
يعيشه..
وقف سلفادور في قلب الغابة, بين الثلوج التي تلطخت بدماء حبيبته, وهو يحمل
جسد لينيا بين ذراعيه.. كانت عيناه مغرقتين بالدموع, لكن شيئًا من التصميم الهادئ
ظهر على وجهه.. نظر إلى وجهها الأبيض المتجمد وهمس بقوة وبثقة, وكأنهُ يتحدى
العالم بأسره
" لن تموتي اليوم, ساكورا..
لن أدعكِ تذهبين مني بهذه السهولة, لن أسمح للموت أن يأخذكِ مني "
بكل القوة التي يملكها, رفع سلفادور جسد لينيا ووضعها بحذر على ظهر حصانه
إيتان, وأخذ موقعه خلفها, ضامًا جسدها المُثلج إلى صدره بإحكام ليحميها من البرد
الذي يلتهمها.. مد يديه ليحافظ على توازنها, وهمس لـ إيتان, وكأن الحصان يفهم
كلماته
" أسرع يا إيتان, أسرع... لا وقت لنضيعه "
صوت الرياح يعصف من حوله بينما الحصان ينطلق بسرعة بين الأشجار, الثلوج
تتطاير من تحت حوافره وكأن الأرض نفسها تفسح لهُ الطريق.. كان قلب سلفادور ينبض
بالقلق والخوف, لكنهُ لن يسمح للضعف بأن يسيطر عليه.. كانت عيناه مركزة, وعزمه لا
يتزعزع, كل ما يهمه الآن هو أن ينقذ لينيا, أن يصل بها إلى المستشفى قبل فوات
الأوان..
كان الطريق إلى أقرب مستشفى في القرية طويلاً, والثلوج تجعل التقدم صعبًا,
لكن سلفادور لم يتوقف لحظة.. كان يضغط على جانبي إيتان ليزيد من سرعته, وكان قلبه
ينبض بجنون.. كان يسمع صوت أنفاسه تتسارع, وكانت عيناه لا تفارقان وجه لينيا
الشاحب, وكأن مجرد النظر إليها يمكن أن يطمئن قلبه ولو قليلاً..
عندما وصل إلى المستشفى أخيرًا, كان الهواء في القرية مليئًا بالصمت
المتوتر.. بمجرد أن رأى الطاقم الطبي سلفادور ينزل من على الحصان, ركض الأطباء
نحوه, أخذوا لينيا من ذراعيه بحذر, واندفعوا بها إلى داخل المستشفى, نحو غرفة
العمليات.. كان وجه سلفادور متجمدًا, قلبه يئن في صدره, لكن عيناه كانتا مليئتين
بتصميم لم ينكسر.. لم يكن ليقبل أن يخسرها..
تبعتهم باتجاه غرفة العمليات, لكن الطبيب منعني من الدخول, إذ وقف أمامي
وتأملني بنظرات حزينة, وقال باحترام
" ماتادور, لا يمكنني السماح لك بالدخول, آسف لذلك.. من الأفضل أن
تبقى هنا "
نظرت إليه بجدية قائلا
" أنقذها.. أعدها إليّ.. افعل ما بوسعك لتنقذها "
أومأ الطبيب موافقاً, ثم دخل إلى غرفة العمليات وتم إغلاق الباب.. ظللت
واقفًا عند الباب أنظر إلى الغرفة, وأذناي لا تسمعان سوى دقات قلبي المتسارعة,
بينما كل شيء آخر كان يذوب في الخلفية..
بدأت الأخبار تنتشر في قرية اكستريمادورا بسرعة كالنار في الهشيم, بأن
المتادور سلفادور وجد عروسه المفقودة وأنهما الآن في المستشفى.. أهل القرية كانوا
يتحدثون بقلق, الأحاديث انتشرت بين الناس, والكل كان يترقب ما سيحدث, وكأن الوقت
توقف في القرية بأكملها..
بينما كان سلفادور يقف أمام باب غرفة العمليات, وجهه جامد كالصخر, وعيناه
مركزة على الباب وكأنهُ ينتظر منه أي حركة, دخل صديقه ميغيل وبرفقته خوان على
الكرسي المتحرك.. اقترب ميغيل من سلفادور, وقف بجانبه, وهمس باسمه بصوت مليء
بالقلق
" سلفادور, هل أنتَ بخير؟ سمعنا بأنك هنا مع لينيا, لذلك أمرت الجميع
بالتوقف عن البحث عنها "
لكن سلفادور ظل صامتًا لم يتفوه بكلمة, لم يلتفت حتى إلى ميغيل.. كان وجهه
متحجرًا كالصخر لا يظهر أي تعبير, وعيناه لا تزالان تراقبان باب غرفة العمليات,
وكأنه يخشى أن يضيع منها ولو لحظة أخرى.. ميغيل شعر بالقلق يتزايد داخله, نظر إلى
خوان الذي كان يراقب الموقف بصمت, ثم قربَ خوان كرسيه المُتحرك من سلفادور, بلع
ريقه بتوتر, ثم قال بنبرة مترددة
" سلفادور, أين وجدتها؟ ماذا حدث لها؟ "
التفت سلفادور ببطء نحو خوان, وعيناه كانتا تشعان بالغضب, نظرة جعلت خوان
يبلع ريقه بتوتر, وكأن شيئًا باردًا اجتاح جسده.. لم يكن خوان يعرف ما الذي أغضب
سلفادور بهذا الشكل, لكنهُ شعر بأن الوقت ليس مناسبًا لطرح المزيد من الأسئلة..
لحظات قليلة, انفتح باب الغرفة وخرج الطبيب ووقف أمام سلفادور, وقال لهُ
بسرعة
" لقد خسرت الكثير من دمائها, تحتاج إلى نقل دم بسرعة "
شحب وجه سلفادور, ولكن ما أن لفظ الطبيب بفئة دم لينيا, هتف خوان بسرعة
وبحماس
" أستطيع التبرع لها, فأنا دمائي من نفس فصيلة دمها "
تنهد سلفادور براحه وكأن ثقل كبير انزاح من فوق كاهله.. نظر بامتنان إلى خوان بينما كان يُحرك كرسيه
المُتحرك وهو يتبع الممرضة.. أما الطبيب عاد ليدخل إلى غرفة العمليات..
مرت ساعة كاملة, كانت أطول ساعة في حياة سلفادور, ساعة مليئة بالصمت والقلق
والانتظار.. كان يمسك بيده مقبض الباب, وكأنه يريد أن يفتحه بنفسه ويأخذ لينيا
للخارج, لكن كل ما كان يستطيع فعله هو الانتظار.. وأخيرًا, انفتح الباب وخرج
الطبيب من الغرفة وهو يتنهد براحة, نظر إلى سلفادور, وقال بصوت مطمئن
" لقد تجاوزت مرحلة الخطر, حالتها مُستقرة الآن "
شعر سلفادور بأن ثقلاً كبيرًا سقط من على صدره, لكنه لم يظهر أي تعبير..
فقط انحنى رأسه قليلاً, وكأنهُ يشكُر القدر الذي منحهُ هذه الفرصة.. كانت عيناه
ممتلأ بالدموع, لكنهُ لم يذرفها, فقط أغمض عينيه للحظة, وأخذ نفسًا عميقًا, يحاول
استعادة هدوءه.. فتح عينيه, نظر إلى الطبيب, وكأنما يريد أن يتأكد مرة أخرى, ثم
همس بصوت متهدج
" شكراً... شكراً لك "
اقترب ميغيل ووضع يده على كتف سلفادور برفق, وقال له بصوت مليء بالطمأنينة
" الحمدُ الله على سلامتها.. لقد نجحتَ يا صديقي وأنقذتها من الموت
"
هززت رأسي موافقاً, ثم نظرت إلى خوان وقلتُ له بجدية
" شكراً لكَ خوان, لأنك تبرعتَ لها بالدم "
ابتسم خوان بوسع, وقال مُمازحاً
" لا داعي لتشكرني ابن عمي.. سأرسُل إليك فاتورة عبر البريد
الإلكتروني.. كما سأضيف عليها الضريبة على القيمة المضافة "
وقف سلفادور بلا حراك أمام غرفة العمليات, وبدت ملامحهُ مُتجمدة, دون رد
فعل تجاه مزاح خوان الخفيف.. كانت عيناه ما زالتا تحملان قلقاً عميقاً, وقلبه يرفض
الخروج من دائرة الخوف على لينيا.. فجأة, تقدم الطبيب نحوه ووقف أمامه, وكان وجهه
جاداً, مما جعل سلفادور ينتبه فوراً..
قال الطبيب بصوت منخفض
" سنيور دي غارسيا "
تنهد الطبيب بعمق, وعيناه تنظران مباشرة إلى عينَي المتادور.. لم يكن هناك
تردد في كلماته, إذ قال بوضوح
" لينيا هارفين, تعرضت لضربة قوية في رأسها, هناك دليل واضح على أن
هناك من حاول قتلها.. وللأسف, نحن متخوفون من تأثير هذه الضربة على دماغها عندما
تستيقظ, هناك احتمال كبير بأنها قد تفقد ذاكرتها.. لذلك أمرت بتركها حالياً في غرفة
العناية المركزة ومراقبتها حتى تستيقظ "
صمت قاتل حل بين الجميع بعد مغادرة الطبيب, لم يكن هناك صوت سوى دقات قلب
سلفادور المتسارعة.. تجمد في مكانه, وكأن الدم توقف عن التدفق في عروقه, ثم استعاد
توازنه بسرعة وقال بصوت منخفض لكنه ممتلئ بالغضب المكتوم
" ميغيل, أعطني هاتفك الخلوي "
ميغيل لم يتردد لحظة واحدة, سلمه هاتفه, أمسك سلفادور الهاتف واتصل برئيس
حرسه, بيريز أراغون.. نبرة صوته لم تكن تحمل أي تردد, بل كانت مليئة بالسلطة
والغضب الصامت
" بيريز, انتظرني مع جميع الرجال في باحة القصر.. أريدك أن تراجع
كاميرات المراقبة التي وضعناها مؤخراً باتجاه الحديقة الخلفية.. افعل ذلك الآن..
وإياك أن تسمح لأحد بالخروج من القصر, حتى لو كانت جدتي "
نظرة قلق واضحة ارتسمت على وجه خوان وهو يستمع لمكالمة سلفادور.. بمجرد أن
أنهى سلفادور المكالمة سلمى الهاتف لـ ميغيل.. بلع خوان ريقهُ بقوة وسأل سلفادور
بصوت مليء بالتوتر
" لماذا أمرتَ بيريز بفعل ذلك؟ ماذا يحدث؟ "
التفت سلفادور ببطء نحو خوان, نظراته كانت جامدة وغاضبة, عينيه مظلمتين
وكأن الغضب والحزن قد تحول إلى شعلة باردة ومخيفة.. تحدث بنبرة ثقيلة ومظلمة
" بينما كنتُ أبحث عن لينيا في الغابة, وجدت آثار أقدام لشخص آخر.. كان
هناك شخص معها, شخص ساعدها على الهروب من القصر.. وهذا الشخص حاول قتلها "
كانت الكلمات قاسية, لكن الحقيقة التي تحملها كانت أكثر قسوة.. عيناه كانتا
تلمعان بوهج خطير, وبدون تردد, قال بنبرة مرعبة ومليئة بالعزم
" سأجد هذا الشخص, وسأقتله بنفسي "
ثم استدار وغادر المستشفى, كانت خطواته ثابتة وقوية, كأنهُ يعرف تماماً ما
يريد فعله, تاركًا خلفه خوان و ميغيل, لا يدرون ماذا يقولون أو كيف يتصرفون..
كان وجه خوان شاحب, صوت الكلمات الأخيرة التي نطق بها سلفادور يرن في أذنيه..
شعر بالخوف الشديد, نظر أمامه بذعر وهمس بصوت يكاد لا يُسمع
" كارميتا... "
كانت الشكوك تتزايد داخله, والخوف بدأ يأكل من راحته, وكأن كل ما يعرفه قد
تحطم.. فجأة, رن هاتف خوان, نظر إلى الشاشة ورأى رقم جدته رامونا.. رفع الهاتف إلى
أذنه وأجاب بسرعة
" نعم, جدتي "
وما ان أجاب حتى سمع صوتها المهتز بالخوف
( خوان! المفتاح... مفتاح باب الحديقة الخلفي السري, لقد اختفى.. بحثت عنهُ
في كل مكان ولم أجده )
شحب وجه خوان أكثر, تحولت عيناه إلى لون رمادي من الذعر, وانعقدت كل عضلة
في جسده, وتوقف الزمن للحظة قبل أن ينطق باسم شقيقته بصوت يائس
" كارميتا.. ماذا فعلتِ؟ "
ثم فجأة, هتف لجدته, صوته مليء بالذعر
" جدتي, اذهبي بسرعة إلى غرفة كارميتا, يجب عليكِ حمايتها... سلفادور
قادم وسيقتلها.. سيقتلها.. سيقتلها اليوم "
كانت الكلمات تخرج من فمه مليئة بالهلع, وكأن الزمن لا يرحمه.. كان يعلم
جيداً أن الغضب الذي شاهدهُ في عيون سلفادور ليس من النوع الذي يمكن إيقافه بسهولة,
كان غضباً لا يعرف الرحمة, وغضباً يهدد بإنهاء كل شيء..
أغلق المكالمة بسرعة, وقلبه ينبض بشدة كأن روحه تحاول الهروب من جسده.. لم
يكن لديه وقت للتفكير أو للندم, هتف لـ ميغيل ليذهبا فوراً إلى قصر الجوهرة.. كل ما كان يشغله هو إنقاذ شقيقته من غضب سلفادور الذي لن يرحم أحدًا, خاصة بعد ما
اكتشفه..
كارميتا**
كانت الثلوج تملأ الغابة بهدوء مرعب, إلا في تلك البقعة حيث كان جسد لينيا
مُلقى على الأرض بلا حراك, حولها الثلج تحول إلى اللون الأحمر القاني, ملطخًا
بعلامات الموت الغادر.. وقفت كارميتا على بعد خطوة واحدة من جسد لينيا, وجهها شاحب,
وعيناها متسعتان بالذعر.. كانت تنظر إلى الجسد المُلقى أمامها, أنفاسها متقطعة,
وتسمع دقات قلبها تصخب كأنها طبول موت تطرق في أذنيها..
يدها كانت لا تزال مشدودة على الحجر الذي استخدمته, الحجر الذي تسبب في هذا
المشهد المُرعب.. بدأت تشعر ببرودة في جسدها, ليس بسبب الثلج, بل بسبب الخوف الذي
أخذ يتملكها, شعورٌ كاسح بأنها عبرت خطًا لا يمكن الرجوع عنه..
رمت الحجر من يدها, وكأنها تخلصت من شيء آثم, لكنه كان أثقل من أن يُلقى
بعيدًا.. كان البرد يتسرب من الأرض المكسوة بالثلج, يزحف تحت ملابسها, ويجعل كل
ذرة في جسدها ترتجف..
ركعت كارميتا ببطء بالقرب من جسد لينيا, يدها ترتجف وهي تقترب من كتفها,
همست بصوت خافت, مليء بالذعر
" لينيا... استيقظي, أرجوكِ, لا تفعلي هذا "
هزت كتف لينيا بخفة, وكأنها تحاول أن تُعيد الحياة إلى جسدها المتجمد..
ولكن لم يكن هناك أي استجابة.. أحست كارميتا وكأن الهواء من حولها يختفي, وكأن
العالم كله أصبح بلا صوت, سوى صدى صرخات قلبها الخائف..
تراجعت كارميتا للخلف ببطء, عيناها متسعتان, انتفض جسدها إلى الخلف وكأنها
تلقت ضربة غير مرئية.. وبدأت تهمس بذهول
" لقد قتلتُها.. قتلتُها.. لقد قتلت لينيا "
انتفض جسدها بالكامل، وكأنها تتلقى صدمة كهربائية, دموعها بدأت تتساقط دون
توقف وهي تنظر إلى جسد لينيا, وبكاؤها يخرج كأنه تمتمات ملعونة, وهي تقول
" لم أكن أقصد.. لم أكن أقصد قتلها.. أقسم أنني لم أكن أقصد.. لا أدري
ما أصابني؟.. لم أكن أقصد قتلها "
لكن لم يكن هناك من يسمعها, لم يكن هناك من يصدق أو يكذب.. كانت وحدها وسط
الثلوج, مع الجسد الذي سلبته الحياة, مع الذنب الذي سوف يلاحقها كظِل لا يختفي..
انهارت كارميتا تمامًا, وبدأت تبكي بفزع, دموعها تتدفق كالنهر.. ثم فجأة,
وكأنها أدركت حجم الفاجعة التي وقعت فيها, بدأت تركض وبكل قوتها تبتعد عن هذا
المشهد الذي بدأ يُطاردُها وكأنه كابوس لن تستيقظ منهُ أبدًا..
كانت تبكي وهي تركض, الدموع كانت تُخفي الرؤية أمامها, لكنها استمرت, حتى
وصلت إلى باب الحديقة الخلفي السري.. فتحته بعجلة, أغلقت الباب خلفها, لكن في
عجلتها نسيت المفتاح في القفل, لم تفكر, لم تدرك.. كان كل ما تريده هو الهرب,
الهرب من الحقيقة, الهرب من نفسها..
دخلت كارميتا إلى القصر بسرعة, ركضت نحو غرفتها, وأغلقت الباب خلفها, ثم
سقطت على الأرض, ركبتاها تضمان صدرها, وعيناها لا تكفان عن إسقاط الدموع.. جسدها
المرهق كان يهتز, وبدأت تبكي بذعر, تهز رأسها وهي تهمس كأنها تحاول إقناع نفسها
" ماذا فعلت؟ لقد قتلت لينيا... لقد قتلتُها... "
ظل صوت البكاء يمزق السكون.. كارميتا لا تستطيع كتم مشاعرها, كانت ترى وجه
لينيا أمامها وعينيها المغلقتين, وبرودة جسدها.. لم يكن لديها أي فكرة عما يجب أن
تفعله بعد ذلك.. كانت خائفة, خائفة بشكل لا يوصف, تشعر وكأن كل جدران الغرفة تضيق
عليها, وكأن العالم بأكمله ينهار أمامها.. كانت تشعر بأنها سقطت في هوة لا نهاية
لها..
لم يمضِ وقت طويل حتى سمعت أصوات الصرخات تتردد في أنحاء القصر آتية من
الطابق الأرضي, صوت جدتها رامونا.. أدركت كارميتا أنهم اكتشفوا هروب لينيا قبل أن
تتمكن من العودة بشكل طبيعي, قبل أن تخدعهم بأنها كانت في القصر طوال الوقت..
مسحت كارميتا دموعها, أخذت نفسًا عميقًا, حاولت جمع شتات نفسها.. كان يجب
أن تتصرف بشكل طبيعي, يجب أن تبدو غير مُدركة لما حدث.. فتحت الباب وخرجت ببطء,
نزلت إلى الطابق الأرضي, وهي تحاول أن تُسيطر على ارتعاش جسدها..
نزلت ببطء, ملامحها تحاول أن تكون طبيعية, ولكن قلبها ينبض كطبول الحرب..
بمجرد أن وصلت, وقفت أمام الجميع, وحاولت كبت توترها.. ولكن قبل أن تتحدث, تقدمت
جدتها رامونا نحوها, نظرة الغضب والخوف تملأ عينيها, ثم في لحظة لم تستطع كارميتا
تجنبها, تلقت صفعة قوية على خدها..
" ماذا فعلتِ بها؟ أين هي لينيا؟ تكلمي "
حاولت جُهدي إقناع جدتي بأنني لا أعرف شيء عن لينيا.. شعرت بالفزع ينهش
عظامي عندما قالت جدتي بأنها دخلت إلى غرفتي ولم تجدني بها.. حاولت إقناعها بأنني
كنتُ في الحمام, لكن جدتي رفعت يدها من جديد وصفعتني بقوة على وجنتي..
نظرت رامونا إلى حارسها خوسي, وأمرته بحدة
" خذها إلى غرفتها, وأغلق عليها الباب.. لا أريدها أن تغادر, لا أريد
أن أراها مرة أخرى حتى أقرر ماذا سأفعل بها "
كان الألم حارقًا, ليس فقط على وجهها, بل في قلبها.. نظرت كارميتا إلى
جدتها بعيون مليئة بالدموع, وكأنها تبحث عن رحمة لا تجدها.. وبدأت بالبكاء بمرارة,
ولكن لم يكن هناك فرصة للكلام.. أخذ خوسي كارميتا بذراعها, وتم سحبها بصمت, وقلبها
يئن بالذنب والخوف.. كانت تعلم أن ما فعلته لن يختفي بسهولة, وأن العواقب ستكون
أقسى مما يمكنها احتماله.. وكل ما استطاعت كارميتا فعله هو أن تستمر في تكرار داخل
قلبها, ماذا فعلت؟ ماذا فعلت؟...
بعد مرور ساعتين تقريبًا من العزلة في الغرفة, كانت كارميتا جالسة على
السرير, جسدها متكور ودموعها لم تتوقف عن الانسياب.. فجأة, انتفضت بذعر, عيناها
توسعتا بفزع عندما انفتح باب الغرفة بقوة, وكأن الرياح العاصفة قد اقتحمته, لترى
جدتها رامونا تدخل إلى الغرفة شبه راكضة, وجهها متوهج بالحزن والقلق والغضب..
وقفت رامونا أمام السرير, نظرتها كانت مليئة بالألم.. مدت يديها وأمسكت
بذراع كارميتا, جعلتها تقف أمامها بشكل مفاجئ, وبدأت تهزها بشدة, وهتفت بصوت يرتجف
بين البكاء والغضب
" ماذا فعلتِ, كارميتا؟! ما الذي فعلته يا مجنونة؟ "
ثم صرخت بصوت مُتصدع, بصوت كان يحمل خليطًا من المرارة والخوف
" سلفادور سيقتلكِ! ماذا فعلتِ حفيدتي؟! لقد دمرتِ كل شيء.. دمرتِ كل
شيء "
كارميتا لم تستطع الرد, كانت تهتز بين يدي جدتها, والدموع تتدفق من عينيها
كالنهر, لكنها لم تتمكن من نطق كلمة واحدة.. توقفت رامونا فجأة عن هز جسد كارميتا,
وعيناها كانتا ممتلئتين بيأسٍ عميق.. حدقت في وجه حفيدتها الشاحب وكأنها تبحث عن
إجابة لن تجدها, ثم هتفت ببكاء, صوتها مليء بالحسرة
" سلفادور اكتشف وجود شخص مع لينيا, وهو الآن في طريقه إلى هنا ليقتل
من هربها وحاول قتلها.. إنه قادم إلى هنا, ولن يرحم أحد "
مسحت رامونا وجهها بقوة, تحاول إزالة آثار دموعها وهي تنظر إلى حفيدتها..
كنتُ منهارة منهارة بالكامل, جسدي يرتعش وعينيّ ممتلئة بالدموع.. بكيت
بصوت مخنوق وقلت لجدتي بصوت يكاد لا يُسمع
" لم أكن أقصد جدتي, أقسم أنني لم أكن أقصد قتل لينيا.. لا أعرف ما
الذي أصابني, لم أستطع السيطرة على نفسي.. كل ما كنتُ أُفكر به هو أنني من يجب أن
تكون زوجة سلفادور وليس لينيا "
تجمدت جدتي أمامي بينما كانت تتأملني بنظرات مصدومة بالكامل.. ثم فجأة انهارت جدتي بالبكاء, وسمعتُها تهمس بندم واضح
" إلهي, ما الذي فعلتهُ أنا بحفيدتي؟! "
نظرت إلى جدتي بخوف وبتعجُب, إذ لم أفهم ما كانت تقصده.. فجأة, هزتني جدتي
بكتفي بخفة, وقالت ببكاء
" أنا السبب.. لقد سممت عقلكِ بأكاذيب كثيرة.. سلفادور من المستحيل أن
يُحبكِ حُب رجل لامرأة, أنتِ بالنسبة له فقط ابنة عمه.. سامحيني كارميتا, سامحيني
لأنني زرعت فكرة زواجكِ به في رأسك, سممت أفكاركِ وعقلكِ بأشياء من المستحيل أن
تتحقق "
نظرت إلى جدتي بصدمة كبيرة, شعرت بأنني أتمزق من الداخل.. سمعت جدتي تهتف
ببكاء وهي تضمني إلى صدرها بقوة
" سامحيني حفيدتي.. لقد حولتكِ إلى قاتلة.. والآن سلفادور سيقتلكِ
بسببي "
ابتعدت عن جدتي, ثم تراجعت إلى الخلف, ثم فجأة, ركعت أمام جدتي, أمسكَت
يديها بقوة, ونظرت إليها بعينين ممتلئتان بالذعر, ثم هتفت ببكاء وبتوسُل
" أرجوكِ, جدتي... ساعديني.. لا أريد أن أموت, ساعديني للهروب من هنا,
أرجوكِ "
وقفت جدتي رامونا صامتة للحظات, الألم يملأ وجهها.. نظرت إليّ بتعب, بعيون
عجوز أنهكتها الحياة وفقدان من تحب.. أمسكت جدتي ذراعي ورفعتني ببطء وجعلتني أقف
أمامها.. نظرت إليّ بأسى وقالت بصوت منخفض ولكنه مليء بالحزن
" سبق وخسرت حفيدًا لي من قبل, بسبب ذنوبه وأفعاله.. والآن, لا أستطيع
خسارة حفيد آخر لي بسبب ذنوبه, وبسبب خطأي.. لا أستطيع تحمُّل هذا الألم مجددًا
"
مسحت دموعي بيدها برقة عن وجنتي, ثم أمسكت يدي بقوة, وهمست بصوت ملؤه العزم
والخوف معًا, وكان في صوتها تلك الصلابة التي تحمل حنو الأمهات وقلق الأجداد
" تعالي معي بسرعة, سوف أساعدكِ لتهربي "
كان هدف رامونا واضحًا.. إخراج حفيدتها من هذا الجحيم الذي صنعته بنفسها
قبل أن يصل سلفادور ويحول كل شيء إلى كارثة حقيقية..
ركضت جدتي باتجاه باب الغرفة, وسحبتني خلفها, وكأنها تريد حمايتي من العالم
كله, من كل الأذى الذي قد يلحق بي..
نزلنا بسرعة إلى الطابق الأرضي, وتوجهنا نحو باب القصر, وكل خطوة كانت
وكأنها صراع ضد الزمن, ضد القدر المحتوم الذي ينتظرني.. ولكن عندما وصلنا إلى
الباب وحاولنا الخروج, ظهر الحراس أمامنا فجأة, كأنهم سد منيع لا يُمكن اختراقه..
جعلتني جدتي أقف خلفها, وكأنها تحميني بجسدها.. ارتعش جسدي بقوة عندما سمعت
جدتي تهتف بغضب على الحُراس
" ماذا تفعلون؟ ابتعدوا من أمامي على الفور, وهذا أمر "
نظر الحراس إلى أم العشيرة رامونا بكل احترام, لكن كانت هناك صلابة في
عيونهم, وكأنهم تلقوا أوامر صارمة لا يمكن التراجع عنها.. وقال أحد الحراس بحزم
" سنيورا, لا يمكنكم الخروج.. لدينا أوامر بمنع أي شخص من مغادرة
القصر "
شهقت جدتي بقوة, ثم هتفت بغضب
" لديكم أوامر!.. ابتعدوا من أمامي بسرعة, فأنا أم العشيرة, وأنا من
تُعطي الأوامر هنا.. هيا, ابتعدوا من أمامي قبل أن أطردكم جميعاً "
فجأة, اقترب بيريز رئيس الحُراس ووقف أمام جدتي, وسمعتهُ بذعر يقول لجدتي
باحترام ولكن بنبرة حازمة
" سنيورا رامونا, هذه أوامر رئيس العشيرة.. سنيور سلفادور, أمرني
بنفسه بمنع الجميع وخاصة حضرتكِ سيدتي من الخروج من القصر.. ولا يمكن لأحد مُخالفة
أوامره.. آسف سنيورا, لو سمحتِ عودي برفقة سنيوريتا كارميتا إلى الداخل لحين وصول
المتادور "
نظرت جدتي رامونا إليه.. وجهها كان متجمدًا للحظة, ثم تراجعت قليلاً إلى
الخلف.. بينما أنا خلفها كنتُ أذوب خوفًا وذعرًا.. كانت عيون الحراس ثابتة علينا,
لا مكان للشفقة فيها, وهنا شعرت أن نهايتي أصبحت وشيكة..
استدارت رامونا ببطء نحو حفيدتها كارميتا, وجعلت نظراتها الحازمة والحنونة
تتقاطع مع عيني الفتاة المُرتعدة.. أمسكت يدها بحنان وهمست لها بصوت منخفض ومشبع
بالثقة
" تعالي معي صغيرتي, لا تخافي "
كانت كلماتها كالحبل الذي يتمسك به الغارق, تعطي كارميتا بصيصًا من الأمل,
أو على الأقل شعورًا بالهدوء في وسط هذه الفوضى العارمة.. بدأتا بالتسلل عبر
الممرات الطويلة للقصر, حيث كانت جدرانه القديمة تشهد على أسرار عائلة العشيرة
لسنوات..
لم تكن خطواتهم سريعة, بل كانت مدروسة بحذر, تحاولان تفادي أي صوت قد يلفت
الانتباه.. كان الممر مظلماً, يزينه ضوء القناديل الخافت, وكأن القصر كله يتنفس
الصمت المهيب للغموض..
رامونا تعرف جيدًا أن سلفادور لن يترك كارميتا بلا عقاب إن علم بحقيقة ما
حدث.. تسللت رامونا مع كارميتا في ممرات القصر الضيقة, ظلالهما تمتزج مع أضواء
الشموع الخافتة التي تنير الأركان.. كانت خطواتهما حذرة, وقلوبهما تنبض بتسارع في
كل مرة يسمعون فيها أي صوت, أي حركة يمكن أن تكشف أمرهما..
حاولتا الخروج من المخرج الخلفي, لكن كان بانتظارهما مجموعة من حراس
سلفادور, بوجوه متجهمة وعيون لا تعرف الرحمة..
انهارت كارميتا بين يدي جدتها, وبدأت في البكاء والتوسل, صوتها مكسور مليء
بالرعب
" جدتي، أرجوكِ.. ساعديني.. لا أريد الموت.. لا أريد أن أموت, أرجوكِ,
أنقذيني "
عيونها كانت مليئة بالخوف, وكأنها تستشعر النهاية الوشيكة, بينما تمسكت بيد
جدتها رامونا بكل قوتها, كأنها تخشى أن ينفلت الحبل الذي يربطها بالحياة..
نظرت رامونا إلى حفيدتها بعينين ممتلئتين بالألم والحب.. كانت تعلم أنها لا
يمكن أن تترك كارميتا, أنها لن تسمح بسقوط حفيدتها بسبب ذنب ارتكبته بحماقة بحقها..
ضمت رامونا حفيدتها إلى صدرها بقوة, كانت تعانقها وكأنها تريد حماية جسدها
بالكامل بيديها.. وقالت رامونا بصوت مليء بالحزن, بينما دموعها تتساقط ببطء
" لن أترككِ, صغيرتي.. إن كان هناك من سيموت اليوم, فسيكون أنا... لن
أسمح بأن يلمسكِ أحد "
ابتعدت رامونا عن حفيدتها قليلا, ثم أمسكت بيد حفيدتها مجددًا, ومشت معها
باتجاه السلالم.. كانت خطوات رامونا ثابتة, عينيها تحمل قرارًا غير قابل للتراجع..
صعدتا معًا إلى جناح رامونا الخاص, كانت تحاول بكل جهدها أن تجد ملاذًا لحفيدتها,
ولو للحظة إضافية من الأمان..
عندما دخلت كارميتا إلى الجناح, نظرت رامونا إلى حارسها الشخصي, خوسي, الذي
كان يقف بجوار الباب بوجهه المعتاد, الذي يجمع بين القوة والإخلاص.. قالت له بصوت
ثابت لكنه كان يحمل ما يشبه الوصية الأخيرة
" خوسي, إن حدث لي أي مكروه, عليك أن تحمي كارميتا.. لا تسمح لحفيدي
سلفادور بأذيتها, مهما كلف الأمر "
وقف خوسي مصدومًا, لم يكن يتوقع أن تأتي هذه اللحظة, لكن كلماتها كانت
أمرًا لا يمكنه تجاوزه.. ودعته رامونا بابتسامة حزينة, لمست ذراعه وقالت لهُ بصدق
" كان لي الشرف بأنك كنت حارسي الشخصي, وأنني تعرفت عليك في هذه
الحياة "
لم يستطع خوسي أن يرد, فقط أومأ برأسه, صوته محبوس في حنجرته.. رأى الباب
يغلق أمامه ببطء, وبقي واقفًا في مكانه مصدومًا, غير قادر على تحريك أي عضلة من
جسده..
أما داخل الجناح, جلست رامونا على الأريكة, وضمت حفيدتها إلى صدرها بقوة,
تمسح خصلات شعرها بهدوء, تحاول تهدئتها.. كانت تهمس بحنان, همساتها ناعمة, مليئة
بالحب
" سأحميكِ صغيرتي.. كل شيء سيكون بخير.. سنجد مخرجًا, لا تخافي "
لكن فجأة, وبدون أي تحذير مُسبق, انتفضتا بذعر عندما سمعتا صوت باب الجناح
ينفتح بقوة, كأنهُ كُسر, ودخل سلفادور, كان وجهه غاضبًا, وجهه يحمل كل علامات
العاصفة.. كان مثل بركان على وشك الانفجار, عينيه تلمعان بلهيب غضب لا يوصف..
وصرخ بصوت مليء بالحدة والمرارة
" كارميتا! "
اقترب سلفادور بسرعة, خطواته تهز الأرض, وكأن كل شيء في الجناح قد اهتز من
وقع غضبه.. وقف أمام رامونا و كارميتا, عينيه تتوهجان بغضب ولهيب حارق..
وقفت رامونا بشموخ أمام حفيدها سلفادور, عيناها تلتقيان بعينيه الثائرتين,
وجهها لم يُظهر أي تردد أو خوف, بل كان جامدًا, وعنيفًا كصخرة..
أما كارميتا, التي كانت على وشك الانهيار, وقفت بخوف واختبأت خلف جدتها, ودموعها تتدفق بلا توقف.. جسدها
يرتعش بخوف لا تستطيع السيطرة عليه.. لم تستطع النظر إلى عيني سلفادور الغاضبتين,
وكانت تتشبث بظهر جدتها, وكأنها تبحث عن ملجأ من ذلك البركان المُتفجر أمامها, ومن
لهيب غضب المتادور المُرعب..
كانت هذه اللحظة ثقيلة, عيون سلفادور كانت مليئة بالاتهامات, ولهيب الغضب,
بينما كانت رامونا واقفة كالحصن الأخير بينه وبين كارميتا, تحاول أن تمنع المأساة
القادمة مهما كلفها ذلك..
الجدة رامونا**
كان سلفادور يقف أمام جدته رامونا و كارميتا, عينيه ملتهبتين بغضب لا يعرف
الرحمة, وهتف بوجهها بصوت جاف ومليء بالوحشية, صوتهُ خرج كالرعد من حُنجرته
" ابتعدي من أمامي جدتي, ولا تتدخلي.. أنا لستُ هنا لمُحاسبتكِ, بل
لمُحاسبة هذه القاتلة.. ابتعدي عن كارميتا "
كان وجهه متصلباً, وعيونه تقدح نيرانًا وهو يحدق في جدتهِ رامونا كأنها
العقبة الأخيرة التي تقف بينه وبين تحقيق عدالته القاسية..
لكن رامونا لم تتحرك من مكانها, كانت تقف كالصخرة أمامه, عينيها مليئتين
بالحزن والألم, ترفض أن تترك حفيدتها لمصيرها..
تنفست بقوة, وقلتُ لهُ بصوت هادئ, محاولة إقناعه
" سلفادور, أرجوك, اهدأ قليلاً.. لن نستطيع التحدث إذا كنتَ في هذه
الحالة.. علينا التفاهم بهدوء "
في غضون لحظات, كان جناح الجدة رامونا قد امتلأ بالخدم والحراس, وقفوا
ينظرون بقلق شديد, يتبادلون النظرات الخائفة فيما بينهم.. كانوا يعلمون جميعًا أن
الغضب الذي يُسيطر على المتادور لا يمكن تهدئتهُ بسهولة.. وفي مقدمة الجموع, كان
خوان على كرسيه المُتحرك وبجانبه تقف أريا, وفي الخلف كان ميغيل يقف مع والديه, و
ساريتا مع والديها, وكل من حولهم كان ينظر برعب نحو هذا المشهد الذي أصبح لا يمكن
السيطرة عليه..
فجأة, نظرت إلى الأسفل نحو يد سلفادور, شهقت بقوة عندما رأيت المسدس في يده,
يلمع تحت أضواء الغرفة الخافتة, كان يقبض عليه بقوة وكأنهُ يحاول أن يتشبث بآخر
قطعة من السلطة بين يديه..
رفعت نظراتي عن المسدس ونظرت إلى سلفادور بحزن لا يمكن وصفه, عيني ممتلئتان
بالدموع, ثم سألته بصوت مكسور
" هل تريد حقًا قتل ابنة عمك الوحيدة؟ "
لكن سلفادور لم يكن في حالة تسمح لهُ بالاستماع.. صرخ بجنون, عيناه تلمعان
بنار الغضب
" كارميتا لم تعد ابنة عمي.. إنها مجرد قاتلة بدم بارد, ويجب أن تدفع
ثمن ما فعلته بـ لينيا.. لقد رأيت كل شيء منذ قليل في كاميرات المراقبة.. كارميتا
أخرجت لينيا من القصر, ثم أخرجتها عبر الباب السري الخلفي للحديقة, والغبية نسيت
المفتاح في الباب لدى عودتها.. ولكنها غفلت عن شيء مهم, سبق وأمرت منذ فترة بوضع
كاميرات للمراقبة بسرية تامة في كامل أنحاء القصر "
تساقطت دموع رامونا بصمت, كانت تشعر بأن قلبها يتفتت, وكانت وجنتاها
الشاحبتان تمتلئان بدموع الحزن.. مدت يدها, محاولة تهدئة حفيدها وقالت بألم
" أنا الملامة هنا, يا سلفادور.. ما فعلته كارميتا كان بسبب أخطائي..
كانت بسبب وعودٍ وأوهام كاذبة زرعتُها في رأسها "
كان صوتها محملًا بالندم الحقيقي.. وتابعت رامونا قائلة بندم, وكأنها تعترف
بذنب خطير
" أنا السبب.. كنتُ أقول لها منذ طفولتها بأنكَ ستكون زوجها, وأنها
ستكون سيدة هذا القصر, وأنني لن أسمح لك بالزواج بغيرها.. كانت تلك أفكاري وأوهامي
التي زرعتُها فيها "
تجمدت نظرات سلفادور على جدته, كان ينظر إليها وكأن ما قالته لا يمكن
تصديقه.. لكن قلبهُ لم يلين, كان غضبه أقوى من أي شيء آخر.. نظر إلى جدته بعدم
اكتراث, وصرخ بغضب مُدمر
" كارميتا ليست طفلة, ليست طفلة لتصدق تلك الأكاذيب والأوهام.. هي
عاقلة بما يكفي لتعرف أنني لم أحبها أبدًا سوى كابنة عم, ولن أحبها كامرأة في
حياتي كلها.. لم أشعر بشيء نحوها طوال حياتي سوى الحب كابنة عمي فقط.. ولن يكون
هناك شيء أكثر من ذلك "
كانت كلماته باردة وقاسية, تنفي أي أمل كانت تتشبث به كارميتا..
وفجأة, وبحركة سريعة, أبعد سلفادور جدته عن كارميتا, ثم أمسك بذراع الفتاة
المنهارة أمامه, ورفع يده التي يحمل بها المسدس ووضع فوهته على رأسها.. كان المشهد
مرعبًا, وكأن الزمن توقف في هذه اللحظة, ولم يعد هناك سوى صوت أنفاسهم المتسارعة..
ضغط فوهة المسدس على رأسها, كان الحقد يتدفق من عينيه.. كان سلفادور كالجبل
الشامخ, بوسطه بركان يتفجر بلهيب الحمم والغضب.. كان وجه كارميتا متجمدًا من الذعر,
دموعها لا تتوقف, وجسدها يرتعش بجنون..
هتفت رامونا من الخلف, صرخة تحمل كل ذعر العالم
" سلفادور, لا تفعل, أرجوك.. لا تقتلها... " كانت كلماتها مليئة
باليأس, وكأنها تنادي في هاوية بلا قاع..
لكن سلفادور لم ينظر إليّ, ولم يستمع إليّ.. كانت عيناه مثبتتين على
كارميتا, وجههُ كالصخر, وحقدهُ كان كالجليد الذي لم يعرف الدفء.. وبذعر كبير سمعتهُ يهمس
بصوت ثابت, وبتصميم لا يمكن تغييره
" عليكِ أن تموتي.. الآن "
ثم فجأة, قطع الصمت صوت رصاصة, صدى الطلقة اخترق الجناح كالسيف, تلاها صمت
مُحمل بالذهول والخوف.. وفي اللحظة التالية, كانت صرخات الذعر تتردد في كل مكان
وفي كامل أنحاء قصر الجوهرة, كأنها انعكاس لصدمة الجميع مما حدث..
توي خلصت بارت 9 لأني انقطعت بسبب الجامعة، جيت اسرق نظرات عابرة للاحداث ااااع مقدرت اتحمل... احبك احبك احبك هافن، مشتاقة لك مرة
ردحذفحياتي أنتِ وأنا أحبكِ كثيرا
حذفأتمنى لكِ كل التوفيق والنجاح في دراستكِ
البارت جامد موووت ممكن متتأخريش في البارت الجديد
ردحذفتسلمي يا قلبي
حذفالتأخير بسبب الحرب في بلدي
كنتي بتنزلي باستمرار دلوقتي بتتأخري جامد
ردحذفالسبب الحرب في بلدي يا قلبي
حذف