رواية المتادور - فصل 29
مدونة روايات هافن مدونة روايات هافن
recent

آخر الأخبار

recent
random
جاري التحميل ...

أنتظر تعليقاتكم الجميلة

رواية المتادور - فصل 29

 

رواية المتادور - فصل 29 - ثلج دموي



ثلج دموي












خوان**

 

في المساء, كان خوان جالسًا على كرسيه المتحرك داخل الصالون الذهبي في قصر المتادور, يتأمل بملل الزخارف الباهرة واللوحات الفخمة التي تزين الجدران.. كان الجو مليئًا بالتوتر, والجميع في القصر يشعرون بضغط الأحداث المتلاحقة.. فجأة, دخل خانتو إلى الصالون بسرعة ووجههُ متوتر وعيناه تضج بالقلق..

 

وقف خانتو أمامي وقال بصوت مرتجف

 

" خوان, لدي أخبار سيئة جداً "

 

نظرت إليه بدهشة في البداية..


رواية المتادور - فصل 29 - ثلج دموي

 

بلعت ريقي بقوة وسألتهُ بتوتر

 

" ماذا حدث؟ تكلم بسرعة "

 

قال خانتو بنبرة متوترة

 

" لينيا هارفين لقد هربت من القصر برفقة الطبيب أليخاندرو.. الحراس شاهدوا كاميرات المراقبة ورأوها تتسلل معه إلى الموقف السفلي منذ قليل "

 

توسعت عيناي وهتفت بغضب وبذهول

 

" ماذا؟! "

 

تابع خانتو قائلاً بتوتر

 

" منذ لحظات قليلة غادر المتادور القصر مسرعًا برفقة رجاله.. هو على وشك قتل أحدهم بسبب هروب لينيا مع الطبيب "

 

شعرت بالغضب الشديد, قبضت على مساند الكرسي بقوة حتى ابيضت مفاصلي.. تسارعت أنفاسي وهتفت بعصبية

 

" أليخاندرو الغبي, لقد حذرتهُ الليلة بعدم النظر أو الاقتراب من لينيا, والآن سلفادور سيقتله "

 

سحبت هاتفي من جيب سترتي وبدأت بالاتصال بابن عمي سلفادور, ولكن كل مُحاولاتي باءت بالفشل.. لم يجب سلفادور على أي من مُكالماتي, مما زاد من توتري.. بدأت بالاتصال بصديقي الأحمق أليخاندرو, ولكن هاتفهُ كان خارج الخدمة..

 

نظرت إلى صديقي خانتو وشتمت بعصبية قائلاً

 

" ذلك المعتوه والغبي, اللعنة, سيموت الأحمق بسبب إعجابه بالبروفيسورة.. تباً له, لقد حذرته لكنهُ أحمق, لم يسمع نصيحتي له "

 

في هذه اللحظة, دخلت كارميتا إلى الصالون وهي تبتسم بسعادة..


رواية المتادور - فصل 29 - ثلج دموي

 

وقفت أمام خوان وضحكت بسعادة, ثم قالت بفرحٍ واضح

 

" لينيا هربت برفقة الطبيب منذ قليل, و سلفادور تبعهم.. سيقتلهم بكل تأكيد "

 

قالت بفرح واضح تلك الكلمات وكأن ما يحدث هو مهرجان مُفرح بالنسبة لها..

 

جلست كارميتا على الأريكة بجانب كُرسي خوان المتحرك, ونظرت إليه بعيون متألقة بالشماتة, وقالت بحقد

 

" أتمنى أن يقتل سلفادور تلك القاتلة لينيا.. إنها تستحق الموت.. لم تكتفي بأنها تسببت في موت بينيتو, كانت ستقتل جدتنا الليلة أيضًا "

 

تسمر خوان في مكانه مذهولًا من كلام شقيقته.. توسعت عينيه بذهول عندما تابعت كارميتا قائلة بحقد واضح

 

" جدتي رامونا ما زالت في غرفتها تبكي بحزن ولا تريد رؤية أحد سوى لينيا.. لقد رفضت جدتنا التكلم مع أحد عن سبب حزنها وبكائها وسبب رغبتها الشديدة برؤية تلك القاتلة لينيا.. حتى سلفادور بنفسه لم ينجح بجعل جدتنا تتوقف عن البكاء قبل أن يذهب خلف تلك القاتلة والعاهرة لينيا "

 

تسارعت أنفاسي وهتفت بغضب جنوني على شقيقتي

 

" كارميتا, توقفي عن نشر سمومكِ حول لينيا "

 

اختفت الابتسامة السعيدة عن وجه شقيقتي, وسمعتُها تهمس بحقدٍ كبير

 

" حتى أنتَ أخي أصبحتَ تُدافع عن تلك القاتلة!.. تلك اللعينة نشرت سحرها على جميع رجال عائلة دي غارسيا "

 

حركت الكُرسي المتحرك نحوها وأمسكت ذراعها, جذبتُها بقوة لتقف, ثم أمرتُها بغضب

 

" اذهبي إلى غرفتكِ فورًا "

 

حاولت كارميتا الاعتراض بينما كانت تُقاومني وتُحاول سحب ذراعها من قبضتي.. وبحزن كبير سمعتُها تهتف بغضب جنوني

 

" لن أذهب إلى أي مكان.. أُترك ذراعي خوان, أنتَ تؤلمني.. أنا أكره تلك القاتلة.. أتمنى أن يقتلها سلفادور الليلة "

 

جذبتُها لتسقط على ركبتيها أمامي, ثم صفعتُها بقوة على وجنتها ورميتُها باتجاه خانتو, وأمرته بغضب

 

" خذها إلى غرفتها في الحال, لا أريد رؤيتها أمامي "

 

تأملني خانتو بنظرات حزينة, ثم رأيته يُساعد كارميتا لتقف أمامه, وقال لها بحزن وباحترام

 

" سنيوريتا, لو سمحتِ رافقيني "

 

وقفت كارميتا ونظرت إلى خانتو بحقدٍ كبير عندما طلب منها بتهذيب أن ترافقه, بصقت في وجهه وهتفت ببكاء

 

" أكرهك, أكرهُك أنتَ أيضاً أيها اللقيط.. لا تقترب مني أيها القذر "

 

تصاعد الغضب بداخلي أضعافاً.. نظرت إليها بحدة وهتفت بجنون

 

" كارميتا, اعتذري من خانتو وبسرعة "

 

تأملتني شقيقتي بنظرات قاتلة, ثم هتفت بحنق وبغصة

 

" مستحيل أن أفعل ذلك.. لن أعتذر بتاتاً من صديقك الفقير والقبيح.. فهو مُجرد نكرة "

 

تصلبت عضلات جسدي بكاملها بينما كنتُ أنظر إلى شقيقتي بنظرات قاتلة.. تنفست بقوة وهتفت بغضب جنوني

 

" كارميتا, اقتربي وقفي أمامي "

 

لكن كارميتا نظرت إليّ بغضب, وقالت ببكاء

 

" لماذا تريدُني أن أقترب منك, حتى تصفعني من جديد؟ أكرهك خوان, هذه المرة الثانية التي تصفعني بها.. المرة الأولى بسبب زوجتك العاهرة, والثانية بسبب تلك القاتلة لينيا هارفين.. تستحق ما حدث لك, أنا سعيدة الآن لأنك أصبحتَ مُقعداً.. أتمنى أن لا تُشفى بتاتاً من هذه الإعاقة "

 

نظرت إليها بصدمة كبيرة ثم بحزن عندما هتفت كارميتا بجنون وهي تبكي

 

" أنتَ لستَ أخي.. أنا أكرهُك بجنون... أنا أكرهُك.. أكرهُك.. هل سمعتني؟ أنا أكرهُك "

 

رأيت كارميتا تستدير وهربت خارجة من الغرفة وهي تبكي بمرارة..

 

تنهدت بعمق وسمعت خانتو يقول بنبرة حزينة

 

" خوان, رجاءً لا تحزن من شقيقتك, هي قالت تلك الكلمات بسبب غضبها وحُزنها.. هي تُحبك كثيراً, من المستحيل أن تتمنى لك السوء, ربما يجب أن تصعد وتتكلم معها بهدوء "

 

هززت رأسي بالرفض, وهمست بحزن

 

" من الأفضل أن تظل بمفردها حاليا حتى تهدأ, ربما غدا في الصباح سأتكلم معها "

 

كنتُ غاضبًا وممزقًا بين مشاعر الحزن والقلق والغضب.. عرفت أن الأمور سوف تزداد تعقيدًا, وأن عليّ اتخاذ قرارات حاسمة لحماية عائلتي وكل من أُحب..

 

تنهدت بعمق وطلبت من خانتو ليساعدني لأصعد إلى غرفتي..

 

دخل خوان إلى غرفته برفقة صديقه الوفي خانتو.. كانت الغرفة مضاءة بإضاءة خافتة, وأثاثها الفاخر يعكس بريقًا ناعمًا في أرجائها.. لاحظ خوان فور دخوله أن زوجته أريا ليست في الغرفة.. كانت مشاعره ممزوجة بين القلق والدهشة, حيث بدأ يبحث بعينيه عنها في كل زاوية من زوايا الغرفة..

 

عقد حاجبيه بقلق عندما لم يجد أي أثر لزوجته أريا في الغرفة.. كانت الأنوار خافتة والجو أصبح مشحونًا بالترقب.. عاد من جديد يتفحص الغرفة بعينيه, يبحث عن أي أثر لوجود أريا, ولم يلبث أن همس بقلق قائلاً

 

" أين أنتِ يا زهرة القمر؟ "

 

لاحظ خانتو توتر خوان, فحاول التخفيف من قلقه إذ قال بلطف

 

" ربما السيدة أريا ذهبت إلى غرفة أشقائها الثلاثة "

 

رأيت خانتو يقف أمامي وهو يتأملني بنظرات فاحصة.. ابتسمت براحة طفيفة, وقلت لصديقي

 

" أنت مُحق, ربما ذهبت لرؤيتهم "

 

ثم أضفت قائلاً بإرهاق

 

" سأستحم الآن, شكراً لكَ خانتو, يمكنك الذهاب "

 

ابتسم خانتو بوسع وقال بمرح وهو يستدير ويقترب من باب الحمام وفتحه

 

" لن أذهب قبل أن أطمئن على صديقي ورئيس عملي "

 

قهقهت بخفة, لكن تجمدت فجأة عندما سمعت خانتو يهمس بذهول

 

" اوه, آسف سيدتي.. لم أكن أتوقع رؤيتكِ هنا "

 

رفعت رأسي بسرعة ونظرت باتجاه الحمام, توسعت عيناي بصدمة كبيرة عندما رأيت أريا.. لا أعرف كيف حركت الكرسي المُتحرك وقربتُها بسرعة باتجاه باب الحمام, أوقفتُها وتجمدت نظراتي على زوجتي بذهولٍ شديد..

 

" ما اللعنة؟! تباً... "

 

شتمت بغضب جنوني عندما رأيت زوجتي أريا مستلقية على سطح الرخام الضخم قرب حوض غسيل اليدين, مرتدية فستانًا مثيرًا جدًا.. كانت تلك الصورة كافية لإشعال نيران الغيرة في قلبي..

 

نظرت بسرعة إلى خانتو وصرخت بغيرة عمياء

 

" أُخرج من الحمام حالاً "

 

نظرت أريا بعدم اكتراث إلى خوان وهو يدفع الكرسي المتحرك ليدخل إلى الحمام..


رواية المتادور - فصل 29 - ثلج دموي

 

ثم التفتت أريا إلى خانتو المُندهش وابتسمت برقة وسألته بنبرة هادئة

 

" مساء الخير.. كيف حالك, خانتو؟ "

 

أجاب خانتو باحترام

 

" أنا بخير, سيدتي الجميلة "

 

وهنا اشتعل غضبي أكثر, نظرت إلى صديقي الخائن وهتفت بوجهه بجنون

 

" قلتُ لك أُخرج وانتظرني في الخارج "

 

ابتسم خانتو وقال بمرح قبل أن يخرج ويُغلق الباب خلفه

 

" سأنتظرك هنا في الغرفة لأساعدك على الاستحمام.. فأنتَ سيدي تحتاج لمساعدتي لتستحم "

 

قبضت على مساند الكُرسي بقوة وهتفت بغضب أعمى

 

" اللعنة عليك, أُخرج في الحال "

 

وعندما أغلق خانتو الباب خلفه سمعت ضحكاته السعيدة في الخارج, اشتعل الغضب بداخلي أضعافاً ونظرت إلى زوجتي أريا بغضب أعمى, صارخًا بوجهها بجنون كُلي

 

" ما هذا الفستان اللعين الذي ترتدينه؟ "

 

أجابت أريا بهدوء

 

" إنهُ مُجرد فستان.. كما ترى إنهُ مُجرد فستان عادي "

 

كان جسدي يشتعل من جراء الغضب والغيرة.. فقدت أعصابي تماما لآن صديقي خانتو رأى زوجتي بهذا المنظر المثير.. والآن زوجتي العنيدة أشعلت الغضب بداخلي أضعافاً.. نظرت إليها بنظرات قاتلة وهتفت بغضب جنوني

 

" هذا الفستان ليس عادياً بتاتاً ولا يليق بزوجتي, لا يليق بزوجة خوان دي غارسيا "

 

وقفت أريا أمامي ونظرت إليّ بثبات وقالت بحدة وبعدم اكتراث

 

" لن أسمح لأحد بأن يُملي عليّ ما أرتديه.. سأكون دائمًا حرة في اختياراتي.. سأرتدي ما يحلو لي, ورأيك لا يهمني بتاتاً "

 

ثم بصدمة كبيرة سمعت أريا تُتابع قائلة بنبرة حادة

 

" ثم, الآن أصبحت زوجتُك؟ كنتُ أظن بأنني مجرد خادمة لديك "

 

ضربت مسند الكرسي بقوة بقبضة يدي وهتفت بجنون

 

" أنتِ زوجتي.. شئتِ أم أبيتِ أنتِ أصبحتِ زوجتي, أي مُلكي.. أنتِ زوجتي أريا.. زوجتي "

 

ابتسمت أريا بسخرية وقالت

 

" عليكَ أن تتذكر, لقد تزوجتني رغماً عن إرادتي سنيور خوان.. كما أنتَ تزوجتني لتجعلني خادمة لديك لمدى العُمر.. تذكر ذلك جيداً "

 

توقفت أريا عن التكلم ثم اقتربت خطوة مني وتابعت قائلة بتهكُم

 

" في الظهيرة اتصل بي مدير أهم مصرف في إسبانيا, تكلم معي ليخبرني بأنهُ أصبح يوجد باسمي حساب مصرفي ضخم, وأصبح بإمكاني استخدام الأموال كما يحلو لي.. لم أكن سألمس يورو واحداً من أموالك اللعينة, ولكن الآن أُفكر باستخدامها "

 

توقفت أريا عن التكلم ونظرت إليّ باستمتاع عندما رأت نظراتي المُندهشة, وتابعت قائلة بحدة

 

" سوف أستخدم أموالك لأقوم بتعيين أشهر وأقوى محامي طلاق في إسبانيا, سوف أتخلص منك قريباً وأذهب مع أشقائي خارج هذا القصر وإلى الأبد "

 

توسعت عيناي بذهول بينما كنتُ أنظر إليها بصدمة كبيرة.. تباً, ما كان يجب أن أفتح هذا الحساب باسمها.. اللعنة.. من المستحيل أن أسمح لها بالابتعاد عني هي وأطفالي..

 

وقبل أن تتحرك أريا وتبتعد, أمسكت بسرعة ذراعها وجعلتُها تجلس على حُضني, وظهرها مقابل صدري..

 

ضربات قلبي تسارعت عندما شعرت بجسدها الدافئ.. حاولت أريا الابتعاد عني والوقوف ولكن وضعت بسرعة ذراعي حول بطنها وجمدت حركتها..  قربت شفتاي نحو أذنها اليمنى وقلتُ لها بنبرة أكثر هدوءًا ولكنها لا تزال مفعمة بالغضب

 

" أريا, يا زوجتي العزيزة.. يجب أن تعلمي جيداً بأنكِ زوجتي ولمدى العُمر.. أنتِ زوجتي, وسوف تظلين زوجتي حتى يفرقنا الموت.. ما هو مُلكي يبقى من أملاكي.. ثم لا يوجد محامي طلاق في إسبانيا كلها قد يساعدكِ ويوافق على رفع دعوى طلاق, وذلك لأنكِ زوجتي "

 

شعرت بجسد أريا يرتعش قليلاً.. قربت أنفي من خصلات شعرها الجميل, أغمضت عيناي واستنشقت رائحة شعرها بطريقة هائمة, وكأن هذا العطر كان يُخدر حواسي ويأخذني إلى عالم آخر.. شعرت براحة غامرة, وكأن جميع آلامي قد تلاشت في هذه اللحظة.. كانت رائحة شعرها تجلب لي شعورًا بالأمان والسكينة, شيئًا لم أشعر به منذ وقتٍ طويل..

 

بيدي الحرة, بدأت أمسح بلطف على ذراعها وكتفها مستمتعًا بنعومة بشرتها وحرارة جسدها.. كان هذا الاتصال البسيط يعني لي الكثير, فقد كنتُ مشتاقاً لهذه اللحظات الحميمة التي تجعلني أشعر بأنني على قيد الحياة..

 

سمعت أريا تهمس بنبرة متوترة وبصوت مبحوح

 

" ماذا تفعل؟ من الأفضل أن تتركني وتستحم.. دعني... "

 

أجبتُها بصوت هادئ ومملوء بالعاطفة

 

" لن أترككِ زهرة القمر.. لن أترككِ أبداً.. ثم, يجب أن تفهمي أن هذا القصر مليء بالناس, وأنا لا أستطيع تحمل رؤية أحدهم ينظر إليكِ بإعجاب أو برغبة.. لا أحد يحق لهُ النظر إليكِ بهذه الطريقة سواي "

 

 كانت كلماتي تحمل صدقًا عميقًا, فهي زهرة القمر خاصتي.. هي زوجتي.. هي مُلكي...

 

في هذه اللحظة, كانت أريا هي كل ما أُريده في هذا العالم.. كنتُ أشعر بأنها تعيد لي الحياة, تعيد لي الأمل.. كانت لحظة عابرة, لكنها كانت مليئة بالعواطف والأحاسيس التي لن أنساها أبدًا..

 

حاولت أريا التحرك لكن ضغطت ذراعي حول معدتها أكثر لأمنعها من الابتعاد عني.. تأففت أريا بانزعاج وهتفت بصوت مُختنق

 

" سنيور خوان, دعني.. أتركني.. دعني أذهب.. ثم من يسمعك الآن سيظن بأنكَ تشعر بالغيرة عليّ.. هل نسيت؟ أنا بطة قبيحة, من سينظر إليّ بنظرات الاعجاب والرغبة؟ يبدو بأنك فقدتَ عقلك "

 

أغلقت عيناي واستسلمت للحظة, مستمتعًا بدفء جسدها بين ذراعي.. كنتُ أعلم أن الطريق أمامنا ليس سهلاً, وأنه ستكون هناك الكثير من التحديات, لكن في هذه اللحظة, كان كل شيء يبدو ممكنًا..

 

تنهدت برقة ثم أخفضت رأسي قليلا وبدأت بتقبيل بشرة كتفها بنعومة.. انتفضت أريا في حضني وبدأ جسدها يرتعش أكثر.. أبعدت يدي عن خصلات شعرها وبدأت بتمرير أناملي بنعومة على ظهرها المكشوف..

 

" ماذا تفعل؟ هل جُننت؟ توقف.. دعني, أرجوك... "

 

همست أريا بتلك الكلمات بصوتٍ مبحوح وبخوف, ولكن في هذه اللحظات لا يوجد قوة على وجه هذه الأرض ستبعدها عني..

 

أبعدت يدي عن ظهرها ووضعتُها على فخذها.. شهقت أريا بذهول وحاولت بكلتا يديها ابعاد يدي عن فخذها, لكن قبضت عليه بقوة وتوقفت عن تقبيل كتفها وهمست لها برقة

 

" شششش.. لا تتحركي زهرة القمر.. لا تتحركي.. "

 

أبعدت رأسي قليلا عن كتفها ونظرت إلى فخذيها.. تأملت باستمتاع الفتحة الواسعة الجريئة والتي أظهرت جمال ساقها وفخذها الناعم.. تباً, لقد انتصب عضوي الذكري...

 

انتباه مشهد جريء قليلا**

 

حركت يدي بسرعة باتجاه سروالها الداخلي.. لا أعرف شهقة من كانت الأقوى, شهقتي أم شهقة أريا؟.. فزهرة القمر لم تكن ترتدي سروال داخلي..

 

تأوهت بمتعة بينما كنتُ أداعب منطقتها الحميمة بأصابعي, بينما زهرة القمر كانت تنتفض بذعر في حضني وهي تحاول ابعاد يدي عن مهبلها الجميل..

 

رفعت ذراعي عن معدتها ووضعتُها على صدرها لتثبيت حركتها.. ألصقت ظهرها على صدري وتأوهت برقة عندما تجمدت أريا وهمست بذعر وهي تلتفت وتنظر في عمق عيناي بخوف

 

" ماذا تفعل؟ دعني أرجوك, لـــ... همممممممممــــ... "

 

التقطت شفتيها بـ شفتاي وقبلتُها برغبة جنونية.. كان عضوي الذكري يحتك بقوة على مؤخرتها الجميلة, وبينما كنتُ أُداعب مهبلها بأصابعي أدخلت يدي الأخرى داخل فتحة فستانها على الصدر, حاوطت ثديها الأيمن بكف يدي وبدأت أداعبه برقة دون أن أتوقف عن تقبيلها بشغف وبرغبة..

 

كانت أريا قد تجمدت تماما في حضني, وكان مهبلها الجميل قد ابتل بالكامل بسبب مداعبتي له.. فقدت السيطرة على نفسي وحاولت ادخال أصبعي في فتحة مهبلها الصغيرة..

 

 

انتهى المشهد الجريء**

 

ولكن قبل أن أتمكن من ادخال أصبعي, توقفت عن تقبيل أريا وصرخت بألمٍ شديد عندما عضت زهرتي المُشاغبة شفتاي بأسنانها بقوة..

 

شتمت بعصبية وبألم وأبعدت وجهي عنها وكلتا ذراعي.. رأيت بغضب أريا تبتعد عني ووقفت وركضت بسرعة باتجاه الباب وهي تقوم بتعديل فستانها..

 

كنتُ أنظر إليها بدهشة بينما هي كانت تتأملني بنظرات غاضبة وقاتلة.. وبصدمة كبيرة سمعت أريا تهتف بغضب

 

" إياك, ثم إياك أن تلمسني مرة أخرى, هل فهمت؟ إن لمستني من جديد سأقتلك خوان دي غارسيا.. في المرة المقبلة سوف أتأكد بأن تدخل رصاصتي في وسط قلبك الأسود واللعين "

 

توسعت عيناي بذهول أكبر عندما رأيتُها تفتح الباب وغادرت الحمام مُسرعة, ثم سمعتُها تطلب من خانتو ليدخل إلى الحمام ويساعدني على الاستحمام..

 

رمشت بقوة, ثم ابتسمت بوسع وهمست بإعجاب

 

" اللعنة, كم هي مثيرة عندما تغضب.. زهرة القمر أصبح لديها أشواك دفاعية.. لا يجب أن أتجاهل هذه الأشواك, لكنني سأتخلص منها قريبا "

 

تنهدت بقوة ونظرت بحزن إلى الأسفل باتجاه انتصاب عضوي الذكري.. شتمت بألم ثم همست بلطف

 

" اللعنة, هذا مؤلم.. أريا, أنتِ قوتي وأملي.. لا تتركيني أبدًا "

 

هذه اللحظة كانت بمثابة رجاء وأمل غير معلن بينهما.. كانت بداية جديدة, وأمل جديد, وحب جديد يتشكل في ظلام الحمام الهادئ..

 

 

أريا**

 

خرجت من الحمام وأنا ألهث بقوة وأرتعش من الخوف.. لم أكن خائفة من خوان, بل كنتُ خائفة من نفسي.. كنتُ خائفة من نفسي لأنني كنتُ على وشك الاستسلام له بكامل إرادتي..

 

نظرت إلى خانتو والذي كان يقف في وسط الغرفة وهو ينظر إليّ بنظرات متوترة وخجلة.. طبعا أصبح لديه فكرة عن ما حدث منذ قليل داخل الحمام..

 

احمرت وجنتاي بخجل رغماً عني, ثم طلبت منهُ ليدخل إلى الحمام ويساعد خوان ليستحم.. استأذن خانتو مني بتوتر ودخل مُسرعاً إلى الحمام ثم أغلق الباب خلفه..

 

جلست بانهيار على الكُرسي ونظرت إلى ساقاي بحزن.. كانت فكرتي سخيفة أن أجعل خوان يفقد نفسه عندما يراني بهذا الشكل المثير.. كنتُ فقط أريد جعلهُ يرى مدى جمالي وأنوثتي الطاغية, ثم كنتُ سأخرج من الحمام وأتركه يتعذب بنار الرغبة.. ولكن خطتي باءت بالفشل..

 

فشلت خطتي تماما بسبب استسلام جسدي له.. حاولت مقاومته لكنني استسلمت له من أعماق قلبي.. لأنني أصبحت زوجته لم يعد جسدي ينفر منه, كما قلبي العاشق له استسلم له هو الآخر..

 

تنهدت بقوة, وهمست بحزن

 

" لولا وجود خانتو في الغرفة لكنا مارسنا الحُب في الحمام.. يجب أن أكون قوية أكثر.. خوان يجب أن يعتذر مني أولا على كل ما فعلهُ بي, وعليه أن يُحبني لذاتي, ربما حينها قد أنسى, قد أنسى كل ما فعلهُ بي.. لقد سامحته عندما اكتشفت بأنهُ على قيد الحياة ولكن لم أنسى وجعي, لم أنسى ما فعلهُ بي وكم ألمني... "

 

توقفت عن التكلم ورفعت رأسي بسرعة ونظرت باتجاه الحمام عندما سمعت صوت ضحكات خانتو وصوت خوان وهو يشتمهُ بغضب هاتفاً

 

" اللعنة عليك أيها المنحرف والقذر.. أدر رأسك اللعين ولا تنظر إلى عضوي الذكري.. منحرف لعين.. سافل قذر.. تباً لك "

 

قهقهت بخفة عندما سمعت خانتو يُجيبه بمرح

 

" أنتَ تعلم بأنني لستُ مُنحرفاً, ولكن لم أكن أعلم بأن لديك هذا العضو الذكري الكبير, كما هو منتصب بشدة.. صديقي, لا بُد بأنك تتألم بسبب انتصابك.. و... "

 

احمر وجهي بشدة لدى سماعي لما قاله خانتو.. سمعت خوان يشتمهُ بألفاظ بذيئة جداً جعلتني أخجل, ولكن خانتو كان يضحك بمرح رغم غضب صديقه..

 

جلست جامدة في مكاني لأكثر من ربع ساعة, كنتُ أسمع خوان يشتم خانتو بغضب طيلة هذا الوقت.. عندما انتهى من الاستحمام رأيت بتوتر وبخجل خانتو يفتح باب الحمام ثم دفع إلى الأمام الكرسي المُتحرك الذي كان يجلس عليه خوان..

 

وقفت بسرعة, ثم استأذنت منهما بخجل وركضت داخلة إلى الحمام وأغلقت الباب بسرعة ثم أسندت جبهتي عليه وتنهدت بقوة..

 

كان القمر يُرسل ضوءً خافتًا يتسلل عبر نافذة الحمام الكبيرة.. الهواء كان مشبعًا برائحة العطور الفاخرة التي استخدمتها أريا بعد استحمامها.. كانت المياه لا تزال تتقطر من أطراف شعرها الطويل, لتشكل قطرات صغيرة تلامس بشرتها الناعمة وتزيد من إشراقها..

 

خرجت أريا من الحمام بخطوات هادئة, مغطاة برداء حريري أبيض, وقد بدا وجهها مشرقًا ونظيفًا.. كان خوان يجلس على كرسيه المتحرك أمام النافذة الكبيرة وهو يراقبها بصمت.. كانت عيناه تتابعان كل حركة صغيرة تصدر عنها, وكأنهما لا تستطيعان الاكتفاء من رؤيتها..

 

تسطحت على الأريكة ثم رفعت اللحاف على جسدي وأغمضت عيناي.. سقطت في نومٍ عميق ورأيت حُلماً رائعاً.. رأيت نفسي في منزل خوان برفقة أشقائي الثلاثة ونحن سُعداء جداً.. وفي هذا الحُلم الجميل لم يتوقف خوان عن مُناداتي بزهرة القمر, ولم يتوقف عن الاعتراف لي بأنهُ يحبني بجنون..

 

في الصباح الباكر, عندما كانت الشمس تشرق ببطء خلف الجبال المكسوة بالثلوج, استيقظت أريا من نومها على صوت همسات خفيفة لم تستطع تحديد مصدرها في البداية.. فتحت عينيها ببطء, وشعرت بالنعاس يثقل جفونها.. لكن سرعان ما شعرت بحضور غير عادي في الغرفة, فقفزت إلى الجلوس بسرعة, لتجد أمامها أشقائها الثلاثة, رامو, رامون, و رافاييل, يقفون بجانب الأريكة التي كانت تنام عليها..

 

وقفوا الفتيان الثلاثة بصمت, يحملون في عيونهم تساؤلات بريئة وقلقاً خافتاً.. جلست أريا مذهولة لرؤيتهم أمامها, ونظرت إليهم بدهشة وقلبها يخفق بسرعة..

 

نظروا إليّ ثلاثتهم بعيونهم الواسعة والبريئة, وكل واحد منهم يحمل تعبيرًا مختلفًا, لكنهم جميعًا كانوا يتشاركون في نفس الشعور, القلق.. رفعت يدي ومسحت وجهي بتوتر, محاولة إخفاء دهشتي وقلقي المتزايد..

 

سألتهم بقلق بينما كنتُ أنظر إلى وجوههم الصغيرة بنظرة مُحببة

 

" صباح الخير صغاري.. ما الذي تفعلونه هنا؟ "

 

تقدم رافاييل نحوي بخطوة بطيئة وكان هناك تردد في عينيه.. نظر إليّ بتعجب

 

رواية المتادور - فصل 29 - ثلج دموي

 

ثم سألني سؤال غير متوقع

 

" أريا, لماذا تنامين على الأريكة وليس على سرير زوجك؟ "

 

احمرّ على الفور وجهي وبشدة, شعرت بتيار من التوتر والخجل يغمرني.. فكرت بتوتر كيف سأشرح لأشقائي الصغار السبب دون أن أُزيد من قلقهم؟.. حاولت أن أجد تفسيراً يقنع أشقائي الصغار دون أن أكشف عن السبب الحقيقي.. بلعت ريقي بقوة وقلت  بارتباك واضح

 

" لقد نمت على الأريكة حتى لا أُزعج خوان وهو نائم "

 

حاولت أن أبدو واثقة في كلامي, لكن لم أستطع إخفاء التوتر الذي كان يظهر في نبرة صوتي بينما كنتُ أتجنب النظر في أعينهم..

 

لكن رامون, الذي كان دائمًا الأكثر حساسية من إخوتي, تحدث بصوت حزين وكأنهُ يشعر بما أُحاول إخفاءه

 

" سنيور خوان خرج حزينًا منذ قليل من القصر.. لقد كان حزيناً جداً, أعتقد أن ذلك بسبب عدم نومكِ بجانبه.. أنتِ زوجتهِ ويجب أن تنامي بجانبه على السرير.. صديقي تيون في المدرسة أخبرني بأن والديه ينامان على سريرٍ واحد, وكل زوجة تنام بجانب زوجها.. سنيور خوان شعر بالحزن بسبب عدم نومكِ بجانبه "

 

كانت كلماته مليئة بالحزن, وكأن قلبه الصغير لا يحتمل رؤية من يحب حزينًا..

 

تجمدت للحظة, شعرت بوجع في قلبي بينما كنتُ أرى نظرات أشقائي الحزينة.. نظرت إلى وجوههم, وخاصة إلى رامو, عندما قال بحزنٍ كبير

 

" نحن نُحب سنيور خوان كثيرًا, ولا نُحب رؤيتهُ حزينًا "

 

كانت كلماته بسيطة لكنها مليئة بالصدق والعاطفة..

 

فجأة اقترب رامون مني ورمى نفسهُ في حضني, ثم عانقني بقوة ووضع رأسهُ على صدري وبدأ يبكي بشدة وهو يقول من بين شهقاته

 

" أشعر بالحزن الشديد على سنيور خوان.. لم يعُد باستطاعتهِ المشي.. هو لا يستحق ذلك.. أنا أُحبهُ كثيراً.. أشعر بالألم الشديد لأنهُ لم يعد يستطيع الوقوف والمشي.. أريا, لا تُحزني سنيور خوان مرة أخرى.. أرجوكِ, نامي دائماً بجانبه حتى يبقى سعيداً "

 

شعرت بوجعٍ كبير في قلبي, وعرفت أن أشقائي الصغار كانوا يشعرون بالقلق عليّ وعلى خوان.. كان ذلك الحب الذي يجمعهم بزوجي خوان يجعلهم يرون كل شيء بعيون بريئة, ويخشون من أي شيء قد يؤذيه..

 

عانقت رامون بشدة, ثم قبلت رأسهُ بقبلات عديدة, وقلتُ لهُ بحزن

 

" لا تبكي حبيبي.. أعدُك لن أُحزن خوان مرة أخرى.. فقط لا تبكي صغيري "

 

في هذه اللحظة كان الألم يعتصر قلبي, كيف يمكن أن أكون سببًا في حزن زوجي وأشقائي في نفس الوقت؟ ولكن لماذا خوان كان حزيناً؟ هل فعلاً كان يشعر بالحزن بسببي؟... لم أتمكن من الاستمرار في التفكير عندما قاطعني رافاييل قائلاً بسعادة

 

" أريا, طيلة الليل كانت السماء تثلج.. وعندما استيقظنا شاهدنا الثلج يغطي المنطقة كلها "

 

كانت هذه اللحظة وكأنها نافذة صغيرة من الفرح, شعرت بأن الجو الحزين بدأ يتلاشى تدريجيًا بفضل حماس رافاييل.. ابتعد رامون عني ومسح دموعه عن وجنتيه وقال بشغف بينما عيناه تلمعان بالأمل

 

" هل تخرجين لتلعبي معنا في الثلج؟ أنا سعيد جداً, اليوم سوف يتزوج المتادور من سنيوريتا لينيا, فهو يحبها كثيراً, رافاييل أخبرني بذلك.. ثم سنيور خوان سمح لنا باللعب بالثلج قبل أن يذهب برفقة عمي خانتو, ولكنهُ طلب منا أن لا نُزعج أحد, إذ يوجد الكثير والكثير من العُمال في القصر من أجل التحضيرات للزفاف "

 

قفز الأشقاء الثلاثة بحماس, وطلبوا منها أن تذهب معهم لتلعب في الثلج, وقالوا وهم يقفزون حولها بحماسة

 

" تعالي معنا, أريا.. سنبني رجل الثلج ونرمي الكرات الثلجية "

 

ابتسمت بحنان, ولم أستطع مقاومة تلك النظرات المتحمسة.. وقفت بسرعة, قبلت جبين كل واحد منهم بحب, وقلتُ لهم بحنان

 

" بالطبع, سأذهب معكم "

 

ركضت إلى الحمام, غسلت وجهي وأسناني بسرعة, ثم توجهت إلى غرفة الملابس.. اخترت ملابس دافئة وجميلة تناسب اللعب في الثلج, وارتديت معطفًا سميكًا وقفازات دافئة.. شعرت بالحماس يتصاعد بداخلي, وكأن الثلج يعيد لي ذكريات الطفولة, بل أعاد لي ذكريات طفولتي مع والدتي الحبيبة مارينا..

 

خرجت من غرفتي برفقتهم, وأمسكت بأيديهم الصغيرة بينما كنا ننزل السلالم.. كانوا يتحدثون بحماس عن كل شيء, عن الثلج الذي يغطي الحديقة, وعن كيف يريدون بناء رجل الثلج الأكبر على الإطلاق.. كان الحماس يملأهم جميعًا, وكأن الحزن الذي كان يُخيم على قلوبهم قد تلاشى تمامًا..

 

عندما خرجوا من الباب الرئيسي, انفجروا بالضحك والسعادة عندما شعروا بالهواء البارد على وجوههم ورأوا الثلوج البيضاء التي تغطي كل شيء من حولهم.. كانت ساحة القصر تبدو كجنة بيضاء, أشجارها مغطاة بطبقات ناعمة من الثلج, والأرضية تحت أقدامهم كانت ناعمة وباردة..

 

نظرت أريا أمامها بدهشة كبيرة عندما رأت عدد كبير من العمال يقومون بتزين الساحة الأمامية للقصر بالأشرطة البيضاء والورود والتماثيل, من أجل زفاف المتادور و لينيا..

 

نظرت إلى أشقائي الثلاثة, وقلتُ لهم بمرح

 

" هيا بنا لنذهب إلى الحديقة الخلفية ونلعب "

 

ضحك أشقائي بسعادة, ثم ركضوا باتجاه الحديقة الخلفية للقصر حيث كان الثلج يغطي كل شيء بطبقة بيضاء ناصعة.. كانت الأشجار والممرات والأعشاب كلها مغطاة بالثلج, مما حول الحديقة إلى مشهد ساحر أشبه بلوحة بيضاء مذهلة..

 

بدأوا باللعب معاً, يبنون رجل الثلج ويقذفون الكرات الثلجية على بعضهم البعض.. كانت ضحكاتهم تتعالى في الهواء البارد, وكان الثلج يطير من حولهم كحبات السكر البيضاء.. شعرت أريا بسعادة غامرة وهي ترى الابتسامات العريضة على وجوه أشقائها, ونسيت للحظات كل مخاوفها وقلقها..

 

في هذه اللحظة, شعرت أريا بأنها ليست فقط أختًا لهم, بل أمهم, أمهم التي تزرع في قلوبهم السعادة والأمان.. كانت مستعدة لفعل أي شيء من أجل الحفاظ على ابتساماتهم, حتى لو تطلب ذلك مواجهة أصعب القرارات وأكبر التحديات.. ولكن أريا لم تنتبه ولم ترى أم العشيرة, سنيورا رامونا, التي كانت تقف على شرفتها وهي تراقبهم بينما ابتسامة حزينة تُزين وجهها الشاحب والمُتعب..

 

لكن فجأة, تجمدت أريا في مكانها عندما سمعت صوتًا غاضبًا يتردد في الهواء البارد, كان الصوت يأتي من بعيد, من بين أشجار الحديقة التي تحيط بالقصر, صوتًا مليئًا بالحقد والمرارة

 

" أنظروا كيف أولادي يلعبون ويمرحون ويعيشون ببذخ وبسعادة بعيداً عني "

 

توقف الأشقاء الثلاثة عن اللعب في الحال, وتجمدت الضحكات على شفاههم.. نظراتهم امتلأت بالخوف والقلق عندما تعرفوا على الصوت.. كانوا قد عاشوا كوابيس هذا الصوت لسنوات, والآن ها هو يعود ليطاردهم في قصر الجوهرة وفي يوم كان من المفترض أن يكون مليئًا بالفرح..

 

ركضوا بسرعة نحو أريا, وعانقوها بقوة, وكأنهم يحاولون الاحتماء بها من الخطر الذي يقترب.. نظراتهم المتوترة كانت تتنقل بين وجه أختهم الكبيرة ووجه والدهم رودريغو, الذي كان يقترب بخطوات بطيئة وثقيلة, عينيه المتقدتين بالحقد مركزة على أريا..

 

نظرت إلى والدي ببرود, متماسكة رغم العاصفة التي كانت تعصف بداخلي.. وسألتهُ بحدة محاولة إبقاء صوتي ثابتًا

 

" ماذا تفعل هنا؟ وماذا تريد؟ "

 

ابتسم رودريغو بعبث, وملامحه كانت تحمل كراهية عميقة, ثبتَ نظراته على وجهي وكأنني كنتُ السبب الوحيد لكل مآسيه.. وبدهشة كبيرة سمعتهُ يقول بحدة

 

" أريد رؤية صهري العزيز خوان دي غارسيا.. لدي أمر ضروري أحتاج لمناقشته معه "

 

ضاق صدري من تلك الابتسامة الماكرة, وكنتُ أعرف أن لا شيء جيد يمكن أن يأتي من هذا اللقاء.. أخفيت خوفي واضطرابي وقلتُ لهُ بنبرة حادة

 

" خوان ليس في القصر.. أعتقد أنه من الأفضل أن تغادر الآن, فليس مُرحباً بك هنا "

 

لكن رودريغو لم يتراجع, بل اقترب مني أكثر, وخطواته كانت ثقيلة ومليئة بالتهديد.. وقف قريبًا جدًا مني, مما جعل أشقائي الثلاثة يختبئون خلفي ويتمسكون بمعطفي بقوة..

 

نظر رودريغو إليّ بعيون مليئة بالخبث وهمس بصوت منخفض حتى لا يسمعه الأطفال

 

" لا تكذبي أريا عليّ, فاليوم هو زفاف المتادور, والذي هو ابن عم زوجكِ.. أنا متأكد بأن زوجكِ خوان هنا في القصر.. اندهي له بسرعة ليأتي, لن أذهب من هنا قبل أن أرى زوجكِ المُعاق.. أريد استرداد أموالي كلها التي خسرتها في الكازينو الذي يمتلكه.. لقد جعلني أخسر كل ما كنتُ أملكهُ.. والآن أريد استرداد أموالي كلها منه, فهو مدين لي بالكثير "

 

اتسعت عيناي بدهشة, وتملكتني الحيرة.. كما شعرت بالغضب الشديد لأنهُ قال عن خوان مُعاق.. نظرت إليه بحدة وهتفت بغضب

 

" أولاً, زوجي ليس مُعاق.. ثم خوان ليس مديناً لك بشيء.. من الأفضل أن تذهب الآن "

 

ابتسم والدي بخبث, وقال بحقدٍ كبير

 

" زوجكِ المُعاق والمُعقد عليه أن يراني الآن, وإلا جعلته يدفع الثمن غالياً بسبب خسارتي لأموالي في الكازينو الذي يمتلكه.. من الأفضل لكِ أن تندهي له ليأتي وإلا كانت العواقب كبيرة "

 

" ماذا تقصد؟ " سألته بحدة بينما كنتُ أنظر إليه بخوف وبتوتر

 

تابع رودريغو بكلمات محملة بالحقد قائلاً

 

" أريد مبلغًا كبيرًا من المال.. على زوجكِ المُعاق والثري أن يدفع لي بسخاء, وإلا سأخذ الأطفال الثلاثة معي اليوم.. زوجكِ مدين لي بمبلغ كبير من المال, وعليه أن يدفع لي, وإلا سأخذ أطفالي معي "

 

بدأت النار تشتعل في عيناي, ومشاعر الغضب والخوف تندفع بداخلي.. نظرت إليه بحقد وهتفت بملء صوتي بوجهه

 

" زوجي ليس مدينًا لك بأي شيء.. غادر القصر فورًا, وإلا سأطلب من حراس زوجي أن يلقوا بك خارجًا "

 

ثم تابعت بحقد متزايد هاتفة

 

" أنتَ لم يعد لديك أولاد ولا ابنة, لقد تخليتَ عنا جميعًا مقابل المال "

 

في هذه اللحظة, رفع رودريغو يده وصفعني بقوة على وجنتي, قوة الضربة جعلتني أترنح إلى الخلف.. أمسك عنقي بقبضتهِ القوية وضغط عليه بشدة.. بدأ أشقائي يصرخون بذعر ويحاولون جاهدين إبعادهُ عني, لكنهم كانوا ضعفاء أمام قوته..

 

كانت أريا تقف في مواجهة والدها رودريغو الذي كان يمسك بعنقها بقبضة من حديد.. عيون أشقائها الثلاثة امتلأت بالدموع وهم يحاولون يائسين إبعاد والدهم عن شقيقتهم, لكنهم كانوا عاجزين أمام غضبه وحقده.. ودموعهم وصرخاتهم المذعورة ملأت أرجاء الحديقة..

 

شعرت بأنني على وشك الاختناق, الهواء انحبس في رئتاي, وحاولت جاهدة مقاومته وإبعاد قبضته عن عنقي, لكن رودريغو قرب وجهه من أذني وهمس بغضب بكلمات جعلتني أتجمد بصدمة كبيرة

 

" لن أتلقى الأوامر من ابنة الزنى, ولن أسمح لكِ بتهديدي أيتها العاهرة "

 

تساقطت دموعي على وجنتاي, كانت الدموع تحمل في طياتها الألم والخوف والعجز.. لكن رودريغو لم يكتفِ بذلك, بل ضحك بخبث وتابع هامساً في أذني

 

" أنتِ لستِ ابنتي.. أنتِ ابنة الزنى, ابنة شقيقي ريكاردو.. أمكِ كانت عاهرة, خانتني معه, وحملت بكِ وأنجبتكِ.. وأنا لأستُر هذه الفضيحة اعترفت بكِ كابنة لي وقمت بتربيتكِ "

 

كانت كلماته كالخناجر تخترق قلبي, شعرت بالصدمة تكتسح جسدي بالكامل, وغرقت في دوامة من الألم والخيبة والصدمة.. نظرت إلى والدي بعيون ممتلئة بالدموع والذهول, غير قادرة على استيعاب ما سمعته للتو.. لكن رودريغو لم يتوقف, بل تابع بلهجة مليئة بالحقد قائلاً

 

" لم أحبكِ يومًا, كنتِ دائمًا تذكريني بخيانة والدتكِ لي مع شقيقي.. أكرهكِ بجنون, أحتقركِ لأنكِ ابنة الزنى "

 

ابتعد رودريغو عني قليلاً, ونظر إليّ بشماتة, ولكن نظرت إليه بغضب وهتفت بصوت مُختنق

 

" أنتَ كاذب, أنا لا أصدقك.. إياك أن تتفوه أمامي بتلك الأكاذيب.. لن أسمح لك بالتكلم عن والدتي بسوء "

 

صفعني رودريغو مرة أخرى, وأمسك كتفي بعنف وهتف بغضب

 

" لن أسمح لكِ أن تنعتيني بالكاذب.. هذه هي الحقيقة, سواءً أعجبكِ ذلك أم لا.. أمكِ كانت عاهرة لعينة, لقد قامت بخيانتي مع شقيقي الحقير "

 

قرب رودريغو وجهه مني وهمس بحقد

 

" أنتِ ابنة ريكاردو, شقيقي اللعين.. أنتِ لستِ ابنتي ولن تكوني في يوم.. أنتِ ابنة زنى.. أنتِ عاهرة مثل والدتكِ "

 

وقفت جامدة أمامه, متجمدة من الصدمة والغضب غير قادرة على الحركة, بينما كنتُ أحاول استيعاب الصدمة.. وفي هذه اللحظة, بدأ رودريغو يتحرك نحو أشقائي الثلاثة محاولًا إمساكهم وأخذهم معه..

 

تساقطت الدموع بكثرة على وجهي بينما كنتُ جامدة بصدمة كبيرة وأنا أنظر إلى أشقائي الثلاثة وهم يبكون بذعر ويحاولون إبعاد والدهم عنهم.. لكن فجأة, تجمد رودريغو في مكانه عندما سمع صوتاً قوياً يهتف باسمه بغضب

 

" رودريغو... "

 

كانت السنيورا رامونا, أم العشيرة, تقف شامخة مثل جبل في وسط العاصفة عند مدخل الحديقة الخلفي برفقة عدد كبير من الحُراس, والغضب يتفجر من عينيها

 

" اترك الأطفال فورًا "

 

هتفت أم العشيرة بتلك الكلمات بغضبٍ حاد, جعلت رودريغو يتجمد في مكانه بذعر والتفتَ ببطء نحو السنيورا رامونا, بينما كان الخوف يرتسم على وجهه لأول مرة منذ أن وطِئَت قدماه الحديقة..

 

كان الصباح بارداً, وأشعة الشمس الخافتة تلامس سطح الثلج المتراكم في حديقة القصر, حين اقتربت السنيورا رامونا بخطواتها الثابتة من المكان الذي تجمع فيه رودريغو وأريا وأشقائها الثلاثة.. مع كل خطوة تخطوها, تزداد ملامحها الصارمة صلابة, وغضبها المتراكم كالبراكين المحتقن في أعماقها.. خلفها تبعها الحراس بخطواتهم الثقيلة, وكأن الأرض تهتز تحت أقدامهم..

 

وقفت أم العشيرة أمام رودريغو مباشرة, وعيناها كانتا مثل نيران ملتهبة.. وبدون أن تمنحهُ فرصة للرد أو الدفاع عن نفسه, رفعت يدها وصفعته بقوة على وجنته اليسرى, حتى أن الصوت تردد في أرجاء الحديقة كصفعة للسماء نفسها.. اهتز وجهه من قوة الصفعة, وهتف جسدهُ بالارتباك والخوف..

 

نظرت إليه رامونا بغضب متقد, وهتفت بوجهه بغضب لم يكن له مثيل

 

" كيف تجرأتَ وعُدتَ إلى هذا القصر رغم أنني هددتك في الأمس بعدم الاقتراب منه مجددًا؟! "

 

رودريغو لم يستطع الرد, شفتيه ارتجفتا وهو ينظر إليها بذهول وبذعر.. قبل أن يستطيع ترتيب أفكاره أو الدفاع عن نفسه, رفعت رامونا يدها مرة أخرى وصفعته بقوة أكبر على وجنته, وكأن كل غضبها المتراكم في هذه اللحظة قد انسكب على وجهه..

 

هتفت أم العشيرة بغضبٍ يشوبه تحدٍ, وكأنها كانت تتحدى الهواء نفسه أن يعترض طريقها

 

" كيف تجرؤ على لمس زوجة خوان دي غارسيا؟ "

 

رودريغو, لم يجد إلا الفزع يسيطر عليه أمام قوة غضبها.. حاول أن يتكلم, أن يدافع عن نفسه, لكن رامونا لم تمنحه أي فرصة.. حدقت به بعينيها الثاقبتين, الحقد والازدراء يملآن نظراتها.. عادت وهتفت بوجهه بغضبٍ مُرعب

 

" أريا أصبحت الآن سنيورا دي غارسيا, وليس لك الحق بالاقتراب منها أو لمسها بأي شكلٍ كان.. لقد أصبحت تحت حمايتي وحماية المتادور, وحماية هذا القصر, وخاصةً هي تحت حماية زوجها.. وأي محاولة للاقتراب منها سيكون ثمنها حياتك "

 

كانت كلماتها تنزل عليه كالصاعقة, وكلما تحدثت أم العشيرة كان يشعر بالضعف يتسلل إلى أوصاله..

 

كانت أريا جامدة تماماً من الصدمة, بسبب اعتراف والدها بحقيقة أنها ليست ابنته, كانت تنظر أمامها دون أن ترى أي شيء وهي تبكي بصمت.. أما رودريغو ظل واقفًا, غير قادر على التحرك, الذعر يلتف حوله كحبل محكم.. لم يكن قد توقع أن يقابل هذه القوة الغاشمة أمامه.. رامونا لم تكن امرأة يمكن أن يتجاهلها, إذ كانت تعرف تمامًا كيف تُحطم كل من يقف في طريقها..

 

نظرت رامونا إلى رودريغو بحقد بارد, نظرة كانت كافية لتجعل أي شخص آخر يرتجف من الخوف.. وهتفت بوجهه بحقد وبغضب جنوني

 

" سوف أُدمرُك, رودريغو.. دخولك اليوم إلى هذا القصر ولمسك لـ أريا, ومحاولتك لأخذ الأطفال, كل ذلك سيكون آخر خطأ ترتكبهُ في حياتك البائسة.. ستدفع الثمن غالياً, أعدُكَ بذلك "

 

كان صوت رامونا يحمل وعيداً لا يخطئه أحد, وعينيها تلمع بالغضب الذي لم يرَ رودريغو مثيلاً لهُ من قبل..

 

لم يكن أمام رودريغو أي مهرب.. كانت عيناه تتحركان بذهول بين رامونا وحراسها, وهو يشعر بأن الفخ قد انغلق عليه تماماً.. رامونا, بدون أن تلتفت إليه مرة أخرى, أمرت الحراس بصوت ثابت

 

" ارموه خارج القصر, ومن هذه اللحظة ممنوع عليه الاقتراب من هنا مجددًا.. لا أريده أن يقترب خطوة واحدة من هذا المكان مرة أخرى "

 

الحراس, بطاعتهم الفورية لأم العشيرة, تحركوا بسرعة نحو رودريغو, قبضوا على ذراعيه وسحبوه بقوة.. حاول أن يقاوم في البداية, لكن سرعان ما استسلم عندما شعر بأن لا مهرب له.. بينما كانوا يسحبونه, ظل ينظر إلى رامونا وكأنها مخلوق أسطوري لا يمكن هزيمته.. ارتعد قلبه خوفاً من المصير الذي ينتظره بعد أن تم طرده من القصر.. وعندما وصلوا الحُراس إلى البوابة, رموه خارج القصر بلا رحمة, وأغلقوا البوابة خلفه بعنف..

 

عندما اختفى رودريغو من الحديقة, نظرت رامونا بحزن نحو الأطفال الثلاثة الذين كانوا قد تمسكوا ببعضهم البعض مرتعدين خوفًا, إذ كانت أجسادهم ترتجف من الخوف والبرد.. اقتربت منهم ببطء, وانحنت برفق لتكون على مستوى عيونهم.. كانت ملامح وجهها قد تحولت من الغضب إلى الحنان, أخذت تجمعهم في حضنها بحب لتحتضنهم واحدًا تلو الآخر, وكأنها أم تعود لأطفالها بعد غياب طويل.. مسحت دموعهم بيدها القوية, ولكن بحنان يليق بعظمة أم العشيرة..

 

دموعهم بدأت تجف بينما كانوا يشعرون بالأمان بين ذراعيها.. همست رامونا لهم بصوت دافئ, محاولة طمأنتهم بعد الرعب الذي عاشوه

 

" لا تخافوا, لقد رحل ولن يعود.. أنتم بأمان الآن "

 

ثم أشارت بيدها إلى حارسها الشخصي, خوسي, الذي وقف على مقربة ينتظر أوامرها.. وأمرتهُ بنبرة هادئة قائلة

 

" خذ الأطفال الثلاثة إلى غرفتهم ودعهم يرتاحون.. سأهتم بنفسي بشقيقتهم "

 

أومأ خوسي برأسه وابتسم للأطفال, ثم أخذهم برفق ورافقهم بعيدًا عن الحديقة, في حين ظلت رامونا واقفة تراقبهم حتى دخلوا إلى القصر واختفوا عن أنظارها.. استدارت رامونا ببطء ونظرت إلى أريا بنظرات قلقة.. كانت أريا تتنفس ببطء وكأن العالم بأسره يثقل صدرها.. جسدها كان يرتعش وذهنها تائه, فيما كانت نظراتها تُحدق في الفراغ.. لم تكن تعلم أين تجد ملاذها من الألم الذي يعتصر قلبها..

 

بينما كانت أريا غارقة في صدمتها, سمعت صوتًا ناعمًا ومألوفًا يهمس باسمها

 

" أريا... "

 

كانت السنيورا رامونا, تتقدم نحوها ببطء, قلق واضح في عينيها القويتين.. وقفت أمام أريا, ومن صوتها الهادئ, ظهر مدى خوفها على الفتاة التي أصبحت في وقت قصير جزءًا من العائلة, إذ سألتها رامونا, وهي تقف بجانبها بينما عيناها متفحمتان بالقلق

 

" أنتِ بخير يا ابنتي؟ "

 

رفعت أريا ببطء عينيها المليئتين بالدموع لتنظر إلى أم العشيرة, لكنها لم تستطع الحديث في البداية.. ثم, بعد لحظات طويلة من الصمت الثقيل, همست بصوت خافت أقرب إلى الهمس وكأن كلماتها تكسر جدار الصدمة الذي كان يحيط بها

 

" أنا لستُ ابنته... أنا لستُ ابنة رودريغو سيرانو "

 

وقفت رامونا في مكانها, وبدا الذهول واضحًا على وجهها, إذ اتسعت عيناها بصدمة غير متوقعة.. صمتت للحظة, ثم همست بدهشة وغضب مكتوم

 

" رودريغو الحقير... لقد أخبركِ بالحقيقة "

 

عندما سمعتْ ما همست به سنيورا رامونا, شعرت وكأنني استيقظت من سبات عميق.. نظرت إليها بدهشة وصدمة كبيرة, وذهول لا يمكن وصفه, وابتعدت عنها قليلاً بارتباك.. اتسعت عيناي وهمست بصدمة لا حدود لها

 

" أنتِ كنتِ تعرفين؟ كنتِ تعرفين الحقيقة, أنني لستُ ابنته؟ "

 

نظرت سنيورا رامونا إليّ بحزن, لم تستطع الهروب من نظراتي المليئة بالأسئلة والاتهامات والذهول.. ببطء, أومأت رأسها موافقة واعترفت بهدوء

 

" نعم, كنتُ أعرف "

 

عند هذه الكلمات, انفجرت أريا بالبكاء, وكأن كل الحزن والصدمة التي كانت تخبئها في داخلها لوقت طويل قد فجرت سدوداً من الألم في قلبها.. كان البكاء يتصاعد من أعماقها, وكأنها لا تستطيع التحكم به..

 

اقتربت رامونا منها, وأمسكت بكتفيها بقوة, ثم عانقتها وكأنها كانت تحاول أن تمحو كل ما حدث, تحاول أن تعيد لها الأمان الذي فقدته.. لم تستطع رامونا أن تخفي حزنها.. نظرت إلى أريا بعينين مملوءتين بالحزن وقالت لها

 

" أنا آسفة أريا.. هذا لم يكن سري حتى أخبركِ به "

 

انهارت أريا أكثر.. كانت الدموع تتدفق على وجنتيها كأنهار لا تتوقف, وبدأت تبكي بصوت مرتعش بينما جسدها يهتز من الحزن العميق.. شهقت بقوة وهمست ببكاء مرير

 

" لماذا؟ لماذا لم تخبريني؟ لماذا سمحتم لي أن أعيش في هذه الكذبة؟ لماذا؟ ذلك الرجل ألمني وعذبني كثيراً.. كان يجب أن تُخبريني بالحقيقة منذ زمن.. إلهي.. أمي ليست سوى امرأة خائنة.. أنا ابنة زنى.. أنا لستُ سوى نتيجة خيانتها لـ رودريغو "

 

هزت رامونا كتفي بخفة, وهمست بصوت مليء بالحزن

 

" أريا, لا تظلميها.. والدتكِ مارينا كانت مظلومة.. ما حدث لوالدتكِ لم يكن بيدها.. لقد كانت ضحية لـ رودريغو.. حتى ريكاردو شقيقه كان ضحيته.. أمكِ أحبت ريكاردو حُب حقيقي, وهو بادلها الحُب بصدق.. أمكِ لم تتزوج رودريغو برضاها الكامل.. أنتِ لا تعرفين ما فعلهُ رودريغو بوالدتكِ حتى تتزوجه "

 

تجمدت في مكاني, ثم صرخت بصدمة بينما الألم يتزايد في قلبي

 

" "ماذا فعل بها؟! أخبريني "

 

صوتي تحول إلى نوبة هستيرية من البكاء, وأصبحت غير قادرة على الوقوف.. نظرت إلى سنيورا رامونا بتعاسة وهتفت ببكاء

 

" أخبريني ماذا فعل رودريغو بوالدتي؟ ثم, أين هو والدي الحقيقي؟ أين هو؟ لماذا تركني أنا وأمي مع شقيقه القذر؟ لماذا تخلى عنا؟ لماذا تخلى عن والدتي إن كان يُحبها بصدق؟ "

 

أمسكت سنيورا رامونا كتفي بقوة وبإحكام, ثم احتضنتني وكأنها تحاول أن تمنع الألم من تدميري بالكامل.. وهمست بحزن

 

" اهدئي, أرجوكِ, أريا.. توقفي عن البكاء.. والدكِ الحقيقي لم يتخلى عنكِ وعن والدتكِ بكامل إرادته.. لقد رحل رغماً عنه.. رودريغو قتله "

 

شهقت بقوة وتوقفت عن البكاء عندما سمعت ما تفوهت به أم العشيرة.. رفعت رأسي ونظرت إليها بصدمة كبيرة وهمست بذهول

 

" قتله؟! كيف يمكن أن يحدث هذا؟ كيف؟ لماذا لم يتم مُعاقبة رودريغو سيرانو لأنهُ قتل والدي الحقيقي؟ "

 

نظرت رامونا إليّ وقالت بحزن

 

" أعدُكِ الآن بأنهُ سيتم مُعاقبة رودريغو على جريمته.. سأخبركِ بكامل الحقيقة.. سأخبركِ ما حدث بالفعل في الماضي مع والدتكِ ووالدكِ الحقيقي "

 

تنهدت سنيورا رامونا بحزن وبدأت تُخبرني حقيقة ما حدث في الماضي..

 

عندما انتهت من سرد الحقيقة, انفجرت بالبكاء.. كان البكاء يتصاعد من أعماقي, لم أستطع التحكم به.. عانقتني سنيورا رامونا وكأنها كانت تحاول أن تمحو كل ما حدث, وكأنها تحاول أن تُعيد لي الأمان الذي فقدته..

 

وبينما كنتُ أبكي بحزن وبتعاسة, سمعت سنيورا رامونا تقول وهي تبكي بصمت

 

" سوف أُصلح كل شيء.. لا تبكي ابنتي.. أعدكِ أنني سأحميكِ.. لن أسمح لأحد بإيذائك بعد الآن "

 

أريا, التي كانت تبكي بهستيرية, بدأت تشعر بثقل هذا الوعد, لكنهُ لم يكن كافيًا لمحو الألم الذي كانت تعيشه في هذه اللحظة.. لكنها سمحت لدموعها بالانهمار, وكأنها كانت تطرد بها كل ما شعرت به من الخيانة والألم والحزن..

 

بعد لحظات, ساعدت رامونا أريا على المشي ببطء, كانت خطوات أريا متعثرة, وقد استنفدت طاقتها.. صعدتا معاً إلى غرفة خوان, وبتأنٍ شديد, ساعدتها رامونا لتتسطح على السرير.. جلست أم العشيرة بجانبها على طرف السرير, وأمسكت يد أريا بلطف..

 

نظرت رامونا إلى أريا والدموع ما زالت تملأ عينيها.. وقالت بندم حقيقي

 

" أنا آسفة.. لقد ظلمتكِ أريا.. لم يكن يجب أن أدع حفيدي يستغل براءتكِ.. كل ما حدث لكِ كان خطأي.. كان يجب أن أحميكِ وأحمي شرفكِ.. لكن بسبب الانتقام وحقدي الكبير على لينيا قمت بأذيتكِ بشكلٍ كبير.. سامحيني, أرجوكِ "

 

قالت رامونا هذه الكلمات بصوت متهدج من الألم والندم.. وتابعت قائلة بحزن وبندم كبير

 

" لقد ظلمتكِ وظلمت لينيا كثيراً, وأنا نادمة على كل ما فعلته بكما.. سأصلح كل شيء, أعدُكِ بذلك "

 

رفعت أريا رأسها ببطء, عيناها لا تزالان مليئتين بالدموع, لكنها لم تستطع الكلام.. كانت الكلمات تهرب منها, والمشاعر تختلط في قلبها..

 

استمرت رامونا بحديثها قائلة بحزن

 

" أمكِ مارينا, كانت إنسانة عظيمة.. لكنها تعذبت كثيرًا بسبب رودريغو.. لا تلوميها على ما فعلته.. أرجوكِ, سامحيها.. لقد كانت ضحية مثلكِ.. لم يكن بيدها فعل أي شيء.. عندما عرفت بأن رودريغو قتل شقيقه التزمت الصمت لتحتفظ بكِ.. كنتِ ثمرة حبها الحقيقي والصادق لـ ريكاردو.. أرجوكِ لا تلوميها, سامحيها على ما حدث في الماضي.. لقد كانت مارينا قوية.. وأنتِ تشبهينها كثيرًا.. أمكِ ضحت بالكثير حتى تحتفظ بكِ "

 

أريا كانت تلتقط أنفاسها بصعوبة, لا تزال تحتَ تأثير الصدمة بسبب اكتشافها للحقيقة.. دموعها ما زالت تنهمر على وجنتيها.. مسحت رامونا دموع أريا بحنان وقالت

 

" الآن, استريحي قليلاً.. لقد طلبت أن يتم إرسال فستان جميل جدًا لكِ, اخترتهُ بنفسي من أجلكِ, لترتديه بمناسبة زفاف حفيدي المتادور و لينيا.. أريدكِ أن تكوني أجمل سنيورا في الحفل "

 

بعد أن انتهت من كلامها, وقفت رامونا بهدوء وغادرت الغرفة ببطء.. عندما أغلقت الباب خلفها, لم تستطع أريا أن تكتم دموعها أكثر.. انفجرت بالبكاء من جديد, واسم والدتها الراحلة مارينا يخرج من بين شفتيها كنداء حزين, يعبّر عن كل الألم والحب والحنين الذي كانت تشعر به في هذه اللحظة...

 

 

رامونا دي غارسيا**

 

بعد أن أغلقت السنيورا رامونا باب غرفة حفيدها خوان خلفها, شعرت بثقل كبير في صدرها.. من واجبها الآن أن تحمي أريا وأشقائها الثلاثة, وستفعل ذلك بأي ثمن..

 

وقفت رامونا للحظة وهي تضع يدها على صدرها المُتعب, وكأنها تحاول تهدئة دقات قلبها المتسارعة.. أخرجت هاتفها الخلوي من جيب معطفها ودون أي تردد ضغطت على رقم حفيدها خوان..

 

رن الهاتف مرة واحدة فقط قبل أن يجيب خوان بصوت متوتر

 

( جدتي, أنتِ بخير؟ هل كل شيء على ما يرام؟ )

 

أخذت رامونا نفساً عميقاً, وقالت بهدوء

 

" خوان, أنا بخير, لا تقلق.. لكن يجب أن تعلم بما حدث اليوم.. رودريغو جاء إلى القصر.. لقد أتى بوقاحة وصفع أريا أمام أشقائها, كما حاول أن يأخذ الأطفال معه.. والقذر حاول فعل ذلك في الأمس لكنني منعته "

 

سمعت صوت أنفاس خوان المُتسارعة عبر الهاتف, وعرفت بأنهُ يحاول كتم غضبه بصعوبة.. ثم سمعتهُ يهتف بغضب وبحدة

 

( كيف؟ كيف يجرؤ ذلك القذر على لمس زوجتي وأطفالي؟ سأقتله )

 

تنهدت بقوة وقلتُ لهُ بجدية

 

" أنتَ لن تقتله, ولن تلوث يديك بدمائهِ الوسخة.. رودريغو مجرم.. قبل سنوات قتل والد أريا الحقيقي.. لقد قتل شقيقهُ الوحيد, وأنا لدي الأدلة التي تثبت ذلك.. سأخبرك بما حدث.... "

 

أخبرت خوان بكل ما أعرفه, أخبرتهُ كيف تزوجت مارينا من رودريغو وكيف أحبت شقيقه وحملت بطفلته, ثم أخبرته عن الجريمة التي ارتكبها رودريغو.. وعندما انتهيت استطعت سماع أنفاسه السريعة عبر الهاتف.. خوان كان قد توقف عن الكلام وكأنه لم يكن يستوعب ما سمعه, ثم هتف بذهول

 

( ماذا تقولين؟ رودريغو فعل ذلك؟ )

 

أومأت موافقة رغم أنه لا يستطيع رؤيتي.. تابعت قائلة بجدية

 

" نعم, لقد فعل ذلك.. رودريغو ليس مجرد رجلٍ وضيع, إنه مجرم.. لقد قتل والد أريا منذ سنوات طويلة بدمٍ بارد, وكما سبق وأخبرتُك لديّ الدليل على ذلك.. لم أخبرك من قبل لأنني خشيت أن يضر بك أو بأي شخص آخر, وكذلك بسبب وعدي للمسكينة مارينا "

 

قال خوان بصوت هادئ لكنه مليء بالانفعال المكبوت

 

( القذر, يجب أن يوضع حد له.. لن أسمح لهُ بالاقتراب من أريا أو إخوتها مرة أخرى.. سأجعلهُ يدفع الثمن غالياً )

 

"  بالضبط "

 

همست بتلك الكلمة براحة, وتابعت قائلة لحفيدي بجدية

 

" يجب أن تُنهي هذا يا خوان.. ضع رودريغو في المكان الذي يستحقه, السجن.. يجب أن يعرف أنه لن يستطيع الاقتراب منهم مجددًا.. أريا أصبحت زوجتُك, والأطفال أصبحتَ الوصي الشرعي عليهم, أي هم أطفالك الآن.. من واجبك حمايتهم بأي ثمن.. افعل ما تريده بذلك القذر لكن لا تقتله, دعهُ يتعفن في السجن لمدى العُمر.. الأدلة التي أمتلكها سوف أُسلمُها لك "

 

صمت خوان للحظات قبل أن ينطق بصوت هادئ ولكنه مملوء بالتهديد

 

( سأتصرف معهُ على طريقتي الخاصة.. أعدُكِ جدتي, سأجعل رودريغو يدفع ثمن كل ما فعلهُ قبل أن أجعلهُ يتعفن في السجن )

 

أنهت رامونا المكالمة بعد أن شعرت بالراحة من وعد حفيدها, لكنها لم تكن قد انتهت بعد.. خطت بخطوات ثابتة نحو الطابق الثاني, متجهة إلى غرفة لينيا.. فتحت الباب ببطء, وما إن دخلت حتى سمعت صوت لينيا المرتفع وهي تصرخ على الخدم

 

" أخرجوا جميعاً.. لا أريد مساعدتكم.. لا أريد الزواج من سلفادور "

 

صرخت لينيا بتلك الكلمات بينما دموعها تتساقط بغزارة على وجنتيها الشاحبتين بينما كانت تجلس في وسط السرير..

 

نظرت بذهول للحظة إلى لينيا, ثم نظرت إلى الخادمات وأمرتهم بهدوء

 

" غادروا الغرفة "

 

غادر الخدم على الفور, تاركين لينيا جالسة في مكانها على السرير تغمرها مشاعر التمرد والتعاسة.. اقتربت ببطء وجلست على طرف السرير, ونظرت إلى الفتاة المسكينة بحزن عميق..

 

نظرت إلى لينيا التي كانت تبكي بغصة.. تنهدت برقة وسألتُها بنبرة هادئة وحزينة

 

" لينيا, لماذا ترفضين الزواج من سلفادور؟ "

 

تأملتني لينيا بدهشة بينما كانت تبكي بصمت..


رواية المتادور - فصل 29 - ثلج دموي

 

انفجرت لينيا فجأة بالبكاء, وقالت بصوت مليء بالحزن

 

" سلفادور ليس مديناً لي بشيء.. هو ليس مُجبراً على الزواج مني فقط لأنه أخذ عذريتي.. لا أريد أن أكون عبئاً عليه "

 

نظرت لينيا إليّ بدموع متدفقة, وتابعت قائلة بصوت مُختنق

 

" سلفادور لا يدين لي بشيء.. كما أشعر بأنني أخون بينيتو.. لقد أحبني بجنون, وخسر حياته لحمايتي.. لقد ضحى بحياته لينقذني في تلك الليلة.. كيف يمكنني أن أكون زوجة شقيقه؟ لا أستطيع الزواج من سلفادور.. أنا لا أستطيع فعل ذلك "

 

نظرت رامونا إلى لينيا بلطف, مسحت دموعها بأطراف أصابعها الرقيقة وقالت لها بصدق

 

" إن تزوجتِ من سلفادور, لن تخوني بينيتو.. بالعكس, لقد ضحى بينيتو بحياته من أجلك, وسيكون سعيداً إذا علم أنكِ ستكونين في أمان مع شقيقه.. ستكونين بذلك تحترمين إرادة بينيتو.. لقد ضحى بحياته ليحميكِ, وكان سيرغب أن تكوني في أيدٍ آمنة وسعيدة "

 

فجأة لفتَ نظري رؤيتي لعلامة حمراء أسفل عنق لينيا.. رفعت يدي بسرعة وأبعدت ياقة القميص عن عنقها.. شهقت لينيا بفزع وحاولت إمساك ياقة قميصها وستر تلك العلامة الحمراء التي كنتُ أنظر إليها باستمتاع.. فهذه العلامة لم تكن سوى عضة حُب..

 

أبعدت يدي ونظرت إلى وجه لينيا التي توقفت عن البكاء وأصبح وجهها أحمر مثل الطماطم.. أخفضت لينيا نظراتها إلى الأسفل بينما كانت تحاول ستر ترقوتها وأسفل عنقها بكلتا يديها حتى تُخفي أثار قبلات سلفادور..

 

ابتسمت بوسع وقلتُ لها بنبرة سعيدة

 

" عندما استيقظت اليوم أخبرني حارسي الشخصي خوسي بأنكِ في ليلة الأمس قد هربتِ من القصر برفقة الطبيب أليخاندرو, وحفيدي سلفادور عرف بسرعة وذهب وأعادكِ إلى القصر.. وكما يبدو لي واضحاً حفيدي امتلككِ مرة أخرى "

 

احمر وجه لينيا أكثر, وسمعتُها تهمس بتلعثم وبارتباك

 

" سنيورا, هو.. نحن.. نحن لم.. لم... "

 

قاطعتُها قائلة برقة

 

" لا بأس.. أتفهم سبب تصرف حفيدي.. ثم لا تشعري بالخجل بسبب ما حدث بينكما, سوف تصبحين زوجته اليوم "

 

ثم سألتُها بهدوء

 

" لينيا, هل تحبين سلفادور؟ "

 

تجمدت لينيا في مكانها, نظرت إليّ بذهول وارتباك واضح.. استطعت رؤية شفتيها ترتعشان, وكذلك ارتعشت يديها في حضنها.. ولم تستطع لينيا التفوه بكلمة واحدة الآن أمامي..

 

ابتسمت برقة, وقلتُ لها بسعادة

 

" لقد كنتُ أعلم, كنتُ أرى تلك المشاعر في عينيكِ.. ثم سلفادور حفيدي يحبكِ أيضاً.. وأنا أبارك هذا الزواج "

 

لم تستطع لينيا أن تتكلم, ولكن بعد لحظات قليلة قالت بحزن عميق  بينما الدموع تلمع في عينيها

 

" سنيورا أنتِ مُخطئة.. أنتِ بعيدة كل البُعد عن الحقيقة.. سلفادور لا يحبني, هو فقط أخلاقهُ النبيلة تُلزمه على الارتباط بي "

 

نظرت إلى لينيا بنظرات حنونة, وقلتُ لها برقة

 

" أنتِ بريئة جداً.. صحيح حفيدي رجل شهم ونبيل, ولكن لا شيء سيجبرهُ على الزواج إن لم يكن يرغب بذلك "

 

تأملتني لينيا بنظرات حزينة وعرفت هنا بأنها لم تقتنع بكلامي.. لا بأس, الأيام القادمة ستثبت لها صحة كلامي, وبأن سلفادور يحبها بصدق..

 

احتضنت لينيا بحنان.. ثم ابتعدت قليلاً عنها وقلت بسعادة

 

" لقد طلبت أن يتم تعديل فستان زفافكِ, حتى ترتديه اليوم.. ستكونين أجمل عروس في اكستريمادورا.. وأنا متأكدة أن سلفادور سيحب رؤيتكِ بالفستان الذي ارتدته أمهُ سابقاً, وكذلك أنا في يوم زفافي "

 

تابعت قائلة بسعادة

 

" حسب تقاليد عشيرتنا, زوجة المتادور والذي هو رئيس عشيرة دي غارسيا, يجب أن ترتدي زوجته الفستان الذي تناقلته العائلة قرابة قرن وربع في ليلة الزفاف.. الفستان سيكون رائعاً عليكِ "

 

ولكن بينما كانت السعادة تملأ كلماتي, بدأت بالبكاء بحزن, ثم همست بغصة

 

" سامحيني لينيا... أنا ظلمتكِ كثيراً.. كان يجب أن أُخبر سلفادور في الأمس بالحقيقة عن ما حدث بينكِ وبين بينيتو, كان يجب أن أعترف له بما حدث بينكما.. ولكن سلفادور خرج من غرفتي قبل أن أفعل ذلك, إذ اتصل به مدير الأمن هنا وأخبرهُ بأنكِ هربتِ مع الطبيب "

 

مسحت رامونا دموعها, وتابعت قائلة بتصميم

 

" يجب أن تعترفي لحفيدي سلفادور بالحقيقة عما حدث بينكِ وبين شقيقه بينيتو.. على سلفادور أن يعرف الحقيقة.. ويجب على الجميع معرفة الحقيقة.. يجب على جميع رجال عشيرة دي غارسيا وأهالي اكستريمادورا أن يعرفوا الحقيقة.. أنتِ بريئة ولا ذنب لكِ بما حدث "

 

تراجعت لينيا قليلاً, والخوف واضح على وجهها.. نظرت إليّ بنظرات مُرتعبة وهمست بذعر

 

" لا... لا سنيورا.. لا يمكنه أن يكتشف الحقيقة.. لا يجب أن يعرف سلفادور الحقيقة.. لقد وعدت بينيتو بأنني لن أخبر أحداً.. في الأمس كنتُ ضعيفة ومنهارة لذلك أخبرتكِ بما حدث في الماضي "

 

أمسكت لينيا يدي بشدة, وقالت برجاء وتوسل

 

" أرجوكِ, لا تخبريه شيئًا.. هذا السر يجب أن يظل بيننا.. عديني سنيورا بأنكِ لن تُخبري سلفادور الحقيقة.. عديني بذلك, لو سمحتِ.. أرجوكِ, لا تتفوهين بكلمة واحدة أمام سلفادور "

 

نظرت إليها بحزن عميق, ثم أومأت موافقة رغمًا عني, وأجبتُها هامسة بحزن

 

" حسنًا, سأحترم طلبكِ.. أعدُكِ لينيا, لن أتفوه بكلمة واحدة عن ما حدث أمام سلفادور "

 

ثم, بحركة بطيئة غادرت رامونا الغرفة, تاركة لينيا وحيدة مع أفكارها ودموعها وهي غارقة في بحر من المشاعر المتضاربة...

 

 

كارميتا**

 

صعدت كارميتا إلى غرفتها بخطوات ثقيلة, غارقة في دموعها بعد المشاجرة العنيفة التي خاضتها مع شقيقها خوان.. كان قلبها ممتلئ بالغضب والحزن, لكنها لم تكن قادرة على السيطرة على مشاعرها.. كانت دموعها تسيل بحرارة على وجنتيها, تعبيراً عن الألم الذي ملأ قلبها منذ زمن طويل..

 

دخلت كارميتا إلى غرفتها وأغلقت الباب خلفها بعنف, قبل أن تتجه نحو سريرها وتجلس عليه مُنهارة تماماً.. كانت عيناها تفيضان بالدموع.. حاولت مسح وجهها ودموعها بظهر يدها, لكن الدموع استمرت بالتدفق بلا توقف, وكأنها كانت تُجسد الألم الذي حملته طوال حياتها.. وكلما مسحت دمعة, تبعتها أخرى وكأن قلبها الجريح لا يعرف سوى البكاء..

 

بينما كانت تجلس مُحطمة على سريرها, تحاول تهدئة نبضات قلبها السريعة التي تعكس الحزن والخيبة التي تعيشها.. وبينما كانت غارقة في دموعها, بدأ عقلها يستعيد ذكريات الطفولة التي كانت تخبئها في أعماقها..

 

عادت بذاكرتها إلى الماضي, إلى تلك الأيام التي كانت فيها طفلة صغيرة.. تذكرت كارميتا بحزن عندما كانت طفلة صغيرة متعلقة بشقيقها خوان بشكل لا يوصف.. تذكرت كيف كانت تركض وراءه في حدائق القصر, متمنية أن يُسمح لها باللعب معه.. لكن كان دائمًا يتم منعها من اللعب معه, لأنه لا يمكن للفتيات أن يلعبن مع الأولاد..

 

كان خوان بالنسبة لها البطل والمثل الأعلى, وكانت تتمنى أن تشاركه لحظات اللعب والمرح, لكنها كانت تُمنع دائمًا من اللعب معه فقط لأنها فتاة.. كانت تشعر بالإقصاء, وكأن هناك حاجزاً غير مرئي بينها وبين شقيقها المحبوب..

 

هذه الذكريات جعلتها تشعر بمرارة أكبر, ولكن ذكرياتها لم تتوقف عند هذا الحد, إذ تذكرت كارميتا بوضوح اليوم الذي جاء فيه خانتو إلى القصر للمرة الأولى برفقة والده.. كانت حينها في التاسعة من عمرها, وما زالت تذكر كيف رأت خانتو للمرة الأولى..

 

كان خانتو يبدو لطيفاً, قوي البنية, وملامحه تعكس الكثير من الجدية.. كان طويل القامة بالنسبة لعمره, وعيناه الحادتان تخفيان نوعًا من الغموض الذي جذب انتباهها على الفور.. رغم أنها لم تكن تعرف لماذا شعرت بذلك الشعور الغريب في صدرها حين رأته, لكنه ظل يرافقها منذ تلك اللحظة.. رغم صغر سنها, شعرت كارميتا بنوع من الإعجاب الغريب تجاهه.. ومع مرور الأيام, بدأت تشعر بشيء مختلف تجاهه..

 

" خانتو... "

 

همستْ باسمهِ بحزن بينما كنتُ أتذكر كيف كان خانتو يُعاملني بلطف واحترام وبحنان, يهتم بي وكأنني فرد مهم من عائلته.. كان دائمًا يُعاملني وكأنني أميرة صغيرة, بينما كان شقيقي خوان مشغولًا عني في عالمهِ الخاص..

 

كنتُ أحب كيف كان خانتو يهتم بي, ويسأل عن أحوالي دائمًا, ويحرص على أن أكون سعيدة وبأمان.. لكن في أعماق قلبي كنتُ أتمنى أن يكون خوان هو من يقوم بتلك الأشياء.. كان يجب أن يكون شقيقي هو الذي يحميني ويرعاني..

 

كان خانتو هو من يمد يد العون لي ويشاركني لحظاتي البسيطة.. تذكرت بحزن كم كنتُ أتمنى أن يكون خوان هو من يفعل ذلك.. كنتُ أشتاق لحنان شقيقي, وأتمنى أن يتقرب مني كما كان خانتو يفعل, ولكن كان الحاجز بيننا يكبر كل يوم..

 

مع مرور الوقت, بدأت أشعر بالحزن كلما كنتُ أتقرب من خانتو.. في أعماقي, كنتُ أتمنى لو أن مكانهُ كان شقيقي خوان.. بدأت أشعر بالكراهية تجاه خانتو, ليس لأنهُ فعل شيئًا خاطئًا, بل لأن وجوده كان يذكرني دائمًا بغياب شقيقي عني..

 

ولهذا كرهت خانتو, أو على الأقل أقنعت نفسي بأنني أكرهه.. شعرت بالخيانة نحو مشاعري, وكأنني أخون حُبي لشقيقي.. ولهذا بدأت أتصرف ببرود تجاه خانتو, وأحاول إبعادهُ عني, رغم أنهُ في قلبي كنتُ أعلم أنني لا أكرههُ فعلاً..

 

لكن رغم مُعاملتي القاسية معه, كنتُ أعلم في أعماقي أنني لا أكرههُ حقًا.. خانتو لم يكن السبب وراء ألمي, لكنهُ كان دائمًا القربان الذي تلقى غضبي وسخطي.. تذكرت بحزن كيف كنتُ أدفعهُ بعيدًا عني في كل مرة يحاول الاقتراب مني, كنتُ أتعامل معهُ بجفاء وبحقد وبنفور, وأحرص على جعلهِ يشعر بأنهُ غير مرحب به, رغم أنني كنتُ أشعر بالأمان معه..

 

مسحت كارميتا دموعها ببطء, وهمست بحزن

 

" خانتو ليس قبيحًا... وأنا لا أكرههُ فعلاً.. أنا لا أكرهه "

 

كانت الكلمات تخرج بصعوبة من شفتيها, وكأنها تعترف بشيء ظل مدفونًا داخلها لسنوات.. تمنت لو أنها تستطيع التراجع عن تلك المشاعر, لكن الوقت كان قد فات.. لقد مضى كثير من السنوات وهي تُخفي هذا الصراع الداخلي بداخلها..

 

ثم فكرت كارميتا بألم في سبب تصرفاتها المتكبرة والقاسية مع الآخرين.. كانت تعلم في أعماقها أن كل ذلك كان نتيجة افتقادها للحنان والعطف منذ صغرها.. كانت دائمًا تشعر بأنها مهمشة وغير مرغوب فيها, وكان ذلك يجعلها تتصرف بقسوة لتحمي نفسها..

 

جلستْ بصمت للحظة, أُفكر في كل شيء.. فكرت بألم شديد في الأسباب التي جعلتني أتصرف بتلك الطريقة المتكبرة مع الجميع.. همست لنفسي بصوت مبحوح وبحزن كبير

 

" أنا فقط, أفتقد حنانهم.. منذ صغري وأنا أشعر بالوحدة, كانوا دائمًا بعيدين عني "

 

كانت كلماتي تحمل مرارة السنوات الطويلة التي عشتُها وحيدة رغم وجودهم..

 

شهقت بقوة وبكيت بألمٍ كبير بينما كنتُ أتذكر ما قلتهُ منذ قليل لشقيقي.. مسحت دموعي عن وجنتاي وهمست بوجعٍ كبير وبحزن

 

" لم أقصد أن أقول تلك الكلمات الجارحة لشقيقي خوان.. لم أقصد جرحهُ بكلماتي... "

 

شهقت بقوة وتابعت هامسة بوجعٍ كبير

 

" لم أقصد... لم أقصد أن أقول تلك الكلمات الجارحة له... لم أقصد أن أقول إني سعيدة لأنهُ أصبح مقعدًا "

 

كنتُ أعرف أنني قد تجاوزت الحدود في شجاري مع شقيقي, وكانت تلك الكلمات التي خرجت من فمي أشد مما كنتُ أشعر به حقًا.. رغم كل المشاعر المعقدة التي تراكمت بداخلي, لم أكن سعيدة بحالته.. لم أكن أرغب برؤيته بهذا الضعف..

 

مسحت دموعي ثم تابعت قائلة بألم

 

" أنا أحبه.. خوان هو شقيقي.. لقد تألمت كثيراً بسبب ما حدث له, وما زلتُ أتألم.. لكن لماذا دائمًا يُبعدني عنه؟ لماذا لا يريدني بجانبه؟ لماذا لا يُحبني؟ لماذا يُحب زوجته وتلك البروفيسورة أكثر مني؟ "

 

شعرت باليأس من فكرة أن شقيقي الذي أحببته بعمق طوال حياتي, لم يكن يهتم بي ويُحبني بنفس الطريقة..

 

فجأة, تملكتني موجة جديدة من المشاعر.. كان هناك شخص واحد لم يبتعد عني أبداً, شخص كان دائماً إلى جانبي مهما كانت الظروف, الشخص الذي استطاع أن يملأ جزءًا من الفراغ العاطفي الذي كنتُ أُعاني منه..

 

توقفت عن البكاء وهمست بصوت مبحوح

 

" أنا أعشق سلفادور كثيراً.. هو الوحيد الذي يهتم بي حقاً ويُعاملني بحنان.. لا أستطيع أن أتحمل فكرة أن يكون مع غيري "

 

أنا أعشق سلفادور بجنون, ولا أستطيع تخيل حياتي بدونه.. هو الرجل الوحيد الذي يجعلني أشعر الآن بأنني محبوبة ومقدَّرة, وأكره رؤيتهُ يقف بجانب لينيا..

 

أصبحت أفكاري مضطربة ومليئة بالغضب, رفعت رأسي عالياً ونظرت أمامي بنظرة مشتعلة, وهمست بغضب متزايد وبتصميم

 

" لن أسمح بأن يتم زفافه على لينيا.. لا... سلفادور يجب أن يكون لي.. أنا التي تستحق أن تكون زوجته "

 

نظرت إلى الأمام بعزيمة وتصميم, وقد اتخذت قرارًا لا رجعة فيه.. ابتسمت ابتسامة شريرة, وهمست بحدة

 

" سأفعل أي شيء لأحصل عليه... أي شيء.. سأفعل أي شيء لأمنع هذا الزفاف بأن يتم وأحصل على سلفادور "

 

في الصباح, تسللت من غرفتي وذهبت باتجاه غرفة لينيا.. ولكن ما أن أمسكت بمقبض الباب تجمدت بغضب عندما سمعت صوت الخادمات داخل الغرفة.. الحقيرة لينيا لم تكن بمفردها..

 

وبينما كنتُ أُفكر بما يجب أن أفعله, سمعت بذعر صوت خطوات تقترب.. استدرت بسرعة ونظرت حولي بتوتر, ركضت واختبأت خلف عامود ضخم.. أملت رأسي قليلا واسترقت النظر لأرى بدهشة كبيرة جدتي رامونا تدخل إلى غرفة لينيا..

 

تجمدت في مكاني بينما كنتُ أنظر بدهشة وأنا أُفكر.. فجأة, سمعت باب الغرفة ينفتح ورأيت بدهشة الخادمات يخرجون من الغرفة.. بعد ذهابهم خرجت من مخبئي وركضت ووقفت أمام باب غرفة لينيا.. وطبعاً تجمدت بصدمة كبيرة بسبب ما سمعته..

 

" لينيا, بريئة؟!.. هي تُحب سلفادور, وهو يحبها! "

 

همست بتلك الكلمات بصوت بالكاد خرج من حُنجرتي.. وقعت تحتَ تأثير الصدمة عندما اكتشفت ذلك, ولكن لم أكتشف ما حدث بالفعل بين لينيا و بينيتو في الماضي.. كل ما عرفته بأن جدتي العزيزة عرفت الحقيقة من لينيا, وتلك البروفيسورة اللعينة من الجيد بأنها لا تريد بأن يكتشف سلفادور ذلك..

 

شعرت بالسخط والغضب والحقد عندما عرفت بأنها بريئة ولا ذنب لها بموت بينيتو.. عاجلا أم آجلا سيكتشف سلفادور الحقيقة, وهذا ما لا أريده أن يحدث..

 

نظرت أمامي بحقد, وهمست بغضب وبتصميم

 

" جدتي مُخطئة, سلفادور لا يُحب تلك اللعينة لينيا هارفين.. هو يُحبني.. سلفادور سيكون لي بأي ثمن "

 

استدرت وركضت مبتعدة عن الغرفة.. وبينما كنتُ أنزل السلالم بخطوات سريعة, همست بحقد

 

" يجب أن أتخلص من لينيا هارفين بسرعة وبأي ثمن قبل أن يتم هذا الزفاف اللعين "

 

ركضت كارميتا عبر الممرات الطويلة للقصر, قلبها ينبض بسرعة مع كل خطوة, وكأن الحزن والغضب اللذين يملآن صدرها يدفعانها للتحرك دون توقف.. كان شعرها المتطاير خلفها يعكس حالتها الداخلية المضطربة, وعيناها اللامعتان كأنهما تبحثان عن شيء لا تعرفه تمامًا, لكنها تعرف أنها لن تتوقف حتى تجده..

 

عندما وصلت إلى باب المطبخ الكبير, توقفت للحظة لتلتقط أنفاسها.. كانت الأصوات القادمة من الداخل تعكس نشاطًا محمومًا.. أخذت نفسًا عميقًا ودفعت الباب ببطء دون أن تصدر صوتًا, وعندما دخلت, تجمدت في مكانها بذهول..

 

أمامها كان المشهد مثيرًا للدهشة.. عدد لا يحصى من العمال كانوا يعملون بجد ونشاط, كل واحد منهم منهمك في التحضيرات الضخمة لزفاف المتادور.. بعضهم كان يقف بجانب الأفران يراقبون الطهي بعناية, والبعض الآخر كان يرتب الصحون الفضية والأكواب الكريستالية بدقة لا مثيل لها.. كانت الحركة لا تتوقف, كل شخص يعرف مهمته بالضبط, كأنهم تروس في آلة عملاقة تعمل بلا كلل..

 

كارميتا لم تكن معتادة على هذا الكم الهائل من النشاط في المطبخ.. كان هذا المكان عادة هادئًا, مجرد مكان لإعداد وجبات عادية لأفراد القصر.. لكن اليوم كان مختلفًا, التحضيرات للزفاف أخذت أبعادًا لم تكن تتخيلها.. شعرت وكأنها غريبة وسط هذا العالم الصاخب, لكنها لم تسمح لنفسها بالبقاء واقفة في مكانها طويلًا..

 

بحركات سريعة وهادئة, بدأت كارميتا تتسلل بين العمال.. كانت تتفادى بصمت أي تلامس أو انتباه, كأنها ظل لا يُرى.. تحركت بخفة تامة, ومرّت بجانب الطاولات الطويلة المليئة بالخضروات والفاكهة المقطعة, والعمال الذين يعملون بجد لتجهيز كل التفاصيل.. كلما اقتربت أكثر من وسط المطبخ, كان قلبها ينبض بقوة أكبر..

 

توقفت للحظة أمام سلة كبيرة من الفاكهة الطازجة الموضوعة بعناية على إحدى الطاولات.. نظرت إلى التفاح الأحمر البراق في السلة, وتذكرت كيف كانت طفلة تأخذ التفاح من المطبخ دون أن يلاحظها أحد.. مدت يدها ببطء وأمسكت بتفاحة حمراء بين أصابعها.. شعرت ببرودة السطح الأملس تحت لمستها, وعينيها تتحركان بسرعة بين العمال للتأكد من أن لا أحد يراقبها..

 

بينما كانت ترفع التفاحة ببطء, لفت انتباهها سكين حاد وضع بجانب السلة.. بريقه الصامت تحت ضوء المطبخ جعلها تتوقف للحظة.. عيناها التصقتا بالسكين, وكأن شيئًا في داخلها يقول لها أن هذا هو ما تحتاجه.. دون أن تفكر كثيرًا, مدت يدها الأخرى ببطء وأمسكت بالسكين وأخفته بسرعة في سروالها, ثم أعادت انتباهها إلى التفاحة التي كانت ما زالت ممسكة بها..

 

شعرتْ بدقات قلبي تتسارع أكثر, لكن تحركاتي كانت حذرة ومدروسة.. ابتعدت بخفة عن الطاولة وتقدمت نحو باب المطبخ, كل هذا بينما كان العمال منهمكين في مهامهم دون أن يشعروا بوجودي..

 

رميت التفاحة بسرعة في سلة المهملات وخرجت من المطبخ بهدوء وصعدت السلالم باتجاه الطابق الثاني حيث تقع غرفة لينيا.. وقفت أمام باب غرفتها ثم سحبت السكين ونظرت إليه باستمتاع, وهمست بحقد وبسعادة

 

" لينيا هارفين, سأتخلص منكِ الآن وإلى الأبد "

 

أخفيت بحركة سريعة يدي الممسكة بالسكين خلف ظهري, وبيدي الأخرى حركت مقبض الباب بهدوء وبخفة وفتحت الباب ودخلت إلى الغرفة, ثم أغلقت الباب خلفي بهدوء تام...

 

 

لينيا هارفين**

 

تجمدت في مكاني عاجزة عن الحركة.. كان الخوف يسيطر عليّ بشكل كامل, وشعرت بأنني فقدت القدرة على التفكير بوضوح.. كنتُ أستطيع رؤية الألم والحزن والغضب المُخيف في عيني سلفادور, وكنتُ أعلم في هذه اللحظة بأنهُ لن يُظهر أي ضعف أو شفقة أو رحمة أمامي..

 

تأملني سلفادور بنظرات مُشتعلة من الغضب, وتحدث بصوت هادئ ولكنه مليء بالغضب

 

" ساكورا أنتِ لي, ولن أسمح لكِ بالهروب مني مهما حاولتِ.. سنكون زوجين غدًا, وستبقين هنا تحت حمايتي.. لا تحاولي الهروب مرة أخرى, لأنكِ لن تفلحي "

 

نظرت إليه بعينين مليئتين بالدموع, ولم أستطع النطق بأي كلمة.. كنتُ أعلم بأنهُ لن يغير رأيه, وأنني سأظل عالقة في هذا الكابوس..

 

شهقت بضعف عندما أمسك سلفادور معصمي وجذبني بقوة لأقف أمامه, ثم قربني إليه حتى التصق صدري في صدره العريض والضخم.. رفعت رأسي ببطء ونظرت بفزع إلى عينيه الغاضبتين.. شهقة ضعيفة خرجت من فمي وأغمضت عيناي بسرعة بسبب خوفي الكبير عندما هتف سلفادور بحدة وبغضب جنوني

 

" ماذا فعل أليخاندرو؟ أخبريني بسرعة.. هل قبلكِ؟ هل تمادى معكِ؟ تكلمي واللعنة.. أخبرني, هل قبلكِ ذلك السافل؟ تكلمي ساكورا... "

 

حرك ذراعي بقوة لدرجة جعلني أتأوه بألمٍ شديد إذ شعرت بعظام معصم يدي على وشك أن تتحطم..

 

نظرت إليه بخوف وترقرقت الدموع في عيناي بينما كنتُ أنظر في عمق عينيه الغاضبتين.. بلعت ريقي بقوة وهمست بخوف شل روحي

 

" لم يفعل أي شيء.. صدقني "

 

شهقت بضعف عندما حرر سلفادور معصمي من قبضته ولكنهُ وضع كلتا يديه على كتفي وشرع يهزني بقوة وهو يهتف بغضب جنوني أرعبني للموت

 

" لا تكذبي عليّ ساكورا.. لقد رأيته وهو يُعانقكِ وعلى وشك تقبيلكِ.. لقد رأيتهُ وهو يلمس ما هو مُلكي.. سأحرق حياتهُ البائسة لأنهُ لمسكِ ساكورا.. فأنتِ مُلكي, ولن أسمح لأي رجل بلمسكِ "

 

أغمضت عيناي وشعرت بالإعياء الشديد بينما كان جسدي ورأسي يتأرجحان بعنف إلى الأمام والخلف.. توقف سلفادور عن هزي وسمعتهُ بفزع يهتف بغضب جنوني

 

" أنظري إليّ.. أنظري إليّ ساكورا "

 

فتحت عيني ببطء ونظرت بخوف إلى عينيه المُشتعلتان من جراء الغضب.. شهقت بذعر وبألم عندما ضغط سلفادور يديه بقوة على كتفاي وهتف بحدة وبغضب مُرعب

 

" إياكِ أن تكذبي عليّ أو تُدافعي عن ذلك القذر أمامي.. فأنا أعلم جيداً ما رأته عيناي.. أخبريني ساكورا, هل قبلكِ ذلك الحقير كما أفعل؟ تكلمي واللعنة "

 

ارتعش جسدي بقوة من الخوف بينما كنتُ أنظر إلى سلفادور بنظرات مُرتعبة.. فجأة, أخفض سلفادور رأسه وهجم بوحشية على شفتاي.. قبلني قبلة متوحشة وقاسية ودامية.. لم يكن سلفادور بكامل وعيه الآن بينما كان يقبلني بقسوة وبعنف..

 

سالت دموعي بحزن على وجنتاي بينما كان سلفادور يقبلني بهمجية مُطلقة.. فجأة, توقف عن تقبيلي ووضع جبينهُ على جبيني ونظر بحدة في عمق عيناي بينما كان يضع يدهُ الضخمة خلف رأسي ليثبتهُ ويمنعني من تحريك رأسي وإبعاده عنه..

 

نظر في عمق عيناي الباكيتين, وسألني بغضب بنبرة حادة

 

" أخبريني ساكورا, عندما قبلكِ ذلك الحقير, هل ارتعش جسدكِ بقوة كما يرتعش عندما أقبلكِ أنا؟ تكلمي "

 

بلعت ريقي بقوة, وهمست بضعف وبخوف بينما كنتُ أنظر إلى عينيه الغاضبتين

 

" صدقني, لم يلمسني الطبيب.. لقد كان مُجرد سوء تفاهم كبير.. كنتُ سأقع و.. والطبيب فقط أمسكني حتى لا أقع و... "

 

ضغط سلفادور يده على رأسي من الخلف وجعل رأسي يتحرك أكثر إلى الأمام حتى لامست شفتاي ذقنه.. أغمضت عيناي وارتعشت مفاصلي كلها عندما همس سلفادور بحقد قائلاَ

 

" لا أستطيع تصديقكِ الآن ساكورا.. لا أستطيع منع نفسي من التذكر كيف كان يحتضنكِ ذلك السافل عندما دخلت إلى منزله.. لا أستطيع منع نفسي من التذكر كيف رأيته وهو على وشك تقبيلكِ.. اللعنة.. كنتُ على وشك قتله لأنهُ لمسكِ ساكورا.. امتنعت عن قتله فقط لأنكِ كنتِ موجودة داخل منزلهُ اللعين "

 

أبعد سلفادور رأسه قليلا, ثم أمسك ذقني ورفع رأسي ليرغمني على النظر في عمق عينيه القاسيتين والمُرعبتين.. نظرت إليه بخوف عندما رأيتهُ يبتسم ابتسامة مُخيفة, ثم سمعتهُ بذهول يقول بلطف مفاجئ وهو ينظر إليّ بعمق

 

" لا أريد أن يلمسكِ أحد سواي ساكورا.. سأُمحي لمساته وحضنه من ذاكرتكِ.. أنتِ لي, وسوف تظلين مُلكي إلى الأبد "

 

توسعت نظراتي بذعر عندما حملني سلفادور فجأة بكلتا ذراعيه, ثم اقترب من السرير ووضعني عليه ثم حاصرني بجسدهِ الضخم..

 

رفعت كلتا يداي ووضعتهما على صدره بينما كنتُ أنظر إليه بذهول وبذعر تام.. تأملني سلفادور بنظرات غريبة ثم سمعتهُ بدهشة كبيرة يهمس بنبرة صارمة ولكنها في نفس الوقت حنونة

 

" أريدُكِ ساكورا.. أريدُكِ بجنون.. أنتِ لي, مُلكي.. "

 

شهقة ضعيفة خرجت من فمي ثم أغمضت عيناي عندما أغرق سلفادور رأسهُ بين كتفي الأيمن وعنقي وبدأ يوزع قبلات حارة على بشرتي..

 

ارتعش جسدي بعنف واستسلم تماما لقبلات سلفادور.. تأوهت بضعف عندما بدأ سلفادور يفتح أزرار قميصي دون أن يتوقف عن تقبيل عنقي.. سمعتهُ بحزن يهمس من بين قبلاته

 

" ساكورا, لماذا لا تُقاومينني؟ لماذا أنتِ مستسلمة لي ولقبلاتي ولمساتي لكِ؟ قاوميني ساكورا.. قاوميني واجعليني أتوقف عن لمسكِ.. لأنني لن أتوقف الآن إن لم تمنعيني "

 

لم أستطع فعل ما طلبهُ مني.. جسدي بكامله كان مستسلما له وتحت سيطرته.. شعرت بالحزن لأنني لا أستطيع مقاومتهُ مهما حاولت..

 

لم يستغرق الأمر وقتًا طويلاً حتى توقف سلفادور عن تقبيل عنقي وأمسك معصميّ وثبتهما فوق رأسي بقبضة يده, بينما أمسك بيدهِ الأخرى ذقني بقوة ورفع رأسي ونظر في عمق عيناي, وقال بصوت مبحوح

 

" قاوميني ساكورا.. اجعليني أتوقف "

 

نظرت إليه بنظرات ضائعة وضعيفة.. ومثل عادتي لم أستطع مقاومته بسبب عشقي الكبير له.. فأنا ضعيفة جداً أمامه بسبب مشاعري العميقة نحوه..

 

رأيت سلفادور يبتسم ابتسامة ناعمة ومنتصرة بينما كان ينظر إليّ بسعادة.. ثم همس برقة

 

" أنتِ لي ساكورا, وإلى الأبد "

 

أخفض رأسه وقبلني بعمق وشغف.. وبينما كان يقبلني شرع بإزالة ملابسي عن جسدي حتى أصبحت أسفله بملابسي الداخلية فقط..

 

بينما كان يقبلني بشغف, شعرت به وهو يبتسم في القبلة.. فجأة, أدخل سلفادور لسانه داخل فمي, كان لسانه يداعب لساني, ثم بدأ يمتصه بجوع وكأنهُ لا يستطيع الحصول على ما يكفي منه..

 

انتباه مشهد جريء**

 

 

في البداية, كانت تحركات وقبلات ولمسات سلفادور بطيئة.. قبلاته وحركاته وطريقة مداعبته لجسدي الشبه العاري أسفله جعلتني أفقد أنفاسي ونبضات قلبي..

 

مرر سلفادور إصبعه السبابة ببطء متجهًا من ترقوتي ثم صدري إلى الجزء الأكثر حساسية في جسدي, منطقتي الحميمة.. ببطءٍ شديد, بدأ يفرك إصبعه على سروالي الداخلي كمداعبة.. شعرت بمهبلي يبتل بسرعة من لمسته وأنين مستمتع خرج من بين شفتاي..

 

توقف سلفادور عن تقبيلي ومداعبتي في الأسفل, وبدأ بخلع ملابسه بسرعة حتى أصبح عاريا.. احمرت وجنتاي بشدة عندما رأيت ذكورته المنتصبة.. أشحت نظراتي عن ذكورته, ثم شهقت بضعف عندما حاصرني سلفادور بجسده وهمس برقة في أذني

 

" لا تخجلي مني ساكورا, فأنتِ امرأتي.. وغداً سوف تكونين زوجتي إلى الأبد "

 

حركت رأسي قليلا ونظرت إليه بحزن.. كنتُ أريده أن يعترف بحبهِ لي, لكن هو فقط معجب بي ويريد أن يتزوجني فقط لأنهُ حصل على عذريتي..

 

رأيت سلفادور يتأملني بنظرات غريبة, ثم ابتسم برقة.. تلك الابتسامة التي تشكلت على وجهه الآن جعلت قلبي ينبض بجنون.. مجرد التفكير في ما كان يدور في رأسه كان يقودني إلى الجنون.. كنتُ أعلم الآن بأنهُ سيمارس الجنس معي, لكن أردته أن يمارس الحُب معي الآن..

 

أغمضت عيناي وسمحت لهُ باستسلام بإزالة ملابسي الداخلية عن جسدي حتى أصبحت مكشوفة تماما أمامه..

 

سمعت صوت أنفاسهِ المتسارعة.. ثم سمعت سلفادور يهمس برقة

 

" ساكورا, أنظري إليّ "

 

امتثلت لطلبه, فتحت عيناي بخفة ونظرت إلى عينيه التي بدت وكأنها أظلمت قليلاً.. كانت الرغبة والشهوة مكتوبة على وجهه ونظراته, وجدت نفسي بضعف أتوق إليه وإلى نظراتهِ تلك..

 

أخفض سلفادور رأسه وقبلني بشغف وبطريقة مُتملكة.. لم أعترض على قبلته بل بادلته القبلة بخجل وبحب..

 

وضع سلفادور طرف عضوه الذكري على فتحة مهبلي.. أخذت نفساً عميقًا, وما هي سوى سواني قليلة شعرت بعضوه الذكري ينزلق بداخلي ببطء..

 

أنين متألم خرج من حُنجرتي بينما كان سلفادور يدفع برقة بداخلي.. توقف عن تقبيلي وسمعته يهمس بأنفاس متسارعة

 

" اللعنة.. ساكورا, أنتِ ضيقة جدًا.. أنتِ لي.. مُلكي لوحدي "

 

صرخت بألم عندما استخدم سلفادور قوته الكاملة للدفع بداخلي.. كان الأمر غير متوقع, وكأن كل الهواء قد اختفى من رئتاي.. شعرت بعضوه الذكري يملأني, ورغم شعوري بذلك الألم إلا أنني أردت منه أن يفعل ذلك كل يوم, وطوال الوقت..

 

كنتُ أعلم بأنني سأندم على استسلامي له الأن, ولكن الحق يقال, لم أكن أفكر في عواقب استسلامي له, لم أكن بحاجة لفعل ذلك في هذه اللحظات, سيأتي ذلك غدًا في كلتا الحالتين.. لكن في الوقت الحالي, ركزت فقط على الشعور الرائع والمُبهج الذي أعطاني إياه سلفادور..

 

بينما كان سلفادور يمارس الجنس معي الآن كنتُ أرى النجوم أمامي.. في كل مرة كان يدفع عضوه الذكري بداخلي كان يجعلني أقترب من الحافة.. كان شعورًا مثاليًا شعوري به بداخلي.. إنهُ رجلي وحبيبي الوحيد..

 

كنتُ في حالة من الفوضى بسبب لمساته وقبلاته لجسدي ودفعاته العميقة.. كنتُ أشعر بالحرارة في جميع أنحاء جسدي وبالنار تشتعل في أعماقي.. ورغماً عني كنتُ أهمس باسمه بضياع, وكان سلفادور يسمع تأوهاتي باسمه وكان يتعمق أكثر وأكثر وأكثر مع كل دفعة, وقبلاته انتشرت على ترقوتي وصدري بكامله..

 

أحببت بجنوني قبلاته ولمساته ودفعاته بداخلي.. أحببت إحساسي به بداخلي.. كنتُ له, ملكهُ.. وأنا أحببت هذا الشعور, لقد جعلني مدمنة عليه تماما..

 

غرقت في أعماق مشاعري بينما كان سلفادور يمارس معي الجنس.. هو حُلمي الوحيد.. هو حبيبي.. وهو عالمي الوحيد..

 

كنتُ ضائعة أمام قبلاته ولمساته وشعوري بذكورته بداخلي.. جسدي كان مُلكه لهُ وحده, وكذلك قلبي.. سلفادور هو حُب حياتي الأول والأخير, وسيظل كذلك إلى الأبد..

 

تسارعت دفعات سلفادور أكثر فأكثر.. مزج شفتيه بشفتي وقبلني بقوة وبرغبة عميقة.. بادلتهُ القبلة باستسلام واضح, ثم توقف فجأة عن تقبيل شفتاي وأغرق رأسه في عنقي وسمعتهُ يهمس بأنفاس متسارعة اسمي, ثم شعرت بعضوه الذكري يملأني من الداخل..

 

انتباه: انتهى المشهد الجريء**

 

 

ثواني قليلة, ارتخى جسد سلفادور فوقي, وعلى الفور ابتعد عني بهدوء ثم استلقى بجانبي وعانقني بقوة إلى صدره..

 

قبلني سلفادور على رأسي بينما كان يحاوط ظهري بكلتا ذراعيه.. سمعتهُ يتنهد بقوة, ثم قال بنبرة حنونة وهو يضمني بقوة إلى صدره

 

" ساكورا, كم أنتِ جميلة... "

 

توقف عن التكلم للحظة, ثم تابع قائلاً بهدوء

 

" كل ما أريده هو أن تكوني بجانبي, أن تكوني آمنة وسعيدة.. لماذا لا تفهمين ذلك؟ "

 

لم أستطع الرد بينما كنتُ أستمِع إلى دقات قلبهِ السريعة.. لكن شعرت ببعض الدفء في كلماته.. فكرت بحزن بينما كنتُ أستنشق رائحة جسدهِ الجميلة, يا ليتهُ فقط يحبني.. لا أريد أي شيء منه سوى أن يُحبني كما أحبه.. ولكن إن أحبني سلفادور لن أستطيع أن أكون له, لأنني ببساطة لا أستطيع خيانة حُب وتضحية بينيتو..

 

منعت نفسي من البكاء على صدره.. لم أكن أعلم إن كنتُ أستطيع النجاة من هذه العاصفة العاطفية التي تعصف بداخلي.. تملكتني مشاعر مختلطة بين الخوف والحب والتردد, ولكن قررت أن أبقى قوية مهما كانت الظروف..

 

تضحية بينيتو لن تذهب سُدى.. سأهرب من هنا وأبتعد عن سلفادور بأي ثمن..

 

شعرت بـ سلفادور يبتعد عني بهدوء ثم وقف.. لم أفتح عيني وأنظر إليه بينما كان يرتدي ملابسهُ بهدوء.. وقبل أن يخرج من الغرفة اقترب وقبلني برقة على جبيني, ثم سمعتهُ يهمس بنبرة حنونة قائلا

 

" استريحي ساكورا, ونامي بهدوء, فغداً زفافنا "

 

وما أن ابتعد عني وغادر الغرفة رفعت غطاء السرير على جسدي العاري.. شعرت بتلك الوحدة التي كانت تملأ حياتي منذ رحيل بينيتو.. كنتُ مُستلقية في وسط السرير الكبير, حيث كان قد غادره سلفادور قبل لحظات قليلة.. عيناي اللتان كانتا ممتلئتين بالدموع, بدأت تتساقط بدون وعي, وكأن الألم الذي كنتُ أحملهُ في قلبي بدأ يفيض..

 

ضممت جسدي بإحكام, وكأنني أُحاول حماية نفسي من الذكريات المؤلمة التي كانت تقتحم عقلي دون استئذان.. شعرت بالبرودة تحت الغطاء الثقيل, لكن حرارة الدموع التي كانت تنهمر على وجهي لم تتوقف..

 

ظلت لينيا تبكي بصمت, ويدها ترتجف بينما تمسك بأطراف الغطاء كأنها تبحث عن ملاذ من الألم الذي لا يفارقها.. كانت همساتها الحزينة تخرج من بين شفتيها المرتجفتين, ولم تكن تسعفها الكلمات, بل فقط اسم واحد كان يتردد في الظلام

 

" بينيتو.. بينيتو.. بينيتو... "

 

كانت لينيا تناديه وكأنه حي, وكأنه سيسمعها ويعود ليأخذها بعيدًا عن هذا الألم والحزن..

 

" بينيتو... بينيتو... "

 

كان صوتها يخرج كأنها تستدعي طيفه من الماضي, من تلك الأيام التي كانت مليئة بالحب الأخوي والأمل, قبل أن تتحول حياتها إلى هذه الدوامة من الفقد والندم..

 

استمرت لينيا بالبكاء, غارقة في ذكرياتها, دون أن تلاحظ أن باب الغرفة قد انفتح ببطء.. خطوات هادئة تسللت إلى الداخل, وصوت تنفس ثقيل قطع الصمت.. المتادور سلفادور, الذي عاد إلى الغرفة بعدما شعر أنه لم يستطع أن يتركها بمفردها, تجمد في مكانه عندما رأى المشهد أمامه..

 

ودونَ أن تشعر لينيا بوجوده, وقف سلفادور لبعض الوقت, يراقبها بصمت دون أن يجرؤ على الاقتراب منها..

 

 

سلفادور**

 

 

كان سلفادور في جناحه الخاص, وقد أنهى للتو يومًا طويلاً مليئًا بالتوترات والمشاعر المتضاربة.. وقف أمام المرآة في الغرفة الواسعة وأزال سترته الثقيلة ووضعها على الأريكة بجانب النافذة.. بدأت أصوات الليل تهدأ في الخارج, لكنه لم يكن يشعر بأي هدوء داخلي..

 

وقف سلفادور بهدوء وأخذ ينظر إلى السماء عبر النافذة للحظة, قبل أن يبتعد قليلا ويقف في وسط الصالون الفخم داخل جناحه الخاص, وبدأ يفتح زر كُم قميصه الأبيض, فجأة سمع صوت طرقات قوية ومتتالية على باب الجناح..

 

تجمد للحظة, متفاجئًا من شدة الطرق, وتساءل عما قد يحدث بينما كان ينظر بتعجُب باتجاه باب الجناح الرئيسي..


رواية المتادور - فصل 29 - ثلج دموي

 

بصوت هادئ لكنه يحمل شيئًا من الحذر, أمرت الطارق ليدخل

 

" ادخل "

 

انفتح الباب بسرعة ورأيت إحدى الخادمات تدخل إلى جناحي ثم ركضت ووقفت أمامي بينما وجهها كان غارقًا في الدموع, وبدأت تهتف بخوف

 

" ماتادور.. السنيورا رامونا, لقد تعرضت لوعكة صحية, سيدي.. لقد تم نقلها إلى غرفتها والطبيب أليخاندرو معها الآن "

 

شعرت وكأن الأرض قد انزلقت من تحت قدماي.. تلك الكلمات ضربت قلبي بقوة.. نظرت إلى الخادمة بصدمة كبيرة ثم همست بصوت مليء بالذهول والخوف

 

" جدتي!... "

 

لم ينتظر سلفادور المزيد من التفاصيل, ركض مُسرعًا نحو باب الجناح, وخطواته كانت ثقيلة على الأرضية, لكن قلبه كان أخف من الريح.. تلك المرأة العظيمة التي كانت دائمًا تمثل له القوة والحنان, كيف يمكن أن تسقط هكذا فجأة؟..

 

عندما وصلتْ إلى غرفة جدتي رامونا, كان الطبيب أليخاندرو يخرج من الغرفة محاولًا إخفاء القلق الذي يسيطر على ملامحه.. وقفت أمامهُ لاهثًا, وسألته بقلق متزايد

 

" كيف هي؟ هل هي بخير؟ "

 

أجاب الطبيب بهدوء متردد

 

" ماتادور, لقد تعرضت جدتك لوعكة بسبب الإجهاد.. حالتها مستقرة الآن, لكنها بحاجة إلى الراحة التامة.. لا تضغطوا عليها.. سنيوريتا كارميتا في الداخل برفقتها, لقد طلبت منها الخروج لكنها رفضت.. من الأفضل حالياً أن تظل أم العشيرة بمفردها حتى ترتاح قليلا "

 

شكرته, ثم فتحت باب الغرفة ببطء ودخلت.. كانت جدتي مستلقية على السرير, وجهها شاحب وعيونها مليئة بالدموع.. رأيت كارميتا تقف بجانب السرير وهي تنظر إلى جدتي بنظرات متوترة..

 

اقتربت من السرير وشعرت بثقل الهواء المحيط بجدتي.. جلست بجانبها, أمسكت يدها, لكنها سحبتها بعيدًا بصمت.. تنهدت برقة, وسألتُها بقلق

 

" جدتي, لماذا تبكين؟ هل تشعرين بالألم؟ أنظري إليّ جدتي.. أخبريني, ما الذي يؤلمكِ؟ "

 

دموعها لم تتوقف, ورفضت جدتي أن تنظر إليّ.. كل ما كانت تفعله هو ترديد كلمات متقطعة

 

" أريد رؤية لينيا... أريد التحدث معها.. يجب أن أراها... "

 

كلماتها صدمتني.. لماذا تريد لينيا في هذا الوقت؟.. حاولت التحدث معها, أن أفهم ما الذي يدور في ذهنها, لكن جدتي كانت ترفض الكلام معي, وكأن وجودي أصبح عبئًا عليها في هذه اللحظة..

 

فجأة, اقتربت كارميتا ووقفت أمامي, وجهها مشبع بالكراهية والحقد, ونظراتها تحترق بنار العداء.. نظرت إليها بنظرات مُتعجبة خاصةً عندما سمعتُها تهمس بغضب

 

" لقد اكتفيت.. سلفادور, أنتَ يجب أن تعرف الحقيقة وما حدث لجدتنا الليلة "

 

عقدت حاجباي وبدأت نظراتي تتنقل بين جدتي و كارميتا, إذ جدتي بصوتها الضعيف طلبت من كارميتا لتصمت ثم طلبت منها الخروج من الغرفة.. لكن كارميتا رفضت تنفيذ أوامر جدتنا, إذ وقفت بتصميم أمامي وقالت بحدة

 

" لا جدتي, لن أخرج من غرفتكِ قبل أن يعرف سلفادور ما حدث "

 

تأملتني كارميتا بنظرات غريبة, ثم قالت بكرهٍ كبير بنبرة سم ممتزجة بالسخرية

 

" سلفادور, أتدري أين كانت جدتنا عندما تعرضت للوعكة؟ "

 

نظرت إليها بدهشة وسألتُها بسرعة

 

" ماذا تعنين؟ أين كانت جدتي؟ "

 

تابعت كارميتا قائلة بخبث, موجهة كلماتها كطعنة في قلبي

 

" جدتُنا رامونا كانت في غرفة لينيا.. تلك المرأة فعلت شيئًا لجدتنا.. لا شك في أنها السبب وراء مرضها.. كما تسببت بموت بينيتو كانت تريد قتل جدتي الليلة "

 

نظرت إلى كارميتا بصمت, محاولًا فهم ما تقصده.. كلماتها لم تكن منطقية, لكن قبل أن أتمكن من الرد سمعت جدتي تهتف بغضب بصوتها الضعيف

 

" أخرجي كارميتا, لن أسمح لكِ بتحريض سلفادور ضد البروفيسورة.. أخرجي من غرفتي وفي الحال "

 

وقفت بهدوء ونظرت إلى كارميتا بنظرات حادة, ثم أمرتُها بهدوء قائلاً

 

" من الأفضل أن تخرجي من الغرفة.. جدتنا مريضة ولا أريدها أن تُجهد نفسها أكثر "

 

حاولت كارميتا الاعتراض لكن أمسكت ذراعها ودفعتُها لتخرج من الغرفة ثم أغلقت الباب.. استدرت ونظرت إلى جدتي, رأيتُها تمسح دموعها عن وجنتيها الشاحبتين, ثم سمعتُها تقول بصوتٍ ضعيف وبإرهاق

 

" اقترب سلفادور, يجب أن أخبرُك.. عليك أن تعرف الحقيقة.. فالأمر بالغ الأهمية "

 

اقتربت ووقفت بجانب السرير.. نظرت إلى جدتي بنظرات قلقة, ولكن قبل أن أتمكن من سؤالها, رن هاتفي الخلوي.. أخرجت الهاتف بسرعة من جيب سروالي ورأيت رقم رئيس حُراسي, بيريز, على الشاشة...

 

تلقيت المُكالمة, لكن ما أن وضعت الهاتف الخلوي على أذني سمعت بيريز يهتف بذعر

 

( سيدي, رأينا للتو عبر شاشات المراقبة البروفيسورة لينيا تهرب برفقة الطبيب أليخاندرو.. ماذا تريدني أن أفعل ماتادور؟ )

 

صرخت بصدمة غاضبة

 

" ماذا؟! لينيا هربت مع ذلك الطبيب؟.. متى؟ وكيف حدث ذلك؟ أين كنتَ بيريز؟ لماذا لم تمنعها من مغادرة القصر برفقة ذلك الحقير؟ "

 

سمعت بيريز يقول بتوتر وبخوف

 

( لقد هربت منذ قليل, سيدي.. يبدو أنهم خططوا للهروب معًا.. شعرت بالريبة عندما رأيت الطبيب يغادر القصر وهو ينظر بتوتر إلى الحُراس, فأمرت الرجال بإعادة شريط التسجيل لأرى ما سجلته كاميرات المراقبة داخل الموقف السفلي, ورأيت البروفيسورة تختبئ داخل سيارة الطبيب )

 

الدم كان يغلي في عروقي, وغضب هائل اشتعل بداخلي.. أمسكت هاتفي بقوة وكنتُ على وشك تحطيمهُ بقبضتي.. تسارعت أنفاسي وهتفت بغضب مُشتعل

 

" اجمع كل الحراس, وانتظروني عند بوابة القصر.. سأجدها مهما كلفني ذلك "

 

أنهيت المكالمة ووضعت الهاتف بجيب بنطالي.. سمعت جدتي تهمس باسمي بخوف.. نظرت إليها بينما كنتُ أشتعل بالغضب وعيناي تلمعان كشرارات نار.. لكن قبل أن تتكلم جدتي معي انفتح باب الغرفة ودخلت كارميتا وقالت بخبث واضح

 

" هل هربت منك البروفيسورة من جديد؟ "

 

التفت ونظرت إليها بغضب وبحدة...

 

رواية المتادور - فصل 29 - ثلج دموي


وقفت كارميتا أمام الباب وكانت تراقب ردة فعلي بخبث.. ثم تابعت قائلة بنبرة خبيثة وعيناها تشعان بتشفي

 

" يبدو بأن تلك البروفيسورة  كانت تجمعها علاقة سرية مع الطبيب أليخاندرو "

 

استدرت لمواجهتها, ثم نظرت إليها بحدة.. اقتربت بسرعة ووقفت أمامها وقلتُ لها بصوت مليء بالاحتقار

 

" اهتمي بشؤونك الخاصة, كارميتا "

 

دفعتُها بلطف لتبتعد من أمامي بعيدًا رغم غضبي الكبير منها وبسبب هروب لينيا برفقة ذلك الطبيب.. غادرت الغرفة بخطوات عاصفة, وخرجت من القصر والغضب كان يحرق دمائي وروحي..

 

نظرت إلى رجالي بحدة, وهتفت بملء صوتي

 

" تحركوا بسرعة.. بالتأكيد لم يبتعدا عن القصر كثيراً.. اتبعوني "

 

صعدت إلى سيارتي وقدتُها بسرعة جنونية بينما كنتُ أُفكر بغضب مُدمر.. لينيا مُلكي أنا.. لن أتركها تفلت مني بهذه السهولة.. سوف تكون زوجتي بأي ثمن.. هي لي أنا, هي مُلكي, هي حبيبتي.. لن أتخلى عنها بهذه السهولة..

 

وطبعاً استطعت رؤية سيارة الطبيب من بعيد وتبعتُها, وفقدت ما تبقى لي من سيطرة على أعصابي عندما رأيت ساكورا تدخل إلى منزل الطبيب.. وعندما حطمت باب منزله, نار الجحيم اشتعلت بداخلي عندما رأيت الطبيب أليخاندرو يُعانق حبيبتي ..

 

لا أعرف كيف استطعت السيطرة أمام ساكورا على عضبي ونار الغيرة التي أحرقت روحي, لم أكن أريد جعلها تخاف مني أكثر.. ومثل عادتي فقدت السيطرة على نفسي أمامها ومارست معها الحُب بجنون..

 

غادرت غرفة لينيا بينما كنتُ أبتسم بسعادة لا توصف.. تنهدت بقوة, وهمست بعشقٍ كبير

 

" أحبُكِ ساكورا, وبجنون.. لا أستطيع التنفس بعيداً عنكِ حبيبتي "

 

رأيت خادمة تمشي في الممر وهي تحمل بيدها باقة من الورود البيضاء, وما أن وقفت أمام منضدة الزينة لتضع الباقة داخل مزهرية مصنوعة من الكريستال البوهيمي, وقفت جانباً وانتظرتُها لتذهب..

 

اقتربت من المزهرية وأمسكت وردة ناصعة البياض.. تأملت الوردة بنظرات سعيدة, ثم همست بنبرة حنونة

 

" ساكورا, لم يعُد باستطاعتي الابتعاد عنكِ بعد الآن "

 

استدرت وركضت عائداً إلى غرفة لينيا.. فتحت الباب بخفة ودخلت بهدوء إلى الغرفة.. ولكن تجمدت بسرعة في مكاني عندما التقت نظراتي بـ لينيا المنكمشة على السرير, وسمعت بوضوح تام صوت همساتها الباكية التي كانت تردد اسم شقيقي الراحل..

 

كل شيء بداخلي تجمد.. الألم الذي كنتُ أعيشه منذ موت بينيتو عاد إليّ بقوة, لكن رؤية لينيا في هذه الحالة زادت من ثقل ذلك الألم أضعافًا..

 

شعرت وكأنني قمت بخيانة بينيتو لمجرد وجودي هنا, بجانب المرأة التي أحبها شقيقي بجنون, والتي فقدت نفسها في الحزن على فقدانه.. شعرت بأنني مُجرد نكرة ورجل خائن لا قيمة له لأنني حصلت على الامرأة التي أحبها شقيقي الراحل..

 

وقف سلفادور جامداً في مكانه دون أن يتحرك, فقط كان ينظر إلى لينيا وهي تبكي وتتلوى من الحزن, ولم يكن يعرف ماذا يفعل..

 

كانت هذه اللحظة مؤلمة بالنسبة له كأنها مشهد من فيلم درامي تُكتب نهايته دون أن يكون لهُ أي سيطرة عليه.. أراد أن يقترب منها, أن يمسح دموعها, أن يقول لها شيئًا يخفف من آلامها, أراد أن يعترف لها بأنهُ يحبها بجنون ولا يستطيع التنفس بدونها, لكنهُ شعرَ بأنهُ غريب عنها في هذه اللحظة..

 

عيناه امتلأتا بالحزن, وقلبهُ احترق بنار الألم والعذاب, لكنهُ لم يستطع التفوه بأي كلمة.. نظر إلى السرير, إلى لينيا التي استمرت بالبكاء وهي تهمس باسم بينيتو, وشعر بثقل تلك الذكريات التي كانت تلاحقه أيضًا.. كانت دموعها تشق طريقها بصمت, ووجهها المتعب يعكس كل الألم الذي عاشته منذ رحيل شقيقه..

 

كانت الغرفة هادئة, إلا من صوت التنفس المتقطع وشهقات لينيا وهي نائمة على السرير الكبير, ووجهها المبلل بالدموع يكشف عن حزن عميق.. سلفادور وقف عند الباب ينظر إليها بصمت, يشعر بثقلٍ يلتف حول قلبه.. كانت المسافة بينه وبينها قصيرة, لكنهُ شعر بأنها أبعد بكثير مما قد تكون عليه...

 

نظر سلفادور بحزنٍ عميق إلى لينيا, دموعها لا تزال عالقة على وجنتيها الناعمتين.. كانت تبكي بصمت, وكأن الألم الذي تعانيه تجاوز حدود الكلام.. شعر سلفادور بشيء ينكسر بداخله وهو يشاهد تلك الدموع التي لم يكن قادرًا على إيقافها.. اقترب منها بخطوات هادئة, وعيناه لا تفارقان وجهها المتعب, وداخله امتلأ بصراع مرير بين الحب الذي يشعر به تجاهها والقدر الذي يقف بينهما..

 

وقف سلفادور على بُعد خطوتين عن السرير وهو ينظر بألمٍ شديد إلى وجه لينيا المُنهك.. ظلت دموعها تهبط على وجنتيها, وشفتيها تهمسان باسم شقيقه الراحل بصوت منخفض ومكسور

 

" بينيتو... بينيتو... "

 

تلك الكلمات كانت كسكين تغرس في قلبه, يتردد صداها في عقله, ويزيد من ألمه الذي لم يكن يومًا قادرًا على تجاوزه..

 

كان يحمل بيده الوردة البيضاء, رقيقة ونقية كالحب, فائقة الجمال وناصعة البياض.. أراد أن يقدمها لحبيبته, كان يظن أن تلك الوردة قد تحمل شيئًا من النقاء والسلام الذي تفتقده حياتهما.. هذه الوردة كانت تعبيرًا عن صدق مشاعره, عن الأمل الذي كان لا يزال يتشبث به رغم كل ما حدث..

 

لكنهُ الآن, وهو ينظر إلى لينيا, أدرك أن الوردة لم تعد تحمل نفس المعنى.. بدت بلا معنى, مجرد وردة عادية لا يمكنها التخفيف من هذا الحزن الذي يعصف بهما.. كيف يمكن لوردة أن تُعبر عن عمق الألم الذي يشعر بهِ الآن؟ كيف يمكن أن تلامس قلب ساكورا الذي انكسر بسببه؟

 

نظراته كانت مثقلة بالحزن وهو يحدق بالمرأة التي يعشقها بجنون, ثم استقرت نظراتهِ الحزينة على الوردة, يشد قبضته عليها بخفة, وكأنهُ يخشى أن تتكسر في يده مثلما تكسرت أحلامه معها.. كان يريد أن يُقدمها لـ ساكورا, أن تفتح عينيها وترى تلك العلامة الصغيرة لحبهِ لها, ولكن هل كانت الوردة كافية لتُعبر عن كل ما يحملهُ قلبهُ نحو ساكورا؟...

 

نظر سلفادور إلى الوردة للحظة, ثم عاد بنظره إلى لينيا.. كان يحبها بجنون, لا بل يعشقها بجنون, لكنهُ كان يعلم أن بينيتو يظل شبحًا في حياتهما, ولا يستطع هو منافسته.. كان مؤلمًا أن يرى كيف ظل حب بينيتو يُهيمن على قلب لينيا حتى بعد كل شيء حدث بينهُ وبينها..

 

تراجع سلفادور بهدوء, حريصًا على ألا يجعل ساكورا تشعر بوجوده.. كان يعلم أن مجرد وجوده قد يثقل قلبها أكثر.. خطى خطواته بعناية نحو الباب, عيناه لا تفارقان وجهها الباكي.. ثم, بنظرة أخيرة حزينة, خرج من الغرفة بصمت تام, وكأنه لم يكن هناك..

 

عندما وصل إلى منضدة الزينة في الممر, توقف للحظة.. نظر إلى الوردة التي كان يحملها بيده, كانت باردة, بلا حياة, وكأنها تمثل مشاعره التي لم تجد طريقًا لتصل إلى قلب لينيا..

 

ببطء, رمى الوردة على منضدة الزينة, وكأنما كان يرمي جزءًا من قلبه معها.. شاهدها وهي تستقر هناك, وكأنها رمز لفشل محاولاته في التقرب من ساكورا, في أن يكون لها السند والراحة التي تحتاجها, وأن يكون رجلها..

 

ثم تابع سلفادور سيره بخطوات بطيئة, رأسهُ مثقل بالأفكار والذكريات.. كل خطوة كانت أشبه بثقل الألم الذي كان يعانيه, وكأن الحزن لم يكن مجرد شعور, بل حملاً جسدياً يصعب تحمله..

 

توجه نحو جناحه الخاص, لكن قلبهُ ظل عالقًا هناك في غرفة لينيا, حيث ترك جزءًا منه معها, وحيث تجرع مرارة حب لم يجد لهُ سبيلاً..

 

 

 

خوان دي غارسيا**

 

استيقظ خوان في الصباح الباكر على صوت أنينٍ خافت وبكاءٍ مكتوم, وكان صوت البكاء الخفيف يتردد في الغرفة.. ارتجف جسده وشعر بذعرٍ يملأ صدره.. انتفض من نومه بذعر وقلبهُ ينبض بسرعة, وبدأ يبحث بنظره عن مصدر هذا الصوت.. بسرعة, توجهت عيناه نحو الأريكة التي تنام عليها زوجته أريا.. كانت ملتفة على نفسها وكأنها تحاول حماية نفسها من شيء لا يستطيع هو رؤيته..


رواية المتادور - فصل 29 - ثلج دموي

 

كانت الغرفة هادئة عدا صوت الأنين المنبعث من أريا.. قلبهُ غمره قلق لم يشعر به من قبل, وكأن شيئًا عميقًا بداخله كان يستجيب لهذا الصوت المتوجع..

 

كانت زهرة القمر نائمة, ولكن استطعتْ رؤية شفتيها ترتجفان وكلمات غير مفهومة كانت تخرج من فمها.. كانت تبكي في صمت, تمتماتها تدور في فضاء الغرفة مثل شبحٍ مؤلم, وكل أنين كان يخرج من فمها كان يشق صدري أكثر..

 

نظراتي امتلأت بالقلق عندما رأيت دموع أريا تنساب بهدوء على وجنتيها الجميلتين, وشفتيها ترتعشان بينما كانت تهمس بكلمات غير مفهومة وهي نائمة..

 

شعرت بطعنة حادة في قلبي.. لم يكن عليّ أن أسمع الكلمات بوضوح لأعرف أنها تعاني, وبأنني السبب.. جسدي تجمد للحظة, ولم أستطع التحرك وإزالة نظراتي عنها, فقط تجمدت في مكاني متسمراً, مراقباً بحزن كيف تتألم زوجتي الجميلة وهي نائمة..

 

فجأة, سمعتُها تهمس بخوف

 

" سنيور خوان... لا تؤذيني... لا تلمسني... أرجوك, لا تفعل... "

 

كانت هذه الكلمات القليلة كافية لتدمير ما تبقى من قوتي.. لم أتوقع أن يصل الألم إلى هذا الحد معها.. كيف أصبحت أنا الكابوس الذي يطاردها حتى في أحلامها؟..

 

عندما همست باسمه وهي نائمة, شعر خوان وكأن سكينًا غرز في قلبه.. كانت أريا تطلب منه ألا يؤذيها, ألا يلمسها.. كان صوتها متوسلًا, مليئًا بالخوف والألم, ووجهها الملتف على الوسادة يعكس مدى الرعب الذي تعانيه حتى في نومها..

 

أنا السبب في كابوسها, هذا ما كان يقتلني من الداخل.. ظللت جامداً في مكاني لوقتٍ طويل, شعرت بالألم يُحاصر صدري بشدة.. وشاهدت بحزن وبصمتٍ قاتل كيف تحولتْ من رجل قوي ومتعجرف إلى سبب لمعاناة امرأة لم تستحق أبدًا كل هذا الألم والحزن والخوف..

 

نظرت إلى زهرة القمر بألم وندم وحزن شديد عندما سمعتُها تهمس بذعر وهي نائمة

 

" لا تقترب مني.. أرجوك, ابتعد عني.. لا تقترب مني.. لا تلمسني.. لا تفعل, أرجوك.... "

 

شعرت بألمٍ حارق في صدري, شيء أشبه بالعجز والندم الذي اجتاح قلبي.. كانت أريا تطلب مني في كابوسها أن أبقى بعيدًا عنها, وكأنها تعيش في خوفٍ دائمٍ مني.. أحسست بأن جدران الغرفة تضيق عليّ, ولم يعد باستطاعتي التنفس داخل هذه الغرفة..

 

بدون أن أُفكر كثيرًا, أمسكت هاتفي الخلوي عن المنضدة بجانب السرير واتصلت بصديقي خانتو.. ثواني قليلة سمعتهُ يهتف بقلق

 

( خوان, أنتَ بخير؟ )

 

أجبتهُ بسرعة حتى لا يقلق

 

" أنا بخير.. خانتو, انتظرني أمام باب غرفتي.. ولا تتأخر.. سنخرج.. سنذهب إلى الكازينو "

 

أنهيت المُكالمة بسرعة قبل أن يسألني عن سبب رغبتي في الخروج في هذا الوقت المُبكر..

 

وبعد مرور عشر دقائق, استدار خوان ودفع كرسيه المتحرك نحو الباب.. كان بحاجة للابتعاد, للهروب من هذا الشعور الثقيل الذي يملأ قلبه بينما أريا كانت ترى كابوساً مؤلماً عنه..

 

دفع خوان عجلات كرسيه المتحرك ببطء, حريصًا على ألا يصدر أي صوت قد يوقظ أريا من كوابيسها.. أراد خوان الهروب بسرعة قبل أن تستيقظ زهرة القمر وترى كابوسها أمامها.. خرج بهدوء تام بينما صديقه المخلص خانتو كان ينتظره خارج الغرفة بصمت..

 

رافقهُ خانتو وهو يدفع الكُرسي المتحرك إلى الخارج عبر الممرات الطويلة, متجهاً نحو بوابة القصر.. عندما خرج خوان من القصر, كان الهواء البارد يلفح وجهه.. الشمس كانت لا تزال تشرق في الأفق, ولكن الجو كان مشحونًا بشيء من الحزن العميق.. وبينما كان يتنفس بصعوبة محاولًا استجماع شتات نفسه, رأى أشقاء أريا الثلاثة يركضون باتجاهه وهم يهتفون بسعادة وبحب

 

" عمي خوان.. عمي خوان.. عمي خوان... "

 

الأطفال الصغار ضموه بقوة, وكأنهم كانوا يريدون أن يعبروا عن فرحتهم برؤيته.. كانوا دائما قريبين منه, يحبونه على الرغم من كل شيء..

 

بعد أن ضموه, وقفوا أمامه, لكن نظراتهم تغيرت عندما لاحظوا الحزن العميق في عينيه.. كانوا صغارًا, لكن الأطفال يمتلكون قدرة غريبة على فهم المشاعر, وخاصة تلك التي لا تُقال..

 

الطفل رامون, رفع رأسه نحو خوان وسألهُ بصوتٍ خافت

 

" لماذا أنتَ حزين عمي خوان؟ "

 

ابتسمتْ بخفة, محاولاً إخفاء حُزني عن الأطفال الذين أحبهم, وأجبت بصوتٍ هادئ

 

" رامون, صغيري الجميل.. أنا لستُ حزينًا, لا تقلق "

 

لكن الأطفال ببراعتهم وإحساسهم القوي لم يصدقوه.. كانت ملامح الحزن واضحة جدًا على وجه خوان, لدرجة أنهم لم يستطيعوا تجاهلها..

 

نظر رافاييل إلى شقيقيه الصغار, ثم نظر إلى خوان بعيون واسعة وسأله

 

" عمي, هل يمكننا اللعب في الثلج؟ "

 

شعر خوان بارتياحٍ بسيط لطلبهِ البريء, وابتسم لهم بحنانٍ كبير وهو يجيب

 

" بالطبع, يمكنكم اللعب, لكن لا تزعجوا العمال, إنهم يزينون القصر من أجل زفاف سلفادور.. وأنتم لا تريدون أن يحزن المتادور منكم اليوم.. أليس كذلك؟ "

 

فرح الأطفال وأجابوا موافقين, وسرعان ما ابتعدوا, تاركين خوان و خانتو وحدهما.. ساعد خانتو خوان في الانتقال من الكرسي المتحرك إلى المقعد الخلفي في السيارة, حيث استعدا للذهاب إلى الكازينو.. خانتو جلس خلف عجلة القيادة, يقود بنفسه, وبدأت السيارة تتجه بهدوء نحو وسط مدينة اكستريمادورا, وخلفهم سيارات حُراس خوان..

 

أثناء قيادتهِ للسيارة باتجاه الكازينو الذي يمتلكهُ خوان, لاحظ خانتو الحزن الذي ما زال يُخيم على صديقه, فسألهُ بصوت هادئ

 

" خوان, لماذا أنتَ حزين؟ ولماذا تريد الذهاب إلى الكازينو اليوم؟ رغم أن اليوم هو زفاف ابن عمك المتادور سلفادور "

 

نظرت باتجاه النافذة, وشاهدت العالم المتجمد بالخارج بينما الأفكار كانت تتداخل في عقلي.. تنهدت بقوة, ثم أجبت بصوتٍ حزين ومشوش

 

" أريد الابتعاد قليلاً عن القصر.. أحتاج للتفكير بهدوء, ولوحدي "

 

ثم صمت للحظة قبل أن أُتابع قائلاً بحزن

 

" استيقظت اليوم ورأيت أريا ترى كابوسًا... كابوسًا بسببي.. كانت تبكي في نومها, وتناديني وكأنني وحش.. كانت خائفة مني.. وهذا ما أحزنني "

 

أغمضت عيناي للحظة ثم نظرت إلى خانتو, وهمست بألم مزق روحي

 

" كنتُ بالفعل وحشاً معها "

 

خانتو لزم الصمت, يدرك تمامًا حجم الألم الذي يمر به صديقه.. لم يقل شيئًا, فقط ركز على الطريق أمامه, وكان الصمت بينهما يشبه عبئًا ثقيلاً لا يستطيع أحدهما التخلص منه..

 

استمر الطريق نحو الكازينو بهدوءٍ كئيب, حتى وصلا في النهاية, وكلٌ منهما غارق في أفكاره الحزينة..

 

عندما وصلت السيارة إلى الكازينو الفخم الذي يمتلكه خوان, أوقف خانتو السيارة بلطف ثم ترجل منها وأسرع إلى باب السيارة الخلفي ليساعد صديقه على النزول.. بخطوات هادئة, ساعد خوان في الجلوس على كرسيه المتحرك.. كان الجو في تلك اللحظات مشحونًا بهدوء غريب, وكأن الكازينو نفسه يتنفس مع مجيء سيده..

 

تحرك خانتو بجانب كُرسي خوان المُتحرك, يرافقه عدد كبير من الحراس الذين اصطفوا حوله بوقار, مستعدين لمرافقته إلى الداخل.. مع كل خطوة كان الكازينو يبدو وكأنه يستعد لاستقبال الملك الذي أتى ليشرف المكان بحضوره..

 

عندما دُفعت الأبواب الزجاجية الفاخرة, وقف جميع الموظفين على الفور, يلقون عليه تحية الصباح باحترام كبير.. إذ ارتفعت أصواتهم مُرحبة

 

" صباح الخير, سنيور دي غارسيا "

 

رغم أن خوان كان يجلس على كرسي متحرك, إلا أن هيبته كانت لا تزال تفرض نفسها على المكان..

 

خوان دي غارسيا, في كل نظرة, كان يمثل القوة والسيطرة, وهيبة الرجل الذي لا يُكسر, حتى وإن كان جسده لا يقف على قدميه.. عيناه القويتان, ابتسامته الباردة, وطريقته في التفاعل مع الآخرين كانت تُظهر أنه ما زال هو السيد بلا منازع..

 

الموظفون كانوا ينظرون إليه بخوف وتقدير, بينما الموظفات لم يستطعن إخفاء إعجابهن به.. كنّ يكتمْنَ تنهداتهن الحالمة, يتمنين لو كنّ مكان المرأة التي حصلت على قلب هذا الرجل القوي والمهيب.. كان الحسد يملأ قلوبهم من تلك المرأة المحظوظة التي أصبحت زوجته..

 

عندما وصل خوان إلى مكتبه, فتح خانتو الباب وساعد خوان على الانتقال من كرسيه المتحرك إلى الكرسي الجلدي الكبير خلف المكتب المُهيب.. بعد أن استقر خوان, أشار للحراس بمغادرة الغرفة, تاركًا المكان له ولصديقه المخلص..

 

وقف خانتو أمام المكتب, ونظرة انتصار لامعة في عينيه


رواية المتادور - فصل 29 - ثلج دموي


وقال بنبرة ساخرة وتحمل في طياتها متعة خاصة

 

" لقد أتى رودريغو إلى الكازينو قبل ليلتين, لعب القمار وخسر نصف الأموال التي أعطيتها لهُ سابقًا "

 

رفع خوان حاجبه باهتمام, مشيرًا له بالاستمرار, ليكمل خانتو بابتسامة مستمتعة

 

" رودريغو لم يكتفِ بذلك, وكأن الخسارة لم تكفيه.. عاد بالأمس مرة أخرى ولعب على طاولة القمار, ولكنهُ خسر كل شيء.. ثم, في لحظة جنون, قام برهن منزلهُ الجديد, ولم يكتفِ بذلك, بل رهن منزلهُ القديم أيضًا, وخسر كليهما, لقد خسرهما معًا.. غادر الكازينو غاضبًا وهو يهتف بأنهُ سيعود ليستعيد كل شيء, أمواله, ومنزليه "

 

ضحك خوان بفرح, تلك الضحكة التي تعبّر عن انتصار مزدوج, خسارة عدوه لكل ما كان يملكه, وعودة حقه..

 

ضحك خوان بسعادة لا توصف, كانت هذه الضحكة تنبع من عمق روحه, وكأنه قد استعاد شيئًا ثمينًا.. نظر إلى خانتو بابتسامة واسعة وقال بنبرة ملؤها النصر

 

" إذاً, رودريغو خسر كل الأموال التي سرقها مني "

 

كانت السعادة واضحة في ملامح خوان, ولكن عقله كان يعمل بسرعة, إذ أدرك خوان أن رودريغو لن يترك الأمر عند هذا الحد..

 

نظرت إلى خانتو وأمرته بنبرة جدية

 

" شدد الحراسة على زوجتي وأشقائها الثلاثة, أنا متأكد أن رودريغو سيحاول رؤيتهم أو فعل شيء ليسترجع المال مني بأي وسيلة, سيفعل أي شيء ليحصل على المال مني مجددًا.. لا تسمح للقذر رودريغو بالاقتراب منهم "

 

قبل أن يتمكن خانتو من الرد, قطع صوت رنين هاتفي الخلوي الجو.. نظرت إلى شاشة الهاتف, فرأيت الرقم الذي ظهر عليها, إنهُ رقم جدته.. شعرت بالقلق على الفور يتسلل إلى صدري, فأجبت بسرعة على مُكالمتها متسائلاً بقلق

 

" جدتي, أنتِ بخير؟ هل كل شيء على ما يرام؟ "

 

بدأت جدتي تتحدث على الطرف الآخر من الخط, وصوتها كان حازمًا, لكنها أخبرتني بشيء أشعل الغضب في عروقه وفي قلبي.. اشتعلت عيناي بغضب جنوني بينما كنتُ أستمِع لما تقوله جدتي.. عندما أنهيت المكالمة, ألقيت الهاتف بعصبية على المكتب, وضربت سطحه بقبضتي بقوة..

 

نظرت إلى خانتو وهتفت بغضب جنوني

 

" أريد رودريغو هنا, والآن "

 

صرخ خوان بغضب خانق تلك الكلمات.. نظراته كانت مملوءة بالشرارة, ووجهه لم يكن هادئًا كما كان قبل لحظات.. كان يريد رودريغو هنا, والآن, ليحاسبه على كل شيء..

 

ارتفع صوت خوان دي غارسيا أكثر وبعصبية وهو يأمر خانتو بغضب جنوني

 

" اذهب فوراً, وأحضر لي رودريغو.. أريده هنا في أسرع وقت.. هيا تحرك واجلب ذلك القذر إلى هنا "

 

كان الغضب يسيطر على ملامح خوان بالكامل.. لقد تغيرت الأمور الآن.. رودريغو لم يعد مجرد خصم, بل تحول إلى تهديد يجب التعامل معه بقوة وبدون تأخير..

 

خانتو لم يتفوه بكلمة, فقط انحنى برأسه وخرج لتنفيذ أوامر صديقه بسرعة, عارفًا أن أي تأخير قد يكون له عواقب وخيمة..

 

بعد مرور نصف ساعة, فتح خانتو باب مكتب خوان بقوة, وألقى بـ رودريغو المذعور أرضًا أمام المكتب الضخم.. كانت أنفاس رودريغو تتسارع, ووجهه الشاحب يعكس الخوف الذي تملك قلبه..

 

رفع خوان رأسه ببطء, وعينيه تشتعلان غضبًا مكبوتًا.. أشار خوان بيده إلى الحراس الواقفين خلف خانتو, وأمرهم بصرامة

 

" غادروا "

 

بعد أن غادر الحراس بسرعة وتم إغلاق الباب, ساد الصمت للحظات قصيرة في الغرفة, وعيون خوان مُعلقة على رودريغو الملقى أمامه.. كانت النيران المشتعلة في عيني خوان لا تُخفى على أحد, وصوته كان مليئًا بالقسوة وهو يهتف بأمر حاد

 

" قف "

 

بيدين مرتعشتين وقف رودريغو, عينيه لا تستطيعان تحمل قوة نظرات خوان المُرعبة.. الخوف تملكهُ بالكامل, ورغم ذلك, استطاع رفع عينيه ببطء لينظر إلى وجه خوان, قبل أن يصطدم بصراخ خوان الغاضب الذي اخترق الصمت

 

" كيف تجرأتَ على لمس زوجتي؟ كيف تجرأتَ على صفعها وحاولتَ أخذ الأطفال معك بالقوة؟ "

 

رودريغو, الذي كان يترنح من الخوف, التقط أنفاسه بصعوبة, لكن فجأة, تملكت الجرأة قلبه المُظلم.. نظر إلى خوان بنظرات الشماتة والكراهية, وقال بصوت مليء بالازدراء

 

" سأفعل ما أريده, ولن أسمح لرجل معاق بترهيبي أو إخافتي.. أنا لم أعد أخاف منك, ولا أخاف من رجالك.. لقد خسرت في الأمس أموالي كلها ومنزلي الجديد, حتى منزلي القديم خسرته في الكازينو الذي تمتلكهُ أنت.. سوف تدفع لي ضعف المبلغ السابق الذي أعطيتني إياه وإلا أخذت أطفالي منك.. فأنتَ أصبحتَ مُقعداً الآن وإلى الأبد, وبسبب حالتك هذه أستطيع بسهولة تامة استرجاع حضانة أطفالي.. أنتَ لا تُصلح لتكون وصياً على أطفالي "

 

كلماته كانت كالشرارة التي أشعلت غضب خوان.. تجمد خوان للحظات مذهولًا من جرأة رودريغو..


رواية المتادور - فصل 29 - ثلج دموي

 

لكن سرعان ما تحول الذهول إلى غضب جنوني.. رأى خوان صديقه خانتو يتحرك بسرعة نحو رودريغو كالنمر الجائع, وكانت نية القتل واضحة في عينيه..

 

ولكن قبل أن يصل خانتو إلى رودريغو, هتف خوان بقوة

 

" توقف, لا تلمسه "

 

تجمد خانتو في مكانه, حدق في خوان بعينيه المتقدتين بالغضب, وصاح بصوت مشحون بالقهر

 

" كيف تطلب مني أن أترك هذا القذر يتحدث معك بهذا الشكل؟ كيف تتركه يهينك أمامي؟ أنا سأقتله لأنه وصفك بالمعاق "

 

ابتسمتْ ابتسامة خبيثة بينما كنتُ أنظر إلى صديقي, ثم قلتُ لهُ بهدوء غريب

 

" اهدأ, خانتو.. لا تفقد أعصابك, الأمور تحت السيطرة "

 

كان رودريغو مرتبكًا, لكنهُ لم يتوقف عن كلماته المسمومة.. إذ قال بخبث وهو ينظر إلى خوان

 

" أريد خمسة ملايين يورو الآن, وخمسة ملايين يورو لأغادر البلاد.. وإن لم تعطِني ما أريد, فسآخذ الأطفال وأرحل.. لن أتركهم في وصاية رجل معاق لا يستطيع الوقوف والسير "

 

ابتسمتْ مرة أخرى, ولكن هذه المرة كانت ابتسامتي كفيلة بتجميد الدماء في عروق رودريغو.. سمعت خانتو يُزمجر بغضب, نظرت إليه ورأيته يتأمل رودريغو بنظرات قاتلة بينما كان يحاول السيطرة على غضبه..

 

رفعت حاجبي عالياً ووجهت حديثي لصديقي قائلا بينما كنتُ أنظر إلى رودريغو بنظرات قاتلة

 

" اهدأ ولا تنفعِل صديقي.. لقد استفزك رودريغو بكلامه, أعلم ذلك.. لقد استفزني كذلك "

 

ارتعش رودريغو في مكانه, بينما نظرت إلى خانتو وأشرت لهُ نحو النافذة الكبيرة.. فهم خانتو فورًا ما أريد, فتحرك بخفة وسرعة نحو النافذة وأسدل الستائر دون تردد, ثم استدار وكتف ذراعيه على صدره, ونظر إلى رودريغو بنظرات مليئة بالكراهية والاستخفاف..

 

ثم, وبحركة خاطفة وسلسة, تحرك خوان من خلف مكتبه, ووقف بخفة غير متوقعة, متقدمًا بخطوات واثقة وثابتة نحو رودريغو.. تراجع رودريغو بخطوات مذعورة, وعيناه لا تصدقان ما تراه, ثم هتف بفزع كبير

 

" أنت... أنتَ تستطيع السير على قدميك؟! "

 

وقفت أمامه بثبات وشموخ, ثم انحنيت قليلاً ونظرت مباشرة في عيني رودريغو الخائفتين, ابتسمت بخفة ثم قلتُ لهُ بسخرية

 

" مفاجأة, رودريغو.. هل أعجبتك مفاجأتي؟ نعم, أستطيع السير كما ترى بعينيك "

 

تجمد رودريغو في مكانه, وبدأت عيناه تمتلئان بالدموع.. ضحكت ضحكة شريرة, ثم قلت بلهجة أكثر حدة

 

" للأسف, لستُ معاقًا كما تظن.. أستطيع السير والركض أيضًا, إذا لزم الأمر.. فأنا لم أُصب بالشلل إطلاقاً بسبب رصاصة أريا "

 

كانت دموع الخوف تتساقط من عيني رودريغو, وبدا كأنهُ قد فقد القدرة على الكلام.. ابتسمت بسخرية بينما كنتُ أنظر إليه, وتابعت قائلاً بصوت يملأه الحقد والغضب

 

" لكن الآن سأجعلك تدفع الثمن غاليًا.. لقد أهنتني منذ قليل ووصفتني بالمُعاق, ولكن الأهم لقد صَفعتَ زوجتي أريا, وأخفتَ أشقائها الصغار.. والأسوأ من كل ذلك, قتلتَ شقيقك الوحيد والذي هو والد أريا الحقيقي "

 

تخيلتهُ وهو يصفع زوجتي, زهرة القمر الرقيقة والجميلة, وهنا فقدت السيطرة تماماً على نفسي.. في لحظة جنون, أمسكت رودريغو من عنقه بقوة غير متوقعة, رفعتهُ عالياً بيد واحدة, بينما بدأ رودريغو يصرخ بصوت مُختنق وهو يبكي بشدة طالبًا الرحمة

 

" أرجوك, سنيور خوان.. سامحني... اتركني... أتوسل إليك ارحمني.. سأفعل أي شيء! "

 

لكن خوان, بنظرات مليئة بالكراهية, لم يتأثر بتوسلاته.. ضغط على عنقه أكثر, مما جعل رودريغو يختنق أكثر, وبالكاد يستطيع التنفس...

 

 

لينيا هارفين**

 

بينما كانت دموع لينيا تسيل على وجنتيها بحرارة وهي جالسة على سريرها تعانق وسادتها كأنها الملاذ الوحيد الذي يبقيها متماسكة, سمعت فجأة صوت باب الغرفة ينفتح بهدوء وصوت خطوات خفيفة تتجه نحوها.. رفعت رأسها بسرعة بينما الدموع تغشى عينيها.. استدارت باتجاه الباب ونظرت بذهول أمامها..

 

كان قلبها ينبض بعنف عندما رأت الظل يقترب منها.. ومع تسارع أنفاسها, فتحت عينيها بصدمة وهي ترى كارميتا تقف أمامها وعينيها تلمعان بشيء غير مفهوم.. كانت كارميتا تضع ذراعها اليمنى خلف ظهرها, كما لو كانت تخفي شيئاً..

 

كان هناك شراسة في نظرات كارميتا, تجعل الهواء يثقل في رئتي لينيا.. حاولت لينيا أن تتمالك نفسها, لكن لم تستطع منع عينيها من التحديق بذعر في ذراع كارميتا اليمنى التي كانت تُخفيها خلف ظهرها..

 

لم أستطع منع نفسي من التحديق إلى وجه كارميتا.. بدأت أنظر بتوتر إلى وجهها, ثم إلى ذراعها المخفية خلف ظهرها, محاولة فهم ما الذي تنوي عليه.. همست بصوت مبحوح

 

" كارميتا؟ ما الذي تفعليه هنا في غرفتي؟ "

 

كانت الكلمات تخرج من شفتاي بتردد, وكأنني كنتُ أسأل نفسي بدلاً من كارميتا..

 

ضحكت كارميتا ضحكة خافتة, لكنها كانت مشوبة بشيء غريب, شيء مُخيف جعل قلبي ينقبض.. كانت ضحكتها تعبيراً عن الشر الذي لم أراه من قبل.. بدأت كارميتا تُحرك ذراعها إلى الأمام ببطء, كاشفة عما كانت تُخبئه خلف ظهرها بينما نظراتها تزداد ظلمة وقسوة..

 

" جئت لأصفي حسابي معكِ, لينيا "

 

نطقت كارميتا بتلك الكلمات وصوتها يقطر حقداً وغضباً.. تجمدت في مكاني عندما رأيت السكين اللامعة في يدها.. طول شفرته أربع بوصات, وكان لمعان الشفرة يُزيد من توتري, وبدأت أشعر بأن الغرفة ضاقت عليّ فجأة.. كارميتا كانت تقترب مني بخطوات بطيئة لكنها مفعمة بالثقة, وكأنها صيادة تُراقب فريستها..

 

تسمرت عيناي على السكين التي كانت كارميتا تمسك بها بقبضة قوية, وشيئاً فشيئاً كانت كارميتا تقترب مني بخطوات هادئة, وكأنها تستمتع برؤية الخوف يتسلل إلى قلبي.. شعرت بالذعر يُسيطر على كل أعضائي, ولكن غريزة البقاء دفعتني للتحرك بسرعة..

 

بدون تفكير, تحركتْ بسرعة, التقطت الوسادة التي كنتُ أحتضنُها ورفعتها أمامي كحاجز, وكأنها درع هشّ ضد الهجوم الذي شعرت بأنه وشيك, كما لو كانت هذه الوسادة الهشة قادرة على حماية حياتي.. نظرت إلى كارميتا بذعر وصرخت بفزع وبخوف محاولة تهدئة الموقف بأي طريقة

 

" كارميتا, لا تفعلي هذا! أرجوكِ, اهدئي! لا تتصرفي بتهور! "

 

لكن كارميتا لم تتوقف.. ضحكت مجددًا، ضحكة مفعمة بالشر والغيرة.. وقالت بنبرة تحمل حقداً دفيناً وهي تقترب مني أكثر

 

" بروفيسورة, لن يتم الزفاف اليوم.. سأُخلص العالم منكِ.. سأتخلص منكِ الآن.. ولن تكوني زوجة سلفادور.. أنا من سأكون زوجته, وليس أنتِ "

 

كان الجنون يكسو ملامح كارميتا وهي تقترب أكثر, وخطواتها الهادئة بدت وكأنها دقات عدّاد الموت.. حاولتْ الهروب منها بأي طريقة, بدأت بالدوران حول السرير, لكن الغرفة أصبحت صغيرة جداً في نظري الآن..

 

صرخت بفزع عندما اقتربت مني كارميتا ولوحت بالسكين أمام وجهي, لكن تفاديت هجومها بأعجوبة.. حاولت الفرار من كارميتا والاقتراب من الباب, لكنها قفزت فجأة أمامي وضحكت بشكلٍ جنوني.. ضحكتها الجنونية جعلتني أرتعش من الخوف الذي غرقت بهِ روحي..

 

تجنبت ضربات السكين وصرخت برعب بينما كنتُ أهرب من زاوية إلى أخرى

 

" كارميتا, اسمعيني أرجوكِ.. أنا لا أريد الزواج من سلفادور.. كنتُ سـ... سـأهرب, لكنني فشلت.. صدقيني أرجوكِ.. أنا لا أكذب عليكِ "

 

توقفت كارميتا فجأة, وتجمدت نظراتها عليّ.. وجهها المتوتر تحول إلى مزيج من الصدمة والشك.. ثم فجأة, صاحت بصوت حاد

 

" كاذبة! أنتِ تكذبين عليّ حتى لا أقتلكِ "

 

استجمعت شجاعتي وألقيت الوسادة بعيداً, ثم وقفت أمام كارميتا بثبات وقلتُ لها بصدق

 

" أنا لا أكذب.. لا أريد هذا الزواج, وما زلت أرغب في الهرب من هنا.. ساعديني لأهرب من هنا.. أنتِ الوحيدة التي تستطيع مساعدتي لأهرب "

 

وسط دهشة كارميتا, تقدمت خطوة واحدة نحوها وقلت بهدوء

 

" ساعديني على الهرب.. لا أريد البقاء هنا... ولا أريد الزواج من سلفادور.. أحتاج مساعدتك "

 

نظرت كارميتا إليّ بذهول, لم تكن تتوقع تلك الكلمات الواثقة مني.. للحظة, شعرت كارميتا بالحيرة وكأنها كانت تُفكر بصدق كلامي..

 

رفعت كارميتا حاجبيها وقالت بصوت أقل عدائية

 

" هل تريدين حقاً الهرب؟ "

 

هززت رأسي موافقة وسط دهشة كارميتا التي لم تصدق ما تسمعه.. ثم قلتُ لها بصدق مستغيثة بأمل جديد

 

" ساعديني على الهرب قبل أن يتم الزفاف, أرجوكِ! "

 

نظرت كارميتا إلى السكين في يدها ثم أعادت وضعها داخل سروالها بحركة هادئة.. وقالت بنبرة أقل قسوة

 

" سوف أساعدكِ.. لكن أولاً, سأذهب قبل أن تأتي جدتي وتجلب معها فستان الزفاف وتُساعدكِ بارتدائه.. الجميع سيعتقد أنكِ تستعدين للزفاف.. وعندما تخرج جدتي من غرفتكِ, حينها سننفذ خطتي.. سأُساعدكِ على الهرب قبل أن يبدأ الزفاف.. انتظريني "

 

ثم بخطوات بطيئة وواثقة, خرجت كارميتا من الغرفة دون أن تنظر إلى الخلف, تاركة لينيا تلتقط أنفاسها الثقيلة.. حين أُغلق الباب أخيرًا, شعرت لينيا بتنهيدة عميقة تخرج من صدرها, وكأن جبلًا ثقيلًا قد أُزيح عن كتفيها..

 

تنهدت لينيا براحة كبيرة ثم جلست على السرير وهي تضع يديها على وجهها, تفكر بحزن عميق.. سأهرب... سأهرب بعيداً عن سلفادور... ولن أراه مجدداً.. كيف سأهرب من هذا الجحيم؟ كيف سأترك سلفادور, وأنا أعلم أن هذا الفراق سيكون للأبد؟...

 

كانت الغرفة هادئة, والهواء ساكن كأن الزمن توقف بين تلك الجدران, و لينيا غارقة في أفكارها.. مشاعر الحزن والخوف والندم تداخلت في قلبها, تملأها بالتوتر من المصير المجهول.. كان ذهنها مثقلًا بالأسئلة.. كيف ستهرب؟ وكيف ستفلت من زواج لا تريده؟ كانت تعرف أن كارميتا ستعود ومعها خطة للهروب, ولكن الوقت يمرّ, والمخاطر تحيط بها..

 

فجأة, اخترق الصمت صوت خطوات ناعمة قادمة نحو الباب.. رفعت لينيا رأسها ببطء, قلبها يخفق بشدة.. وفي اللحظة التي انفتح فيها الباب, ترددت أنفاسها..

 

دخلت السنيورا رامونا, أم العشيرة, بشخصيتها المهيبة والجميلة, وخلفها رتلّ من الخادمات يحملن أقمشة وصناديق صغيرة.. كانت رامونا ترتدي عباءة فاخرة تلف جسدها بأناقة وتُضيء الغرفة بشيء من الوقار.. تقدمت برشاقة إلى منتصف الغرفة, لكنها لم تنطق بكلمة حتى لامست قدماها السجاد بالقرب من لينيا..

 

ثم بصوت هادئ، ونبرة ملؤها الحنان، همست رامونا

 

" لينيا... "

 

كان الصوت مليئًا بالدفء، مثل نسيم ربيع يلامس روحها المنهكة.. رفعت لينيا رأسها ببطء, وعيناها الواسعتان مليئتان بالدهشة.. لم تصدق ما تراه أمامها.. كانت السنيورا رامونا واقفة أمامها وهي تحمل بيديها فستانًا أبيض ناصع, يُشع بهاءً في الضوء الخافت للغرفة..

 

بخطوات رصينة, اقتربت رامونا من لينيا, وجهها مُشرق بابتسامة لطيفة.. وضعت الفستان بجانب لينيا على السرير بحنان, ثم جلست على حافة السرير, تنظر إلى لينيا بعينيّ أم تراقب ابنتها في لحظة فارقة.. ابتسمت أم العشيرة بحنان وقالت برقة

 

" لينيا, لقد أخضرت لكِ فستان الزفاف "

 

قالت رامونا تلك الكلمات بصوت دافئ بينما كانت ملامحها تُعبر عن السعادة والفخر, وكأن هذه اللحظة كانت تنتظرها طوال حياتها..

 

لينيا لم تستطع الرد فورًا.. كانت مشاعرها متخبطة بين الصدمة والحيرة.. كيف لها أن تُعبر عن الخوف الذي يعتريها, وهي ترى كل هذه البهجة في عيون السنيورا رامونا؟ كيف تبوح بأن هذا الزفاف الذي تنتظره العشيرة بأكملها هو الكابوس الذي يؤرقها؟ كيف يمكنها أن تشرح لأم العشيرة بأنها لا تستطيع خيانة حُب وتضحية بينيتو؟..

 

ابتسمت السنيورا رامونا, وأضافت بنبرة هادئة مليئة بالعاطفة

 

" سعيدة جدًا... لأنني أخيرًا سأرى حفيدي, سلفادور, يتزوج الفتاة التي يستحقها.. اليوم هو يومٌ مميز للعشيرة بأكملها "

 

كانت الكلمات تخترق قلب لينيا, تشعر بثقلها.. نظرت إلى الفستان الأبيض, رفعت يدها وتحسست الفستان بأنامل مرتجفة, كان ناعمًا كالحرير, لكنه بدا في عينيها وكأنه قيود تُكبّلها وتمنعها من الهروب.. كانت تعرف أن الوقت ينفد, وأن كارميتا ستعود, لكن أمامها الآن هذه المرأة التي تحاول فعل المستحيل لتُكفر عن أفعالها السابقة معها..

 

وقفت الخادمات حول الغرفة في صمت, ينتظرن إشارة من السنيورا رامونا لبدء تحضير العروس, يحملن أدوات الزينة والطرحة الطويلة من الدانتيل و تول, عليها زهور حريرية مصنوعة يدويا من الحرير.. شعرت لينيا بالاختناق, وكأن الغرفة أصبحت ضيقة بشكل مخيف.. لكنها لم تستطع التحرك أو النطق, الكلمات علقت في حلقها, والمشاعر تفيض منها دون أن تجد لها مخرجًا..

 

أخذت السنيورا رامونا بيد لينيا برفق, وكأنها تحاول طمأنتها.. ثم قالت برقة

 

" أعرف أن الأمر صعب عليكِ عزيزتي, لكنكِ ستكونين سعيدة مع سلفادور.. إنه يحبكِ كثيرًا, وأنتِ تستحقين كل الحب والرعاية التي سيقدمها لكِ "

 

تنهدت رامونا برقة وقالت بينما كانت تتأمل لينيا بنظرات حزينة ومتأسفة

 

" لقد ارتديت هذه العباءة خصيصاً اليوم من أجل زفافكم.. سبق لي ورميتُها في يوم مُحاكمتكِ على أرض غرفة الاجتماع, وأقسمت بأنني لن أرتديها مرة أخرى حتى يُنفذ سلفادور الانتقام... "

 

توقفت رامونا عن التكلم ونظرت إلى لينيا بندم حقيقي, ثم تابعت قائلة بحزن

 

" لقد أخطأت بحقكِ كثيراً يا ابنتي.. الندم يُحرق روحي ويكوي قلبي بنار لا تنطفئ.. هذه النار لن تنطفئ أبداً حتى أنال المُسامحة منكِ ومن أريا "

 

عندما رأت رامونا الدموع تترقرق في عيون لينيا, ابتسمت أم العشيرة بسرعة وقالت بنبرة سعيدة

 

" لن أكون السبب في دموعكِ اليوم عزيزتي, يجب أن تكوني سعيدة, فهذا اليوم مميز بالنسبة لكِ.. سلفادور يحبكِ, وسوف يُسعدكِ ويحميكِ من أي سوء "

 

كانت لينيا تبتلع الكلمات, تحاول إقناع نفسها بأن كل ما تقوله رامونا هو لصالحها, لكن شيئًا في داخلها كان يصرخ, يريد التمرد.. حاولت أن تبتسم, أن تتحدث بشيء من التردد, ولكن لم تجد القدرة على الاعتراف بالحقيقة أمام هذا الحضور الساحر للسنيورة..

 

فجأة, وقفت رامونا, وهتفت بسعادة للخادمات و لمصفّفة الشعر

 

" اقتربوا وساعدوا عروستنا الجميلة.. أريدها أن تكون اليوم أجمل عروس في إسبانيا كلها.. اليوم الجميع سوف يتكلمون عن جمال وسحر زوجة المتادور و طوريرو العظيم, سلفادور دي غارسيا "

 

بينما كانت رامونا تستمر في حديثها, اقتربت الخادمات من لينيا لبدء العمل ومساعدتها, بينما لينيا لم تستطع التحرك.. فقط نظرت إلى السنيورا رامونا, تبحث عن كلمات تُخرجها من هذا المأزق, لكن كل ما شعرت به هو دوامة من الخوف والندم والخيانة.. إذ شعرت لينيا في هذه اللحظة بأنها تقوم بخيانة بينيتو, الذي خسرَ روحه وحياته وشبابه بسببها..

 

وقفت أم العشيرة وساعدت لينيا لتقف أمامها.. ابتسمت رامونا بسعادة وقالت بفرحٍ كبير

 

" لا تخافي, لينيا... ستكونين أجمل عروس, وسيكون هذا اليوم بداية سعادتكِ مع حفيدي "

 

لكن داخل لينيا, كان هناك عاصفة.. أرادت أن تصرخ, أن تقول إنها لا تريد هذا الزواج, أن تشرح للسنيورة رامونا أنها تريد الهروب بعيدًا, ولكنها عرفت أن الوقت ليس في صالحها..

 

مرت ساعتان منذ أن دخلت السنيورا رامونا الغرفة برفقة الخادمات, والآن كان كل شيء قد اكتمل.. وقفت السنيورا رامونا أمام لينيا, تنظر إليها بفخر وسعادة تغمر وجهها الذي تكسوه علامات الحكمة والهيبة..

 

كانت لينيا تقف في منتصف الغرفة بفستان الزفاف الأبيض, فستان مصنوع من الحرير الناعم والدانتيل الرقيق, يلتف حول جسدها كالثلج الناصع.. كانت تشعر بثقل الفستان ولكنه حمل أيضًا جمالًا لا يوصف, جمال لم تكن تتخيله لنفسها..

 

 

شعر لينيا كان مرفوعاً بإتقان, يتدلى منه طرحة طويلة تنسدل بخفة خلفها, وكأنها عروس من إحدى الأساطير.. أما وجهها كان يبدو كقطعة من نور, برزت فيه ملامح البراءة والتوتر في آن واحد.. ظلت لينيا واقفة بصمت, تتنفس بعمق, تحاول أن تستوعب اللحظة التي تعيشها, لكن قلبها كان يخفق بشدة..

 

تقدمت رامونا بخطوات هادئة نحو لينيا, ابتسامة رقيقة على شفتيها, ثم مدت يديها وعانقتها برفق.. شعرت لينيا بيدَي السنيورا رامونا تضمانها بحنان غير معتاد, وكأنها أم تحتضن ابنتها في لحظة وداع حاسمة.. همست رامونا في أذن لينيا بحنان

 

" لينيا, أنتِ تبدين كأميرة حقيقية الآن "

 

انفصلتا بعد لحظات, نظرت رامونا إلى لينيا بنظرة مليئة بالدفء والحنان, ثم أشارت رامونا بإشارة بسيطة لإحدى الخادمات التي كانت تقف في الزاوية, وأمرتها قائلة برقة

 

" افتحي الصندوق "

 

أطاعت الخادمة بسرعة, فتحت الصندوق الذي كان مزينًا بشكل فاخر, وظهرت بداخله باقة من الورود البيضاء النقية.. كانت الباقة كبيرة ومتناسقة, تفيض بنضارة وعبق كاميليا البيضاء.. مدت السنيورا رامونا يدها داخل الصندوق, وأخرجت الباقة بحرص شديد كما لو كانت قطعة من حُلم جميل..

 

حملت رامونا الباقة وتقدمت نحو لينيا مجدداً.. قدمت لها الباقة بحنان, وقالت بصوت رقيق

 

" هذه الباقة يا عزيزتي, أحضرها سلفادور بنفسه, أرادكِ أن تحمليها في يوم زفافكما.. لقد اختار لكِ وردة كاميليا.. كاميليا البيضاء, تعني الود والإعجاب والحظ الجيد والكمال, وهي رمز إلى زواج طويل ومُخلص "

 

استلمتْ منها الباقة بيد مُرتجفة.. نظرت إلى الباقة في يدي بخجلٍ كبير عندما سمعت ما قالته سنيورا رامونا..


رواية المتادور - فصل 29 - ثلج دموي

 
 

شعرت بالدفء ينبعث من الورود, وكأنها تحمل جزءاً من روح سلفادور.. كانت رائحة الورود تنبعث برقة, مما زاد من توتري وخجلي..

 

تمنيت بحزن أن أختفي وأبتعد عن كل هذه اللحظات التي بدت لي كحلم غريب وغير واقعي.. لكن قبل أن أنطق بكلمة, قطعت رامونا الصمت قائلة بنبرة حزينة

 

" أنا آسفة, لينيا.. لأن والديكِ لن يكونا هنا برفقتكِ في هذا اليوم المهم.. لكنني أعدُكِ, بعد أن تعودي من رحلة شهر العسل مع سلفادور, سأصلح كل شيء.. سنجعل هذه العائلة كاملة مرة أخرى وسعيدة "

 

كانت كلمات رامونا وكأنها صاعقة ضربت قلبي.. اتسعت عيناي بذهول, وانعقد لساني للحظات.. بلعت ريقي بقوة, ثم همست بصوت متقطع, بالكاد خرج من بين شفتاي المرتجفتين

 

" سنذهب في... رحلة شهر العسل؟! "

 

نظرت أم العشيرة إليّ وابتسمت برقة, ثم أجابت بصوت يحمل مزيجًا من السرور والغموض

 

" نعم, حبيبتي.. سلفادور أعد لكِ مفاجأة خاصة بعد الزفاف.. لن أخبركِ المزيد عنها... ستكون لحظة لا تُنسى "

 

عصفت بداخلي دوامة من المشاعر.. لم أكن أتخيل أن الأمور ستتسارع بهذا الشكل.. صحيح بأنني أعشق سلفادور بجنون ومنذ مراهقتي, ولكن تضحية بينيتو كانت تقف حاجزاً بيني وبين سلفادور وسعادتي معه.. كنتُ أشعر بأنني أقوم بخيانته.. لا يمكنني الزواج من سلفادور بينما شقيقهُ الصغير ضحى بحياته لينقذني من الموت.. لا يمكنني نسيان كم أحبني بينيتو وكيف كان يحميني من الجميع, وفي النهاية خسر حياته ليحميني.. خسرَ حياته بسببي.. يا ليتني أبعدتهُ عني منذ البداية.. يا ليت...

 

رامونا, وهي تستشعر هذه اللحظة المفعمة بالمشاعر, وضعت يدها بلطف على كتف لينيا وقالت بحنان

 

" سأغادر الآن, لكنني سأعود قريباً لأرافقك إلى الكنيسة.. لا تقلقي, سيكون كل شيء على ما يرام "

 

خرجت الخادمات ثم غادرت رامونا الغرفة بخطوات هادئة وواثقة, تاركة لينيا واقفة وحدها أمام المرآة.. نظرت لينيا إلى انعكاسها في المرآة, وهي تحتضن باقة الورود بين يديها, وأفكارها متشابكة بين الحيرة والخوف.. جلست بهدوء على حافة السرير, وأخذت نفساً عميقاً وهي تفكر بحزن في مستقبلها, وفي الهروب الذي كانت تحلم به.. كيف ستتمكن من الابتعاد عن سلفادور؟ وهل ستكون قادرة على مغادرة هذا المكان والابتعاد عنه إلى الأبد؟...

 

بعد دقائق قليلة من خروج السنيورا رامونا, كانت لينيا لا تزال جالسة على السرير, تتأمل باقة الزهور التي تحملها بين يديها, وتفكر في كل ما حدث.. فجأة, انفتح الباب بسرعة, واندفعت كارميتا إلى داخل الغرفة بأنفاس متسارعة.. وقفت أمام لينيا، وجهها يشع بالتوتر والقلق..

 

وقفت كارميتا أمام لينيا, وهمست وهي تنظر إلى الباب بخوف

 

" لينيا, علينا أن نتحرك الآن "

 

ثم نظرت كارميتا إلى لينيا, عقدت حاجبيها وقالت بحدة

 

" قفي بسرعة وأزيلي الطرحة, سوف تُعيقنا أثناء الهروب.. هيا, تحركي, ليس لدينا وقت قبل أن تعود جدتي إلى هنا "

 

نظرت لينيا إلى كارميتا بعيون مترددة, وهي تفكر في الخيارات المحدودة أمامها.. كانت فكرة الهروب تخيفها, لكن قلبها لم يعد يتحمل الثقل الذي يحمله.. لكن داخليًا كانت تعلم أن الهروب هو خيارها الوحيد الآن.. أخذت نفسًا عميقًا واتخذت قرارها.. لا يمكنها البقاء هنا, لا يمكنها الزواج من سلفادور.. لا يمكنها خيانة حُب وتضحية بينيتو.. هذه فرصتها الوحيدة الآن لتبتعد عن سلفادور...

 

وضعت لينيا الباقة بهدوء على السرير, ثم رفعت يديها وبدأت بإزالة الطرحة عن رأسها بمساعدة كارميتا التي كانت تتحرك بسرعة وحنكة, كأنها تعرف بالضبط ما يجب فعله.. بعد أن أزالتا الطرحة, ألقياها على السرير وكأنها رمز للقيود التي يجب أن تتحرر منها لينيا..

 

وقفت كارميتا أمامي, ثم أشارت بإصبعها السبابة نحو الباب, وهمست بحزم

 

" لنذهب الآن "

 

خرجتا من الغرفة بخفة وحذر, تسللتا عبر الممرات المظلمة في القصر.. كانت الأنوار خافتة, وكان القصر هادئًا بشكل مخيف, وكأن كل حجر فيه يعرف أسرارًا غير مُعلنة..

 

بينما الخادمات منشغلات في التحضيرات في الطابق الأرضي, لم يلاحظ أحد اختفاء لينيا.. كانت كارميتا تمسك يد لينيا بإحكام, تقودها عبر الأروقة والممرات الضيقة.. كانتا تركضان بخفة وحرص.. كانت لينيا تشعر بأن قلبها يكاد يخرج من صدرها من شدة الخوف والتوتر.. كان قلبها ينبض بسرعة, ليس فقط خوفاً من اكتشاف أمرهما, ولكن أيضًا من التوتر والخوف من المجهول..

 

وصلتا إلى باب قديم في نهاية ممر مُظلم.. كان الباب مخفيًا جزئيًا خلف ستارة ثقيلة.. فتحت كارميتا الباب ببطء, لتكشف عن سلالم حديدية متصلة بالجدار..

 

نظرتْ إلى كارميتا بتوتر, لكنها تأملتني بنظرات هادئة وقالت بصوتٍ مُنخفض

 

" هذه سلالم الحرائق.. سنستخدمها للنزول إلى الحديقة الخلفية, لا أحد سيلاحظنا هنا "

 

نزلت كارميتا أولاً, وتبعتُها بخوف, رفعت طرف فستاني بكلتا يداي حتى لا أتعثر خلال النزول.. كانت السلالم مُخيفة, والرياح الباردة تسري عبرها مثل همسات خفية..

 

عندما وصلنا أخيراً إلى الحديقة الخلفية للقصر دخلنا إحدى الدهاليز, تابعنا الركض حتى نهايته ثم وقفنا, كان المكان هادئًا ومهجورًا.. تحركت كارميتا بسرعة نحو باب خشبي صغير مغطى جزئيًا بالأعشاب البرية, ثم أخرجت مفتاحًا قديمًا من جيبها..

 

همست كارميتا وهي تدير المفتاح في القفل

 

" هذا الباب يؤدي إلى الغابة "

 

ثم تابعت قائلة بسرعة

 

" لا أحد يملك هذا المفتاح سوى جدتي.. دخلت إلى غرفتها قبل ساعة وبحثت عنه حتى وجدته.. هذا هو الطريق إلى الحرية "

 

فتحت الباب ببطء, وصوت الصرير تردد في الهواء البارد.. خلف الباب, رأيت الغابة الكثيفة تمتد أمامنا كعالم مجهول, أشجارها تعانق السماء وتخفي ما وراءها.. عبرنا البوابة بخفة, واستمرينا في السير بهدوء داخل الغابة المظلمة.. رغم أن الساعة كانت الواحدة ظهراً إلا أن الظلام كثيفًا, والضوء القليل القادم من الشمس يلمع بين أوراق الأشجار وأغصانها والثلوج التي تُغطيها بالكامل, لكنه لم يكن كافيًا ليبدد الظلال المُخيف للغابة..

 

كانت الغابة تبدو وكأنها عالم منفصل, مع الأشجار الكثيفة والهواء البارد.. ركضتا وسط الأشجار, وكانت خطواتهما تغوص في الأرض المليئة بالثلوج البيضاء النقية..

 

في قلب الغابة البيضاء, كانت الأشجار الكثيفة مغطاة بالثلوج الناعمة التي تساقطت طوال الليل, مما حوّل المشهد إلى عالمٍ ساحرٍ من البراءة والجمال المتلألئ.. ركضت لينيا برفقة كارميتا, صوت خطواتهما المتسارعة يغرق في الثلوج الهشة التي كانت تحت أقدامهما.. كلما تعمقتا في الغابة, بدا لهما أن العالم من حولهما قد أصبح أكثر عزلة و هدوءاً, لا يُسمع فيه سوى أصوات أنفاسهما المتسارعة وصرير الثلوج تحت وطأة أقدامهما..

 

كان فستان الزفاف الطويل الذي ارتدته لينيا يعيق حركتها مع كل خطوة تخطوها, فأمسكت بأطرافه بيدها اليُمنى لترفعه قليلاً عن الأرض, لكن ذلك لم يكن كافياً لتجنب الثلج البارد الذي كان يتسلل ببطء إلى داخل حذائها العالي الكعب.. شعرت برودة الثلج تزحف على أصابع قدميها كإبر صغيرة تلسع جلدها.. حاولت تجاهل الألم وواصلت الركض, لكن مع كل خطوة, كان الثلج يضغط أكثر على قدميها, وكأن الغابة نفسها تحاول إيقافها عن الهروب..

 

توقفت لينيا فجأة, أنفاسها تتلاحق وهي تنظر إلى كارميتا التي كانت تسير قدماً أمامها بسرعة.. انحنت على الفور لتخلع حذاءها, وأخذت تدلك قدميها المتجمدتين, وهي تشعر بثقل الثلج الذي ملأ الكعبين. نظرت إلى الحذاء الفاخر بين يديها, ثم نظرت إلى الغابة الممتدة أمامها, إلى المسافة التي عليها أن تقطعها.. في لحظة جريئة, رفعت يدها وألقت الحذاء بعيداً بين الأشجار, تاركة إياه ليضيع وسط البياض المهيب..

 

وقفت لينيا للحظة, وقدماها الحافيتان تغرقان في الثلوج, شعرت بأطرافها تتجمد بسرعة.. الألم الحاد الذي شعرت به جعلها تتألم, لكنهُ منحها أيضاً شعوراً بالتحرر.. برودة الثلج التي كانت تخترق جلدها وكأنها تنعش روحها.. لم يكن أمامها خيار سوى أن تتابع.. بدأت تسير حافية القدمين, كل خطوة كانت كمعركة صغيرة تخوضها ضد برودة الطبيعة, لكن برغم الألم, كانت تشعر بقوة غريبة تتغلغل في أعماقها..

 

" كارميتا, انتظريني "

 

هتفت بصوت مُرتجف لـ كارميتا التي كانت قد توقفت بالفعل والتفتت نحوي.. نظرتها كانت تعكس القلق والإلحاح.. صرخت كارميتا, ولكن صوتها اختلط مع الرياح الباردة التي كانت تعصف في الغابة

 

" لينيا, علينا أن نتحرك, لا وقت لدينا! "

 

أومأت لها موافقة بصمت, ولم أتأخر أكثر.. أمسكت مجدداً بأطراف فستاني, وركضت خلفها..

 

كان الهواء البارد يعصف بوجهها, شعرها يتطاير حولها وكأن الرياح تلعب بخصلاته.. كلما تقدمت خطوة, شعرت وكأن الثلج يتشبث بها أكثر, برودته تصل إلى عظامها, لكنها رفضت أن تتوقف.. وتابعت لينيا الركض, قدماها تغوصان في الثلج الأبيض المتجمد..

 

هذه اللحظات, على الرغم من قسوتها, كانت تحمل في طياتها نوعاً من الجمال الخفي, جمال المقاومة والتحمل..

 

بعد الركض لدقائق طويلة, توقفت كارميتا فجأة في وسط الغابة.. وقفت وأنا ألهث من التعب وألتقط أنفاسي بصعوبة, ثم نظرت إلى كارميتا بنظرات مُتعجبة, وسألتُها بارتباك وبدهشة

 

" لماذا توقفنا هنا؟ "

 

ابتسمت كارميتا ابتسامة شريرة, ثم ببطء أخرجت سكينًا لامعًا من جيب سترتها, لمعان الشفرة كان كافيًا لجعل قلبي ينقبض برعب.. رفعت السكين أمام وجهي وقالت ببرود

 

" أنتِ غبية, لينيا... لأنكِ وثقتِ بي وبسهولة "

 

تراجعت خطوة إلى الخلف, وسألتُها بصوت مُرتجف بينما عيناي مُتسعتان بصدمة وعدم تصديق

 

" ماذا؟! ماذا تعنين؟ "

 

بدأت كارميتا تتقدم نحوي بخطوات ثابتة وهي تحمل السكين بيد ثابتة, وبدأت تتحدث ببطء, كلماتها تنزلق من بين شفتيها كسم يتغلغل في قلبي

 

" أولا, دعيني أخبركِ أن الهروب من هنا مستحيل, خاصةً اليوم.. مهما حاولتِ, لن تتمكني من الخروج من هذه القرية.. سلفادور أعطى تعليمات صارمة للجميع, وخاصة لأهالي اكستريمادورا.. جميع حدود القرية محروسة, ولا أحد سيسمح لكِ بالهروب قبل أن يتم الزفاف.. لقد أمر سلفادور الجميع بمراقبة كل مداخل ومخارج القرية.. لن تتمكني من الهروب, مهما حاولتِ "

 

كانت الكلمات كالسكاكين التي تخترق صدري.. حاولت التراجع أكثر, لكن قدماي تعثرتا على الثلج.. تابعت كارميتا بنبرة مفعمة بالحقد

 

" سلفادور شدد الحراسة في كل مكان.. في القصر, في الطرقات, في كل زاوية.. لكنهُ غفل عن شيء واحد... السلالم الخاصة بالحريق... والباب السري في الحديقة الذي لا يمتلك مفتاحه سوى جدتي "

 

رفعت كارميتا السكين أمام وجهي, كان نصلهُ يلمع كأداة الموت الوشيك.. تأملتني كارميتا بنظرات مُرعبة, وكانت مليئة بالكراهية العميقة.. وبحقد مُخيف قالت

 

" لكن لا تقلقي, لن تحتاجي للهروب بعد الآن.. سأقتلكِ هنا, وأستريح منكِ إلى الأبد "

 

في هذه اللحظة استجمعت كل ما تبقى لي من شجاعة.. قلبي كان ينبض بجنون, والدموع تتجمع في عيناي, لكن لم أستطع الوقوف مكتوفة الأيدي.. عندما تحركت كارميتا لمُهاجمتي, دفعت نفسي إلى الأمام, متفادية الضربة, ثم أمسكت بطرف فستاني الطويل وبدأت أركض بكل ما أوتيت من قوة..

 

كانت الغابة تضيق حولي, والأشجار تبدو وكأنها تحاول إيقافي, لكن لم أتوقف.. كانت الدموع تملأ عينيّ بينما كنتُ أركض.. انزلقت في الثلوج وتعثرت في الأغصان, لكن لم أتوقف..

 

سمعت بذعر كارميتا تصرخ خلفي بشكل هستيري

 

" لينيا, أيتُها البروفيسورة, لا يمكنكِ الهروب مني.. ثم لا تقلقي لن أقتلكِ بالسكين, لقد رميته.. قررت جعل موتكِ يبدو كحادث مؤسف "

 

لم أتوقف عن الركض, وبين شهقاتي وبكائي, هتفت بأعلى صوتي, أستنجد بالرجل الوحيد الذي أحببته في حياتي والذي كان يحميني دائماً

 

" سلفادور... سلفادور... سلفادور... سلفادور أنقذني... "

 

كان صدى صوتها يتردد بين الأشجار, وكأن الغابة نفسها تسمع صراخها المستغيث.. كانت تركض بلا وجهة واضحة, لكن قلبها كان مملوءًا بالخوف, وكانت تلهث وتبكي, هاربة من الموت الذي كان يلاحقها في هيئة كارميتا المتعطشة للانتقام..

 

كانت لينيا تركض بلا هدى, قدماها تغوصان في الثلج الأبيض الذي يغطي أرض الغابة الموحشة.. الهواء البارد كان يلسع وجهها, والدموع التي انهمرت على وجنتيها تجمدت بفعل الصقيع.. كانت الأنفاس تتلاحق في صدرها كأنها تحاول الهرب من مصير محتوم.. ركضت بكل قوتها, لكن الخوف كان أثقل من كل خطوة, وكأن الغابة نفسها تحاول إيقافها..

 

توقفت لينيا فجأة, قدماها تغوصان في الثلج البارد, وصدرها يعلو ويهبط من شدة التعب والخوف.. حولها كانت الأشجار العملاقة تلتف, تغمرها بظلال مظلمة ومخيفة.. كان المكان مهجورًا وهادئًا إلى درجة مرعبة, حيث حتى الرياح توقفت عن العويل وكأن الغابة نفسها كانت تحبس أنفاسها, تراقب اللحظة التالية..

 

فجأة, شعرت بشيء غريب يملأ المكان.. نظرت حولي بذعر, الأشجار العالية كانت كالوحوش التي تتربص بي في الظلام, صمت مخيف يسود المكان, سوى صوت أنفاسي المتقطعة التي تصدر كأنها صرخات مكتومة.. لكن لم أكن بمفردي, شعرت بوجود كارميتا, تلك الطاقة المظلمة التي تتبعني كظلٍ لا يرحم..

 

وبينما كنتُ أُحاول التقاط أنفاسي, اخترقت أذناي ضحكات بعيدة, ضحكات كارميتا المُخيفة والمليئة بالشر, تردد صداها في عمق الغابة, وكأنها تعكس جنونًا لا يمكن الهروب منه.. الصوت كان يدوي في أذني وكأنه يُحاصرني من كل الجهات.. بدأت ألتف حول نفسي, أُحاول معرفة مصدر الضحكات, لكن الغابة كلها كانت تردد الصدى, وكأن الغابة بأكملها تتنفس بصدى تلك الضحكات الشريرة..

 

اتسعت عيناي بالذعر, وقلبي نبض بجنون في صدري, لكن لم أجد أي مخرج.. كانت الغابة تتحدث إليّ, تغمرني بوحشية الضحكات التي لا تهدأ.. ووسط هذا الاضطراب, تجمدت فجأة.. شعرت بشيء خلفي.. لم يكن مجرد شعور, بل كان حقيقيًا.. ثم جاء الصوت من خلفي باردًا, مخيفًا كالموت

 

" الوداع, لينيا "

 

كان الصوت خلفي مباشرة.. حاولت أن أستدير, لكن قبل أن أتمكن من الحركة, شعرت بضربة قوية على رأسي.. كانت الضربة قاسية كأنها صاعقة مزقت جسدي بالكامل.. تدفقت موجة من الألم عبر رأسي, وتبعتها حرارة غريبة.. لم أستوعب ما حدث في البداية, حتى شعرت بسائل دافئ يتسرب على جبيني وينحدر ببطء على وجهي وعنقي وكتفي.. كان السائل كثيفًا, ساخنًا, وكنتُ أعرف ما هو... إنهُ دمي..

 

بدأ العالم من حولي يدور ببطء, كل شيء أصبح مشوشًا.. رفعت عيناي ببطء لأرى الثلج أمامي يتحول تدريجيًا إلى اللون الأحمر.. ثلج دموي!.. هذا غريب...

 

كانت قطرات الدم تتساقط من جبينها على الثلج الأبيض النقي, ملوثة براءته وتحولهُ إلى ثلج دموي..

 

رؤية لينيا بدأت تضعف, وكل شيء حولها بدأ يختفي, الثلج الدموي الأحمر يذوب أمام عينيها تدريجيًا, ويحل محله الظلام..

 

بدأت ساقاها تتراخيان, حاولت التمسك بشيء, لكن يديها كانتا خاويتين.. سقطت لينيا على ركبتيها أولاً, ثم انهار جسدها بالكامل على الأرض.. الثلج الذي كان ناصع البياض تحول الآن إلى بحرٍ أحمر, دماء العروس التي غُدِر بها اختلطت بالثلوج وكأن الطبيعة نفسها تُعلن احتجاجها..

 

أصبحت الرياح تعصف بعنف وكأنها تُعبر عن حزنها, تهدر وكأنها تصرخ بصوت لا يسمعه إلا قلب الغابة.. كانت الرياح تدور حول جسد لينيا المسجى على الثلج, تُحرك شعرها المتجمد وتلف فستانها الذي أصبح مُلطخًا بدمائها.. كان المشهد محزنًا, وكأن الأرض نفسها تبكي على هذا المصير المؤلم..

 

الغابة شعرت بالظلم, الأشجار اهتزت وأصدرت أصواتًا كأنها تُحذر مما حدث.. كأن الغابة بأكملها تريد أن تنتفض, أن تحتج على هذه الخيانة.. لم يكن ما حدث للعروس مجرد حادثة, بل كان خيانة للطبيعة نفسها, والتي لطالما حفظت أرواح المحبين بين أحضانها.. الآن, كان الدم النقي يسيل على الأرض, وكان الهواء البارد يحمل معه صوت الرياح الحزينة, ترددَ في الفضاء كأنهُ نشيد جنائزي للعروس التي غُدر بها..

 

في قلب تلك العتمة التي سادت الغابة, كان هناك شعور بالرفض لما حدث.. الأرض, الأشجار, والرياح كانت كلها شاهدة على الظلم, وكأنها تتساءل, كيف يمكن لهذه الروح النقية أن تُسلب بهذا الغدر القاسي؟..

 

الثلج أسفل جسد لينيا امتص دمها, ليتحول الثلج الناصع البياض إلى بحر من الأحمر الداكن, ليتحول إلى ثلج دموي.. العروس التي كانت ترتدي الفستان الأبيض أصبحت جزءًا من هذا الدم, وكل جزء من الثلج تحول إلى سجادة من الحزن والألم..

 

كانت الرياح تعوي من جديد, ولكن هذه المرة بصوت مختلف, وكأنها تهدر مُعبرة عن غضبها وحزنها.. كانت الرياح تتصاعد بقوة, تدور حول لينيا وكأنها تريد احتضانها, أو ربما الاحتجاج على ما حدث لها.. كانت الغابة نفسها كأنها تئن من الظلم الذي جرى الآن, الأشجار تهتز بصوت خافت وكأنها تبكي, الأوراق الجافة تتساقط على جسد لينيا في حركة رثاء, والسماء بدت وكأنها تُظلم أكثر فأكثر, تملأ المكان بمزيد من الكآبة..

 

كان الثلج يحتضن دمائها الغزيرة.. تلك الدماء التي خُسرت بسبب خيانة لا ترحم, وتركها الثلج وكأنه يتحدث بلغة حزينة, يغلفها بلونه الجديد, لون العروس التي غُدرت وحولت الثلج الأبيض إلى ثلج دموي...

 

انتهى الفصل












العودة إلى الفصل 26 ᐸ












فصول ذات الصلة
رواية المتادور

عن الكاتب

heaven1only

التعليقات


إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

اتصل بنا

جميع الحقوق محفوظة

لمدونة روايات هافن © 2024 والكاتبة هافن ©