رواية المتادور - فصل 26
مدونة روايات هافن مدونة روايات هافن
recent

آخر الأخبار

recent
random
جاري التحميل ...

أنتظر تعليقاتكم الجميلة

رواية المتادور - فصل 26

 

رواية المتادور - قصل 26 - التهديد



التهديد











 


أريا**

 

 

كانت أريا تجلس على الأرض داخل الزنزانة وهي تحتضن ركبتيها, وعيناها غارقتان بالدموع.. كانت تبكي بشدة, صوت بكائها يتردد في أنحاء الزنزانة الباردة والقاسية..


رواية المتادور - قصل 26 - التهديد

 

بجانبها كانت تجلس صديقتها لينيا, تحاول بكل ما أوتيت من قوة تهدئتها, أن تمنحها بعض الطمأنينة في هذا العالم الموحش.. ضمت لينيا صديقتها أريا إلى صدرها بقوة, وهمست لها بكلمات مشجعة, لكن دموعها هي الأخرى كانت تسيل بصمتٍ على وجنتيها..

 

مسحت أريا دموعها بنهاية كُمها ونظرت إلى لينيا ببؤسٍ لا يوصف وقالت ببكاء

 

" لينيا, لقد قتلته.. قتلت خوان.. لقد قتلت الرجل الذي أحببته بجنون طوال عشر سنوات.. لقد أحببته طيلة فترة عملي في قصر المتادور.. لم أكن أريد قتله, لم أكن أريد أن أكون السبب في موته رغم كل ما فعلهُ بي "

 

كانت كلماتها تحمل كل الألم والأسى الذي شعر به قلبها..

 

ابتسمت لينيا بحنان ومسحت دموع أريا عن وجنتيها بلطف.. حاولت لينيا أن تكون قوية من أجل صديقتها, فقالت لها برقة

 

" ربما سنيور خوان لم يمت.. يجب أن تتحلي بالإيمان والقوة.. لا تفقدي الأمل بهذه السهولة.. لقد رأيت رجال الإسعاف يأخذون خوان إلى المستشفى, هو سيعيش, أنا متأكدة من ذلك "

 

نظرت إلى لينيا بعينين ممتلئة بشعور ضئيل من الفرح, كأن كلمات صديقتي قد أنارت شمعة صغيرة في قلبي المظلم.. تنهدت برقة وهمست قائلة بأمل

 

" إن كان خوان لا يزال على قيد الحياة, سوف أسامحه على كل ما فعلهُ بي.. فقط أريده أن يكون بخير, أن يتنفس.. لن أتحمل إن مات بسببي "

 

فجأة, انفتح الباب الضخم ودخلت خادمة برفقة حارس إلى الزنزانة, وكانت تحمل بعض الملابس النظيفة, وضعت الملابس على السرير الصغير وغادرت الزنزانة مع الحارس بهدوء.. نظرت إلى  لينيا وطلبت منها أن تدخل إلى الحمام الصغير الموجود داخل الزنزانة لتستحم أولاً.. بينما كانت لينيا في الحمام, جلست أُحدق في الفراغ بشرود, وأنا أُفكر بأمل.. لو ظل خوان على قيد الحياة, سوف أسامحه على كل ما فعله بي.. فقط أريده أن يكون بخير..

 

خرجت لينيا من الحمام ونظرت إليّ قائلة بجدية

 

" أريا, يجب أن تقولي الحقيقة للمتادور.. يجب أن يعرف بما فعلهُ خوان وجدته رامونا بكِ.. يجب أن تُنقذي نفسكِ وتُخبريه كامل الحقيقة.. سنيور سلفادور رجل شهم ومُحترم, سوف يُصدقكِ ويُساعدكِ.. مهما حدث عليكِ بإخباره الحقيقة "

 

نظرت إلى لينيا بذعر وهمست بفزع

 

" إن أخبرت المتادور بالحقيقة, قد تحرمني سنيورا رامونا من أشقائي إلى الأبد.. خوان أصبح الوصي الشرعي عليهم, إن مات سوف تنتقل الوصاية لجدته.. أنا لا أملك المال لأرفع دعوى قضائية ضدها وأستعيد وصاية أشقائي.. سنيورا رامونا سوف تُحاربني بكامل قوتها وتُدمرني "

 

جلست لينيا على السرير بجانبي وأمسكت يدي وضغطت عليها برقة, ثم نظرت إليّ بنظرات حزينة وقالت

 

" إن أخبرتِ المتادور بالحقيقة قد يُساعدكِ.. بل أنا متأكدة بأنهُ سيُساعدكِ وبكامل قوته, ولن يسمح لجدته بأن تحرمكِ من أشقائك الثلاثة.. ثقي بكلامي أريا, وأخبريه الحقيقة "

 

نظرت إلى لينيا بتعاسة وقلتُ لها بيأس

 

" ماذا لو لم يُصدقني المتادور؟ إن كان خوان قد مات سأخسر حياتي.. سوف تتم مُحاكمتي أمام رجال العشيرة و المتادور, وسوف يحكمون عليّ بالموت.. إن قلتُ لهم الحقيقة لن يصدقوني, كما بالتأكيد السنيورا رامونا لن تعترف بالحقيقة أمام أحد.. لقد تمت إدانتي بالفعل من رجال العشيرة "

 

نظرت لينيا إليّ بجدية قائلة

 

" إن كان خوان ما زال على قيد الحياة لن تتم إدانتكِ, أليس كذلك؟ "

 

نظرت إليها بيأس قائلة

 

" لينيا, أنتِ لا تعرفين شيئاً عن عشيرة دي غارسيا, لديهم نفوذ في البلد لا يمتلكها سوى العائلة المالكة في إسبانيا.. ثم سنيور سلفادور رغم أنهُ عادل فقد وضعكِ هنا برفقتي في الزنزانة, يوجد احتمال ضئيل جداً بأن يُصدقني إن أخبرته الحقيقة "

 

نظرت بحزن إلى صديقتي, وتابعت قائلة لها بيأس

 

" حتى لو ظل خوان على قيد الحياة سوف تتم مُحاكمتي.. وإن تفوهت بالحقيقة أمام رجال العشيرة وصدقوني, سوف.. سوف... "

 

سألتني لينيا بتوتر

 

" ماذا سيحدث حينها؟ أخبريني "

 

نظرت بتوتر أمامي وأجبتُها بخوف

 

" إن صدقوني, سوف تتم إدانة خوان من قبل العشيرة, وبعدها سوف يتبرؤون منه ويتم طردهُ من القرية وحرمانه من الميراث ومن جميع أملاكه "

 

سمعت لينيا تسألني برقة

 

" وأنتِ أريا, لا ترغبين بحدوث ذلك له؟ "

 

سالت دموعي من جديد على وجنتاي وبكثرة.. شهقت بضعف وهمست بصوتٍ مُختنق قائلة

 

" لا, لا أريد أن يحدث ذلك له رغم كل ما فعلهُ بي.. كرهت خوان كثيراً بسبب ما فعلهُ بي في الأسابيع الماضية, وحاولت إزالة عشقي لهُ من قلبي ومن كياني, ولكن لم أستطع.. لقد فشلت بفعل ذلك.. قد تظنين بأنني بلا كرامة, ولكن عشقي لهُ عمره عشر سنوات.. تخيلي بأن تُحبي وتعشقي رجل بصمت لفترة عشر سنوات كاملة, من الصعب جداً أن تُزيلي هذا العشق من قلبكِ ومن روحكِ وكيانكِ بسهولة "

 

نظرت إلى لينيا بحزن, وتابعت قائلة بألم

 

" تخيلي أن يؤذيكِ وبقوة الرجل الذي أحببته لفترة عشر سنوات وبصمتٍ قاتل.. هل تعرفين كم ألمني خوان وكم عذبني؟ ولكن مع ذلك لا أريد أذية خوان رغم كل ما فعلهُ بي.. عندما تعشقين بصدق لن تستطيعي أذية من تعشقينهُ مهما فعل بكِ.. قد تُفضلين الابتعاد عنه إلى الأبد, وهذا ما حاولت فعلهُ ولكن خوان لم يسمح لي بالابتعاد "

 

رأيت دمعة تسيل ببطءٍ شديد على وجنة لينيا, مسحتها بسرعة وقالت بغصة

 

" أفهم تماماً ما تُحاولين قولهُ لي صديقتي.. ولكن لا تفعلي ما فعلته, أخبري الحقيقة للمتادور, ربما لن تندمي إن فعلتِ ذلك "

 

أومأت لها موافقة رغم شعوري بالخوف من فعل ما طلبتهُ مني.. ثم بعد لحظات طلبت مني لينيا لأدخل إلى الحمام وأستحم.. دخلت إلى الحمام الصغير والذي كان داخل الزنزانة وطبعا لا يوجد لهُ باب.. نظرت أمامي بحزن بينما كنتُ أُزيل الملابس عن جسدي.. وبينما كنتُ أستحم كنتُ أبكي بصمت وأنا أتمنى بداخلي أن يكون خوان بخير..

 

مضت الأيام ببطء وبطريقة موحشة في الزنزانة, كانت أريا ولينيا تواسيان بعضهما, تحاول كل منهما إشعال الأمل في قلب الأخرى.. كانت الكلمات الطيبة والابتسامات الصغيرة تصنع فرقاً كبيراً في هذا المكان الكئيب..

 

بعد مرور ستة أيام على وجودنا في الزنزانة, دخل المتادور سلفادور بنفسه إلى الزنزانة.. طلب مني تفسيراً وسبباً لإطلاقي النار على خوان.. بفضل تشجيع لينيا, أخبرت المتادور بالحقيقة.. بعد خروجه من الزنزانة, بدأت أبكي بحرقة قلب.. نظرت إلى لينيا وهتفت بتعاسة

 

" خوان قد مات.. لقد مات.. خسرت أشقائي, خسرت حياتي الآن.. لقد خسرت كل شيء "

 

اقتربت لينيا وضمتني بقوة إلى صدرها.. حاولت جعلي أهدأ لكن جميع مُحاولاتها باءت بالفشل.. كان جداً صعباً عليّ تقبُل حقيقة موت خوان وبسببي, وطبعاً خسارتي لأشقائي.. وعرفت بتعاسة بأن حُكم الموت بانتظاري..

 

بعد مرور أسبوعين على وجود أريا و لينيا في الزنزانة, كانت الأيام تمر ببطءٍ قاتل, وكل يوم كان يزيد من حدة القلق ومشاعر اليأس والخوف في قلب أريا..

 

في صباح يومٍ بارد سمعت خطوات ثقيلة تقترب من باب الزنزانة.. فُتح الباب بصرير مزعج, ودخل الحراس, وقفوا أمامي بينما وجوههم جامدة بلا تعبير.. نظرت إلى لينيا بحزن, ثم احتضنتُها بقوة, وهمست بصوتٍ مُختنق في أذنها

 

" سوف تخرجين من هذه الزنزانة قريباً جداً.. أريدُكِ أن تكوني قوية وتهتمي بأشقائي.. أخبريهم بأنني سافرت.. وقولي لهم بأنني أحبهم بجنون ولن أنساهم أبداً.. أرجوكِ, لينيا, لا تُخبري أشقائي بما حدث معي.. لا تُخبريهم بأنني مُت "

 

شهقت لينيا بقوة وضمتني بشدة محاولة بث الشجاعة في قلبي, وقالت ببكاء قبل أن يفصلنا عن بعضنا الحراس

 

" لن تموتي.. لن تموتي.. سلفادور ليس بظالم, لن يحكم عليكِ بالموت "

 

وبينما كان يتم سحبي بالقوة خارج الزنزانة, نظرت إلى الخلف نحو لينيا وهتفت بغصة بينما كنتُ أُحاول عدم البكاء

 

" اعتني بنفسكِ وبأشقائي.. كان لي الشرف بأنني تعرفت عليكِ وأصبحت صديقتكِ سنيوريتا لينيا "

 

تم إغلاق باب الزنزانة بعد خروجنا.. سمعت بألم لينيا تصرخ من الداخل باسمي وهي تبكي..

 

كنتُ أمشي بخطوات مثقلة بالحزن والخوف, وكل خطوة كانت تأخذني نحو القاعة تزيد من توتري وذعري.. كنتُ أعلم أن هذا اليوم سيكون آخر يوم في حياتي, وكل ما تمنيته في هذه اللحظة أن أرى أشقائي الثلاثة وأودعهم..

 

رافقوني الحراس عبر الممرات الضيقة المظلمة لقصر المتادور.. كنتُ أشعر بثقل كل خطوة, وكأنني أمشي نحو قدري المحتوم.. بعد دقائق طويلة بدت كأنها ساعات, وصلنا إلى قاعة الاجتماع الكبرى.. فُتحت الأبواب الضخمة, وكشفت عن قاعة واسعة مليئة برجال عشيرة دي غارسيا..

 

دخلت القاعة برأس مرفوع, محاولة إظهار القوة بالرغم من الخوف الذي كان يعصف بداخلي.. كنتُ أعلم بأنني سأموت, وكنتُ مهيأة لمواجهة مصيري..

 

تقدمت أريا بخطوات بطيئة نحو مكانها في وسط القاعة, وأخذت مكانها تحت أعين الجميع.. كان الصمت يلف القاعة, والجميع ينتظرون ما ستؤول إليه هذه المحاكمة المصيرية..

 

داخل القاعة, كانت الأجواء مشحونة بالتوتر.. رجال عشيرة دي غارسيا كانوا يجلسون في صفوف منتظمة خلف الطاولة الضخمة المستطيلة, وجوههم تعكس القسوة والجدية.. نظرت إلى الوجوه, محاولة قراءة ملامحهم, ولكن لم أجد أي تعبير يدل على الرحمة.. ولكن فجأة, بينما كنتُ أتأمل وجوه الحاضرين, استقرت نظراتي على وجه مألوف ومحبوب في قلبي..

 

كان خوان يجلس بين الحاضرين, تحديداً بجانب مقعد جدته السنيورا رامونا.. كان وجهه يحمل علامات التعب والألم والغضب, ولكنهُ كان على قيد الحياة.. كانت هذه اللحظة بالنسبة لي وكأن الزمن قد توقف.. نظرت بذهول إلى خوان, وتوسعت عيناي بصدمة كبيرة بينما غمرتني الفرحة بداخلي.. لم أستطع تصديق ما تراه عيناي.. خوان أمامي, وهو على قيد الحياة..

 

شعرت بصدمة وذهول, وسعادة غامرة اجتاحت قلبي عندما رأيت خوان حيًا أمامي.. كنتُ أعتقد بأنني قد أزهقت روحه بيدي, ولكن ها هو يجلس أمامي وينظر إليّ..

 

ولكن عندما أخفضت نظراتي إلى الأسفل, رأيت بصدمة كبيرة خوان يجلس على كُرسي متحرك.. كان المشهد كالصاعقة, هزني بعنف رؤيتهُ يجلس على ذلك الكُرسي.. عرفت في هذه اللحظة المؤلمة بأن خوان أصبح مُقعداً بسببي..

 

شلت الصدمة جسدي وجميع حواسي, ولم أستطع التحرك وحتى التعبير عن ما أشعر بهِ من ألم في هذه اللحظة.. اختلطت مشاعري بين الفرح برؤيته على قيد الحياة والألم العميق لما حدث لهُ بسببي..

 

في هذه اللحظة, أدركت أن حياتي وحياة خوان لن تكون كما كانت من قبل.. الوقوف أمام خوان, والرؤية الحية لمعاناته, جعلتني أشعر بوزن الجريمة التي ارتكبتها, وبالثمن الذي سيدفعهُ كلانا..

 

رفعت نظراتي ببطءٍ شديد عن الكُرسي وساقيه ونظرت إلى وجهه بصدمة كبيرة وبألم لا مثيل له.. كان خوان ينظر إليّ وعيناه تملؤها مشاعر مختلطة من الغضب والجدية ومشاعر أخرى لم أستطع تفسيرها, ولكنها بالطبع قد تكون الحقد..

 

بدأت المحاكمة بصوت المتادور الذي أعلن عن بدء الجلسة.. كان الصمت يلف القاعة ولكن مشحونًا بالتوتر, والجميع ينتظرون ما ستؤول إليه هذه المحاكمة المصيرية..

 

عندما حان دوري للدفاع عن نفسي, كنتُ ما زلتُ أنظر إلى خوان, إذ لم أستطع إزالة نظراتي عنه المُحملة بالندم والألم.. وبصوت مرتجف أجبت المتادور

 

" لقد فهمتُك سنيور سلفادور.. أنا لن أُدافع عن نفسي أمامك سنيور وأمام رجال العشيرة, فليس لدي ما أقوله "

 

كان هناك صمت ثقيل يعم القاعة بعد كلماتي.. الجميع كانوا ينتظرون القرار النهائي.. كان المتادور سلفادور يراقب الوضع بعيون ثاقبة..

 

كان من المستحيل أن أقول الحقيقة أمام رجال العشيرة.. سبق ووعدت نفسي بأنني سوف أُسامح خوان إن ظل على قيد الحياة.. وأنا بالفعل قد سامحته الآن.. وبسبب ما حدث لهُ بسببي لن أجعل رجال عشيرته يعرفون الحقيقة, حقيقة ما فعلهُ بي خوان دي غارسيا..

 

ورغم أن المتادور كان يعرف الحقيقة, لزمت الصمت ولم أُحاول الدفاع عن نفسي بينما هو كان على وشك الحُكم عليّ بالموت.. ولكن فجأة, هتف خوان بقوة مُقاطعاً حديث المتادور

 

" سلفادور, اسمح لي بأن أُعلن الحُكم عليها كما تستحقه بنظري "

 

وبينما كان خوان يتكلم تجمدت نظراتي على وجهه بصدمة كبيرة.. زوجته!.. هو فعلا قال أمام الجميع بأنني سأكون زوجته وخادمته لمدى لحياة؟!..

 

كنتُ واقعة تحت تأثير الصدمة, كنتُ جامدة كلياً بينما كاهن القرية يسألني إن كنتُ موافقة على هذا الزواج.. نظرت إلى الكاهن ببلاهة وفتحت فمي قليلا لكن لم أستطع النطق بحرفٍ واحد.. ووسط جمودي سمعت خوان يهتف بحدة وبغضب

 

" هي موافقة حضرة الكاهن, وأنا موافق.. يمكنك مُتابعة مراسم الزفاف "

 

توسعت عيناي أكثر بينما كنتُ أنظر ببلاهة وبصدمة كبيرة إلى الكاهن.. هل فعلا يتم زواجي الآن على خوان دي غارسيا!.. هل فعلا خوان لم ينتظر حتى الكاهن بأن يسأله إن كان موافقا على هذا الزواج!.. وهل فعلا سمعت خوان يوافق بدلا عني على هذا الزواج؟!.. وهل فعلا قال الكاهن الآن بأنني و خوان أصبحنا زوجا وزوجة؟!.. بلعت ريقي بقوة وفكرت.. أنا بالتأكيد تم قتلي وأتخيل ما يحدث الآن..

 

رأيت بجمود خوان يوقع على وثيقة الزواج, وعندما طلب مني الكاهن التوقيع على الوثيقة لم أستطع إمساك القلم بأصابعي المُرتعشة.. رأيت بذهول خوان يمسك يدي بقوة ثم وضع حبراً على أُصبعي الإبهام وجعلني أبصم على الوثيقة..

 

ووسط جمودي التام, رأيت خوان يُحرك الكُرسي المُتحرك ويُغادر القاعة بعد أن أمر صديقه ورئيس الحُراس لديه بصوتٍ حاد وبجدية

 

" خانتو, أخرج أريا من القاعة ورافقها إلى غرفتي "

 

نظرت إلى خوان نظرة أخيرة قبل أن يخرج من القاعة.. لم يكن هناك أي كلمات يمكنها أن تُعبر عن مشاعري في هذه اللحظة.. كنتُ أعلم بأنني سأعيش مع انتقام خوان الجديد, وبأنهُ سيترك ندبة جديدة في قلبي, وبأن هذه الندبة ستبقى داخل قلبي لبقية حياتي, ولكن أيضًا كان يوجد بداخلي أمل أن يتمكن خوان من الشفاء يومًا ما, وربما قد يُحبني وننسى الماضي ونعيش بسلام..

 

رافقت خانتو عبر ممرات قصر المتادور المهيبة, حيث كانت جدران القصر مزينة باللوحات والتماثيل التي تعكس تاريخ العائلة العريق.. كانت خطواتنا تتردد على الأرضية الرخامية في صوت خافت, وكأننا نسير نحو مصير مجهول.. وقفنا أمام باب خشبي كبير مزخرف بنقوش ذهبية, نظرت إلى خانتو بتوتر وهو يفتح الباب بهدوء..

 

نظرت إلى خانتو بتوتر, لكنهُ أومأ لي مشجعًا بينما كان يواسيني بنظراته الحنونة, وقال بنبرة هادئة وباحترام

" تفضلي, سنيورا دي غارسيا "

 

سنيورا دي غارسيا!.. ترددت تلك الكلمات بشكلٍ غريب في أذناي, خانتو كان أول شخص يقولها لي.. دخلت الغرفة بحذر, بينما أغلق خانتو الباب خلفي بهدوء..

 

خطوة واحدة فقط خطوتُها داخل الغرفة ووقفت في مكاني جامدة, بينما أنفاسي تسارعت وتوسعت عيناي بذعر عندما رأيت خوان جالسًا على الكرسي المتحرك وسط الغرفة, وتحديداً في المكان الذي سقط به جسده في تلك الليلة بعد أن اطلقت النار عليه.. كانت نظراته ثاقبة وقاسية ومخيفة, كانت نظراته مليئة بالكره والانتقام, جعلتني أخافها بشدة, وشعرت بالبرد يسري في عروقي..

 

قال خوان بصوتٍ ممتلئ بالسخرية

 

" مرحبا, زوجتي العزيزة.. لقد بدأ شهر العسل, ولكن أعدكِ بأنهُ سيكون مرًّا كمرارة الجحيم "

 

ظللت واقفة بجمود, كأن قدماي تجمدتا في مكانهما.. لم أستطع الحراك, خاصة بعدما هتف خوان بحدة

 

" اقتربي مني, أريا "

 

لكن لم أتحرك من مكاني, ما أثار غضب خوان أكثر, إذ هتف بغضب جنوني

 

" قلتُ لكِ اقتربي وقفي أمامي "

 

رغم غضبه ظللت جامدة في مكاني خوفاً منه, إذ عرفت بأنهُ يريد أذيتي..

 

شعر خوان بالغضب يتصاعد في صدره بسبب جمود أريا وعدم انصياعها لأوامره.. ضغط على زر في الكرسي المتحرك, مما جعله يتحرك بسرعة نحو أريا, حتى توقف الكرسي قريبا جدا منها.. أمسك خوان بمعصم أريا وجذبها بقوة, مما جعلها تنحني قليلاً أمامه.. نظر خوان بعمق في عينيها, ثم ابتسم بخبث وقال

 

" سأنتقم منكِ أشد انتقام, لأنكِ جعلتني مُقعداً.. سأحول حياتكِ إلى جحيم, أريا سيرانو.. ياه, كيف نسيت؟! لقد أصبحتِ مع الأسف أريا دي غارسيا منذ قليل.. أصبحتِ زوجتي وخادمتي إلى الأبد "

 

ابتسمت برقة بينما كنتُ أنظر في عمق عينيه بنظرات حنونة.. نظرة الحنان في عيني جعلت خوان ينظر إليّ بدهشة وبذهول.. وبنبرة رقيقة وحنونة قلتُ له

 

" لا أُمانع أن تتحول حياتي إلى جحيم طالما أنتَ بخير "

 

حرر خوان معصمي من قبضته, ثم دفعني لأبتعد عنه وصرخ بجنون وبغضب أعمى

 

" لا أريد شفقتكِ اللعينة "

 

حرك خوان كُرسيه إلى الخلف وأشار بيده نحو الأريكة في الزاوية وهتف بحدة

 

" من الآن وصاعداً, ستنامين على تلك الأريكة.. والآن, انزلي إلى الأسفل وأحضري لي وجبة الغذاء بنفسكِ "

 

لزمت الصمت وخرجت من الغرفة, وعيني متجهتان نحو الأرض, وتوجهت نحو مطبخ القصر لتنفيذ ما طلبهُ مني زوجي..

 

" زوجي... "

 

همست بحزن بتلك الكلمة بينما كنتُ أتذكر كيف كنتُ أحلم سابقاً بأن أكون زوجة السنيور خوان دي غارسيا.. لسخرية القدر تحقق حُلمي ولكن بطريقة قاسية ومؤلمة جداً..

 

وبينما كنتُ أدخل إلى المطبخ, نظرات الخدم كانت تتبعني بدهشة وهم يتهامسون بصوت خافت

 

" كم هي محظوظة, أصبحت زوجة السنيور خوان... ولكن ما الذي تفعله في المطبخ؟ صحيح هي زوجته بالاسم فقط.. ستبقى خادمة إلى الأبد داخل جدران هذا القصر "

 

تجاهلتهم وبدأت في تحضير وجبة الغذاء, عاقدة العزم على الصمود, على أمل بأن الأيام القادمة قد تحمل معها فرصة لتغيير المصير وتحقيق المصالحة مع الرجل الذي أحببتهُ بصدق لفترة طويلة جداً..

 

عندما انتهيت من تحضير الطعام, وضعت الأطباق على صينية وحملتها بعناية, وصعدت إلى غرفة خوان.. وقفت أمام الباب للحظات بينما كنتُ أُفكر.. بماذا سأنادي خوان الآن؟ هل أقول له خوان, أم سنيور؟ تنهدت بحزن وقررت أن أتصرف معه كخادمة.. فتحت الباب بهدوء ودخلت.. كنتُ أشعر بالتوتر الشديد, ولكن لم أدع ذلك يظهر على وجهي..

 

وضعت الصينية على الطاولة أمام خوان, وقلتُ له باحترام

 

" هذه وجبتُك, سنيور "

 

نظر خوان إليّ ببرود, ثم أومأ برأسه إشارة لي بالابتعاد.. وقفت بهدوء بجانب الأريكة, محاولة الاسترخاء ولو قليلاً.. وبينما كنتُ أنظر بحنان إلى خوان وهو يتناول طعامه بهدوء تام, كنتُ أعلم جيداً أن هذه مجرد بداية لطريق طويل وصعب أمامي..

 

ولكن في هذه اللحظة اتخذت قرار مصيري.. سأجعل خوان يُحبني ويعشقني بجنون.. سيرى منذ اليوم أريا أخرى.. أريا القوية والتي لن تنحني أمام انتقامه.. سيرى خوان دي غارسيا أريا مُختلفة تماماً عن الخادمة والفتاة المسكينة التي كانت تخافه وتصمت عن ما يفعلهُ بها..

 

الآن كنتُ مستعدة لمواجهته.. سأحصل على حُب خوان لي مهما كان الثمن.. والأهم سوف أُساعده لـ يُشفى من هذا الشلل.. الآن أنا مستعدة له...

 

 

خوان دي غارسيا**

 

في الصباح الباكر, كان الصقيع يغطي أوراق الشجر وأرضية الحديقة في قصر المتادور.. خرج خوان بهدوء من القصر إلى الحديقة, حيث كان خانتو يقف بجانبه بعد أن أوقف الكرسي المتحرك في مكان مريح يتيح لهما التمتع بمشهد الطبيعة.. الهواء كان باردًا ونقيًا, ولكن هناك رائحة خفية تنبئ بعاصفة ثلجية قادمة..

 

تنهد خانتو برقة, ثم قال

 

" خوان, الطقس يُنذر بعاصفة ثلجية قادمة, يجب أن نستعد لها.. ثم هل ترغب اليوم بالذهاب إلى الكازينو؟ يوجد أوراق وملفات مهمة تحتاج لتوقيعك "

 

جلست  مسترخياً على الكرسي المُتحرك, أتأمل المناظر الخلابة من حولي.. ارتسمت ابتسامة رقيقة على شفتاي بينما كنتُ استرجع في ذهني أحداث الليلة الماضية..

 

كانت أريا, زوجتي الشقية, قد ارتدت رداء نوم مثيراً أحمر اللون, جعل الرغبة تتفجر في عظامي عندما شاهدتُها وهي تخرج من الحمام بعد أن استحمت.. بشرتها اللامعة وجسدها المثير كان كالمغناطيس يجذب كل انتباهي.. كان ذلك القميص الفاخر من أفخم الماركات العالمية, هدية من جدتي العزيزة رامونا, التي رغم اعتراضها على زواجي من أريا, إلا أنها أمرت بإرسال ملابس جديدة تليق بزوجتي..

 

تذكرت كيف كانت أريا تمشي بدلال أمامي في الغرفة, خطواتها بطيئة ومدروسة, والجاذبية تشع من كل حركة تقوم بها..

 

تذكرت كيف حاولت السيطرة على رغباتي في تلك اللحظة, وكيف هتفت بوجه أريا بحدة

 

" أنتِ أيتُها البطة القبيحة, مهما فعلتِ لن تكوني جميلة في نظري.. سوف تظلين بطة قبيحة مهما حاولتِ.. توقفي عن المشي أمامي بتلك الطريقة السخيفة ونامي بسرعة "

 

تذكر كيف أجابتني أريا بهدوء وبوقاحة, بعينين تلمعان بالثقة

 

" أنا أعلم بأنني جميلة, ولا يهمني رأيك بي "

 

كانت تلك الكلمات كصفعة لي, كلماتها كانت تحمل في طياتها قوة وثقة بالنفس.. أعجبني جواب زوجتي الشقية, ورغم أنني حاولت أن أظهر أمام أريا بأنني غاضب, إلا أني كنتُ أُحارب لأمنع نفسي من الضحك..

 

في تلك اللحظة, تظاهرت بالغضب وهددتُها قائلاً

 

" إن لم تنامي بسرعة, سأعاقبكِ "

 

تذكرت جيداً كيف نظرت إليّ أريا بنظرات وكأنها تتحداني لفعل ما هددتُها به.. رأيتُها بقهر تلمس خصلات شعرها بطريقة ساحرة أغوتني بجنون.. شعرت برغبة جنونية بلمس خصلات شعرها الطويل واستنشاق رائحتهُ الجميلة.. أردت أخذ أريا في حضني وممارسة الجنس معها بجنون.. ولكن واللعنة لا أستطيع فعل ذلك.. ثم بقهر رأيت أريا تتسطح على الأريكة بطريقة مثيرة للغاية, ثم رفعت اللحاف بطريقة مثيرة وببطء على جسدها, ثم تنهدت برقة وأغمضت عينيها.. جعلتني بحركاتها تلك أحترق بجنون من الرغبة..

 

تذكرت بهدوء كيف ظللت مستيقظاً لفترة طويلة بعد ذلك, أتأمل أريا وهي نائمة على الأريكة.. كانت تبدو كزهرة القمر الجميلة, ملامحها هادئة وأنفاسها منتظمة.. كانت تلك اللحظات تعج بمشاعر متناقضة في داخلي, بين الغضب والانتقام, الرغبة والرفض.. كانت أريا تتمتع بجمال فريد وثقة كبيرة بنفسها, رغم كل ما حدث بيننا..

 

جمال أريا كان يثير بداخلي شعورًا بالهدوء والسلام.. ابتسمت برقة بينما كنتُ أتذكر تلك اللحظات, وكيف أن وجودها في حياتي رغم كل التحديات, كان يجلب لي نوعًا من السعادة الغامضة..

 

بعد تذكرهِ لكل تلك التفاصيل, عاد خوان إلى الحاضر, وما زالت الابتسامة تزين وجهه.. نظر إلى خانتو الذي كان يقف بجانبه وهو يراقبهُ بصمت..

 

تنهدت بقوة, وأجبت خانتو على سؤاله لي منذ قليل

 

" نعم, يجب أن أذهب إلى الكازينو.. لقد أهملت عملي لأسبوعين, وحان الوقت لأعود إلى مملكتي الخاصة وأهتم بها شخصياً "

 

كانت أفكاره متشابكة بين الحاضر والماضي، بين الغضب وبين الألم والأمل.. ومع كل هذا, كنتُ أعلم أن العاصفة الثلجية القادمة لم تكن فقط في الطقس, بل أيضًا في حياتي وحياة أريا.. ولكن مع كل التحديات, كنتُ مصممًا على مواجهة كل شيء, حتى وإن تطلب الأمر أن أواجه رغباتي ومشاعري المتناقضة..

 

فجأة, سمعت خانتو يُكلمني بصوتٍ مُنخفض قائلا

 

" هل عرفت بما حدث في الأمس مع المتادور والبروفيسورة؟ "

 

نظرت إليه بسرعة وسألته بتعجُب

 

" ماذا حدث بين سلفادور وتلك البروفيسورة الجميلة؟ تكلم بسرعة "

 

ابتسم خانتو بوسع وقال بصوتٍ مُنخفض حتى لا يسمعهُ الحراس

 

" اشتعل القصر في ليلة الأمس بالخبر.. سنيور سلفادور صعد إلى جناح جدتك رامونا وتشاجر معها.. كما فهمت من الخادمة الخاصة بجدتك, بأن ابن عمك المتادور قد مارس الجنس مع البروفيسورة الجميلة.. و... "

 

قاطعتهُ هاتفاً بتوتر وبعصبية

 

" وماذا بعد؟ تكلم واللعنة "

 

ابتسم خانتو بوسع وقال بهدوء

 

" لينيا هارفين, كانت عذراء.. سلفادور كان أول رجل يحصل عليها وعلى عذريتها "

 

توسعت عيناي بصدمة بينما كنتُ أنظر إليه.. سقط فكي إلى الأسفل وهمست بذهولٍ شديد

 

" ما اللعنة!.. كانت عذراء!!.. هل أنتَ متأكد من معلوماتك؟ "

 

أجابني خانتو بهدوء

 

" طبعاً متأكد.. خوسي, الحارس الشخصي لجدتك مع خادمتها الخاصة, تم طردهم في ليلة الأمس من جناح جدتك من قبل المتادور.. خوسي خرج من القصر وهو يرتعد من الخوف بسبب غضب المتادور.. أما خادمة جدتك كانت تبكي بفزع وهي تقول بأن كارثة ستقع على رؤوس الجميع قريبا لآن البروفيسورة الجميلة كانت عذراء.. ثم فجأة نزلت الجدة إلى الطابق الأرضي وجمعت الخدم أمامها وهددتهم بعدم التفوه بكلمة واحدة عن ما حدث.. ومنذ قليل خرج المتادور من القصر وأعطى أوامر صارمة بأنهُ يريد من جميع أهالي القرية وأفراد عشيرته بالتجمع أمام القصر في الساعة الخامسة والنصف بعد ظهر اليوم "

 

هززت رأسي بخفة, ثم ضحكت بسعادة.. عندما توقفت عن الضحك نظرت باستمتاع إلى صديقي وقلتُ له

 

" ابن عمي, كم هو محظوظ.. كما توقعت سابقاً, البروفيسورة الجميلة بريئة جداً ومن المستحيل أن يكون لها أي علاقة بموت بينيتو.. يبدو بأن الأيام القادمة ستكون ممتعة جداً في قصر الجوهرة "

 

نظرت إلى خانتو بتسلية, وتابعت قائلا بسعادة

 

" يجب أن نذهب الآن إلى كازينو, ولكن في الساعة الخامسة بعد الظهر يجب أن نكون هنا.. أريد أن أرى بنفسي ما سيفعلهُ سلفادور "

 

ثم ذهبت برفقة خانتو ورجالي إلى الكازينو.. وفي تمام الساعة الخامسة بعد الظهر, كان خانتو يُساعدني بالجلوس على الكرسي المُتحرك بعد أن حملني بذراعيه وأخرجني من السيارة.. وما أن جلست على الكُرسي رأيت البروفيسورة الجميلة تخرج من مبنى الحُراس..

 

هتفت باسمها بقوة, فنظرت لينيا إليّ واقتربت ووقفت أمامي.. نظرت إلى خانتو وعلى الفور فهمَ ما أريده وابتعد وتركني بمفردي مع لينيا الجميلة..

 

" مرحباً سنيور خوان, رغم أنني حزينة بما حدث لك, لكنني سعيدة بأنك بخير "

 

شكرتُها بهدوء, ثم سألتُها بفضول

 

" بروفيسورة, ما هي العلاقة التي كانت تجمعكِ بالمرحوم بينيتو؟ لا تكذبي عليّ سنيوريتا, فأنا أعلم بما حدث بينكِ وبين ابن عمي في الأمس "

 

احمر وجه لينيا بشدة من الخجل, ورأيتُها تُشيح نظراتها إلى البعيد.. ثم همست بصوتٍ مُنخفض

 

" ربما من الأفضل لك سنيور أن تهتم بزوجتك أريا حالياً.. لقد عرفت منها اليوم بأنكما تزوجتما في الأمس.. أو يمكنني القول بأنك أجبرتها على الزواج منك "

 

ثم نظرت لينيا إليّ بنظرات جادة, وتابعت قائلة

 

" أنا أعرف بما فعلته بـ أريا.. وما فعلته أنت لا يمكن غفرانه أو المسامحة عليه.. أريا إنسانة عظيمة, ومن حُسن حظك بأنها أصبحت زوجتُك.. عاملها مُعاملة حسنة لأنها تستحق منك ذلك.. والآن أعذرني سنيور, يجب أن أذهب "

 

حاولت لينيا التحرك والابتعاد عني, لكن أمسكت بسرعة معصمها وجعلتُها تقف في مكانها.. نظرت لينيا إلى معصمها, ثم أبعدت يدها عن قبضتي ووقفت جامدة تنظر إليّ بانتظار ما سأقولهُ لها..

 

تنهدت بخفة, ثم قلتُ لها بجدية

 

" بروفيسورة, أنتِ لا تعرفين ما فعلتهُ من أجل أريا رغم أنها أطلقت النار عليّ وكادت أن تقتلني.. ولا تــ... "

 

قاطعتني لينيا قائلة بسرعة وبنبرة غاضبة ولكن بصوت مُنخفض حتى لا يسمعنا الحُراس

 

" لا سنيور, لا تُحاول تبرير أفعالك أمامي.. لقد اغتصبتها لأكثر من مائة مرة.. اغتصبتَ روحها قبل أن تغتصب جسدها.. أنتَ لا تعرف ما تشعر به المرأة أو أي فتاة عندما يتم اغتصابها.. أي فتاة تتعرض للاغتصاب أو للتحرش الجنسي تخسر جزءً كبيراً من روحها قبل أن تخسر جسدها وشرفها.. "

 

توقف لينيا عن التكلم, ثم أخذت نفسًا عميقًا, محاولة جمع شجاعتها لتبدأ الحديث.. نظرت إليّ بنظرات جادة قائلة

 

" أريد أن أشرح لك شيئًا, شيئًا مهمًا جدًا.. شيء قد لا تفهمه بالكامل لأنك لم تعش تلك التجربة "

 

نظرت إليها بتركيز, مستعدًا للاستماع..


رواية المتادور - قصل 26 - التهديد

 

ثم سألتُها بصوتٍ هادئ

 

" ما هو؟ "

 

تأملتني البروفيسورة الجميلة بنظرات هادئة وجادة..


رواية المتادور - قصل 26 - التهديد

 
 

ابتلعت لينيا ريقها وأغمضت عينيها للحظة, مسترجعة الذكريات الأليمة التي كانت تحاول دفنها.. ثم نظرت إلى خوان وقالت بنبرة حزينة

 

" عندما تتعرض المرأة للاغتصاب أو التحرش الجنسي, لا يكون الألم جسديًا فقط.. إنه يدخل إلى أعماق روحها, يمزقها من الداخل.. تشعر بالذل, بالخزي, بالخوف الذي لا ينتهي... "

 

لاحظت أن عينيها بدأت تلمعان بالدموع, لكن لم أُحاول مُقاطعة حديثها.. سمعتُها بحزن تتابع قائلة بألم وبعذاب

 

" تخيل أن شخصًا ما يأخذ شيئًا ثمينًا منك, شيئًا لا يمكن استعادته أبدًا.. ذلك الشعور بالخيانة, بالعجز, بالضعف.. تتحول كل لمسة, كل نظرة, إلى تذكير دائم للمرأة بما حدث معها.. تبدأ المرأة في الشك في نفسها, في قيمتها.. يتحول كل يوم بالنسبة لها إلى معركة للبقاء قوية, للعيش مع الألم الذي لا يمكن التخلص منه "

 

ابتلع خوان ريقه بقوة, وأحس بثقل الكلمات التي قالتها.. وسمع لينيا تقول بأسى

 

" لكن الرجل الذي يغتصب المرأة أو يتحرش بها جسدياً, لا يُفكر بما سيحدث مع المسكينة عندما يكتفي من فعلته الشنيعة معها.. لا يُفكر بما سيحدث معها, أو كيف ستعيش بعد انتهاء تلك التجربة المريرة والمؤلمة "

 

تنهدت لينيا بحزن, وبينما كنتُ أنظر إليها بتوتر وبجمود, تابعت قائلة بحزن

 

" سنيور خوان, لا يمكنك أن تجعل أريا تعيش تلك التجربة مرة أخرى.. ولكن يمكنني أن أشرح لك كيف ستشعر أريا إن عُدتَ واغتصبتها من جديد.. سوف تكسرها عندما يحدث ذلك, ستشعر بأن جسدها وكأنه ملك لشخص آخر, كأنها فقدت السيطرة على نفسها.. يصبح من الصعب عليها الوثوق بأي شخص, حتى أولئك الذين يحبونها ويدعمونها "

 

توقفت لينيا للحظة لتلتقط أنفاسها وتجمع أفكارها.. ثم تابعت بحزن قائلة

 

" الأمر ليس فقط في تلك اللحظة المروعة, بل في كل لحظة بعدها ستعيشها معك.. حياتها سوف تتحول إلى كابوس, وسيتحول كل صوت مفاجئ, كل لمسة منك إلى خوف ونفور.. ولن تنسى ما فعلتهُ معها مهما حاولتَ محوه, سوف تتذكر كل مرة تمر فيها بجانب مكان يُذكرها بما حدث بينكما.. يصبح العالم مكانًا مخيفًا ومظلمًا بالنسبة لها "

 

نظرت إلى الأرض, مشوشًا ومتحيرًا.. وفكرت بحزن وبمرارة.. أنا... أنا لم أكن أعلم.. لم أفكر في الأمر بهذه الطريقة.. كنتُ أُفكر في الغضب, في الانتقام, وبأنها لي أنا فقط.. ولكن لم أفكر أبدًا في الألم الذي تشعر به أريا بسبب ما فعلتهُ بها..

 

نظرت إلى لينيا, رأيتُها تتأملني بنظرات حزينة.. ثم سمعتُها تقول بنبرة حزينة

 

" الغضب لن يعيد ما ضاع.. الانتقام لن يشفي الجروح العميقة.. ما تحتاجه المرأة التي تمر بتلك التجربة هو الدعم, والتفاهم, والحب.. تحتاج إلى أن تشعر بأنها ليست وحدها, بأن اللوم لا يقع عليها بسبب ما حدث معها "

 

نظرت في عمق عينيها, رأيت في عينيها القوة والألم والتصميم.. تنهدت بحزن وسألتُها

 

" ماذا يمكنني أن أفعل؟ كيف يمكنني أن أكون أفضل معها؟ "

 

أمسكت لينيا يدي وضغطت عليها برفق.. ثم قالت بنبرة حنونة

 

" أول خطوة هي التفاهم, ثم الاعتراف بالذنب والألم الذي تسببتَ فيه, حتى ولو بشكل غير مباشر.. ثم, قدم لها الدعم والحب.. كن موجوداً من أجلها, دعها تعلم أنها ليست وحدها.. هذا هو بداية الشفاء.. ثم أنتَ سنيور تُحبها, لن يكون صعباً عليك مسامحتها لأنها جعلتك مُقعداً.. ثم لا تغضب مني, لكنك كنتَ تستحق تلك الرصاصة منها "

 

رفعت حاجبي عالياً ونظرت إليها بحدة, ثم قلتُ لها بغرور

 

" ومن قال لكِ بأنني أُحب أريا؟ أنا لا أُحبها.. هي فقط تُعـــ.... "

 

قاطعتني لينيا قائلة بسرعة وهي تُبعد يدها عن يدي

 

" لا تُحاول الكذب عليّ سنيور.. على الأقل لا تكذب على نفسك.. أنتَ تُحبها وإلا ما كنتَ تزوجتها في الأمس حتى تنقذها من الموت.. عليك أن تُحاول أن تكون مُتفهما مع أريا, وحنوناً.. هي تحتاج إليك الآن أكثر من السابق "

 

نظرت إليها بذهول بينما كنتُ أُفكر.. أنا أُحب أريا؟! لا! لا بالتأكيد.. أنا فقط مُعجب بها..

 

ابتسمت لينيا بحنان وقالت

 

" هذا كل ما تحتاجه, سنيور خوان.. أن تحاول.. وأتمنى أن تجد في قلبك القدرة على تغيير الأمور نحو الأفضل بينك وبين أريا "

 

استدارت لينيا لتذهب.. شهقت بخفة, وسألتُها بسرعة

 

" سنيوريتا, انتظري لحظة.. هل كنتِ تحبين بينيتو؟ "

 

التفتت لينيا ونظرت إليّ بحزن, ثم قالت بصوتٍ مُرتعش

 

" نعم, لقد أحببته.. لكن, حُبي له كان حُب من نوع آخر "

 

سألتُها بسرعة قبل أن تتحرك وتبتعد من أمامي

 

" أنتِ لا ذنب لكِ بموته؟ أليس كذلك سنيوريتا؟ "

 

تنهدت لينيا بقوة, ثم همست بحزن وبألم واضح

 

" كنتُ السبب في موته وموت روحي "

 

نظرت إليها بدهشة كبيرة بينما كانت تمشي بخطوات بطيئة وهي تبتعد وتخرج من بوابة القصر الخارجية.. ولم أفهم ما كانت تقصده بكلماتها الأخيرة.. لكن بداخلي عرفت بأنها بريئة ولا دخل لها بما حدث لـ بينيتو...

 

 

لينيا**

 

في جناح المتادور, كانت لينيا تجلس على السرير, تتوسد كفيها وجهها المبتل بالدموع.. صوت المياه الجارية في الحمام كان يزيد من وحدتها وألمها.. كانت قد سمعت كلمات سلفادور الأخيرة قبل دخوله إلى الحمام, تلك الكلمات التي اخترقت قلبها كالسهم الناري.. ما كان سيلمسها لو عرف بأنها عذراء..

 

كنتُ أجلس عارية على سريره بينما كنتُ أنظر إلى الأسفل بين فخذي نحو بقعة الدماء على الشرشف الناصع البياض..

 

تلك الدماء كانت دماء عذريتي, التي خسرتُها منذ قليل.. لقد سلمت سلفادور روحي وقلبي وعذريتي الليلة.. سلمتهُ جسدي وأنفاسي.. سلمتهُ كياني بكامله ليكون لهُ فقط..

 

تذكرت بمرارة الماضي وما حدث بيني وبين بينيتو.. رفعت يدي ووضعتُها على فمي لأكتم شهقاتي المتألمة..

 

كان الألم لا يوصف, خنجرًا يمزق قلبي بلا رحمة.. شعرت بالذل والخجل, وشعرت بكم كان حُبي أعمى وساذجًا.. وقفت ببطء, ارتديت ملابسي بسرعة, وغادرت جناح المتادور بخطوات متعثرة.. لم ألتفت خلفي, كان كل ما يهمني هو الهروب من هذا المكان الذي أصبح فجأةً مسرحًا لأحلامي المحطمة..

 

خرجت من القصر وتوجهت إلى مبنى الحراس, حيث كانت غرفتي البسيطة ملاذي الوحيد.. صعدت السلم بخطوات ثقيلة, وعندما دخلت إلى غرفتي, انهرت على الأرض وبدأت بالبكاء بحرقة.. الدموع كانت تسيل بلا توقف, تعبيرًا عن الألم الداخلي الذي كنتُ أُعاني منه..

 

بينما كنتُ أبكي فكرت بـ سلفادور, الرجل الذي أحببته بكل كياني.. لم أندم لأنني سلمت نفسي له, لأنهُ كان حلم حياتي.. ولكن كنتُ حزينة لأنهُ ندم بعد ما حدث بيننا.. كنتُ أمل بسذاجة أن يعترف بحبه لي عندما يكتشف أني عذراء, وينسى الانتقام, ويتزوجني.. كنتُ أتخيل حياة سعيدة وأبدية معه, ولكن لم يحدث ما كنتُ أتمناه الليلة..

 

ظننت للحظة بأنهُ يُبادلني المشاعر, بأنهُ يُحبني كما أحبه.. ظننت بأنهُ عندما يعلم بأنني عذراء ولم أكن عشيقة بينيتو سيعترف بحبهُ الكبير لي.. لكن سلفادور شعر بالندم وقام بلوم نفسه لأنهُ لمسني..

 

ولكن لا ذنب لهُ بما حدث الليلة, اللوم الوحيد يقع عليّ لأنني بغباء سلمتهُ قلبي وجسدي و روحي..

 

مسحت دموعي ونظرت أمامي بألمٍ كبير, ثم همست بانكسار

 

" كنتُ غبية فعلاً, ظنوني كلها كانت مُجرد أوهام وأحلام لن تتحقق أبداً.. ما كان يجب أن أستسلم له.. لكن بسبب عشقي الكبير له كان من المستحيل عليّ مقاومته والرفض "

 

شعرت باليأس الشديد بينما كنتُ أبكي.. نظرت أمامي بتوتر, وهمست بيأس

 

" ماذا سيحدث الآن بعد أن اكتشفَ بأنني كذبت عليه؟ ماذا سيفعل سلفادور؟ بالطبع سيرغب بمعرفة ما حدث في تلك الليلة.. لكن لن أستطيع إخبارهُ الحقيقة, لقد وعدت بينيتو بذلك "

 

توقفت عن البكاء ثم وقفت ومشيت بخطوات بطيئة ثم جلست على السرير..

 

ظللت مستيقظة لوقت طويل, أُفكر بحزن في المستقبل.. كنتُ أخشى مما سيفعله سلفادور بعد أن اكتشف أنني كذبت عليه بشأن علاقتي بشقيقه الراحل بينيتو.. كنتُ أعلم أن الأمور ستزداد تعقيدًا, وكنتُ أتوقع الأسوأ.. لذلك فكرت قبل أن أنام بأنه يجب عليّ أن أتحضر نفسياً وجسدياً ومعنوياً لمواجهة ردة فعل سلفادور..

 

في الصباح الباكر, استيقظت على صوت خطوات في غرفتي.. رفعت رأسي بسرعة لأجد أريا تقف أمام السرير..

 

"  أريا! "هتفت بسعادة, ونهضت واحتضنت صديقتي بقوة..

 

جلست أريا بجانبي على السرير, وبدأت تتحدث بسرعة عما حدث معها في الأمس مع خوان.. كانت قصتها أشبه بقصة خيالية, كنتُ أستمع إليها بانتباه وتركيز كبير, ولم أستطع التصديق عندما قالت لي بأنها تزوجت في الأمس من السنيور خوان..

 

توسعت عيناي وهتفت بصدمة كبيرة

 

" تزوجتِ منهُ في الأمس؟ "

 

أومأت أريا موافقة ولزمت الصمت.. ابتسمت بحنان, ثم أمسكت يد أريا, وقلتُ لها بجدية

 

" أريا, عليك أن تكوني قوية.. إذا كنتِ ما زلتِ تحبين خوان وسامحته فعلاً, عليكِ أن تكوني ذكية.. تعاملي معه بحذر, وحاولي أن تجعليه يقع في حبك من جديد.. اجعليه يندم على ما فعله بكِ "

 

قهقهت أريا بخفة, ثم قالت بجدية

 

" أنا بالفعل سأفعل ما قلتهِ لي للتو.. انتظري قليلا لأخبركِ ما حدث بيننا "

 

سمعتُها بذهول تُخبرني بما فعلته مع خوان وكيف قررت أن تكسب حُبهُ لها وتجعلهُ يندم على كل ما فعلهُ بها, ثم ستغادر هذا القصر معه ومع أشقائها الثلاثة وتعيش بسعادة وإلى الأبد مع خوان وتُمحي الماضي وأحزانه..

 

وافقت على قرارها, وأخبرتُها بأنني سأدعمها وأُساعدها في أي وقت.. ابتسمت أريا بسعادة, ثم فجأة وقفت وهتفت بمرح

 

" بالمناسبة, ساريتا موجودة مع والديها في قصر المتادور.. زفافها سيكون بعد ثلاثة أيام على سنيور ميغيل استرادا, وهو صديق المتادور المُقرب.. لقد رأيتُها في الليلة التي أطلقت بها النار على خوان, ونسيت أن أخبركِ بذلك عندما كنا في الزنزانة "

 

توسعت عيناي وهتفت بدهشة كبيرة

 

" ساريتا, هنا؟ لم أتوقع هذا.. اوه, لقد انهارت بسبب رجل عندما كنا في الفندق, لكن يبدو أن الأمور قد تحسنت بينهما, إذ سوف تتزوج قريبًا منه.. أتمنى لها السعادة, وأتمنى طبعا أن يكون يُحبها وبصدق ذلك المدعو ميغيل "

 

تأملتني أريا بنظرات غريبة, ثم قالت بجدية

 

" سنيور ميغيل رجل شهم ومحترم.. لا أظن بأنهُ الرجل الذي أذى المسكينة ساريتا.. ولكن طبعا أتمنى لها السعادة الأبدية مع صديق المتادور "

 

ابتسمت لينيا برقة, ورغم الحزن الذي كانت تشعر به بسبب ما حدث مع سلفادور, إلا أن خبر زواج أريا وزواج ساريتا أعطاها شعوراً بسيطاً بالسعادة.. كانت تأمل أن تجد ساريتا و أريا السعادة التي يستحقانها, وربما كانت تأمل في أعماق قلبها أن تجد هي أيضاً السعادة يوماً ما مع سلفادور..

 

بعد أن غادرت أريا الغرفة, ظلت لينيا جالسة بهدوء, تفكر بحزن في حبيبها سلفادور.. كان هناك صراع داخلي بين مشاعرها المتناقضة, الحب العميق الذي تشعر به تجاهه, والألم الناجم عن كلماته الجارحة..

 

كان حبها له عميقًا, ولكن الألم الذي سببهُ لها كان أعمق.. كانت تعلم أن الطريق أمامها سيكون مليئًا بالتحديات, ولكنها كانت مصممة على المواجهة.. كانت تفكر في كيفية التعامل مع مشاعرها المتضاربة, وكيف يمكنها أن تستعيد سعادتها يومًا ما..

 

وفي الساعة الخامسة بعد الظهر, خرجت لأتمشى قليلا قرب القصر.. ولكن ما أن خرجت من المبنى حتى سمعت سنيور خوان ينده باسمي.. اقتربت ووقفت أمامه وتكلمت معهُ بصراحة مُطلقة, ثم ابتعدت عنه وبدأت أمشي بشرود على الرصيف..

 

تقدمت لينيا بخطى هادئة, تمشي على ممرات القرية المتعرجة بينما كانت الشمس تستعد لتغيب وراء الأفق, تاركة السماء تتزين بألوان الغروب الدافئة, حيث كانت الشمس تلقي بظلالها الذهبية على قرية اكستريمادورا الجميلة..

 

كان الهواء لطيفًا وعبقًا برائحة زهور النرجس البرية التي نمت على جانبي الطريق, فهذه الزهور البرية الجميلة كانت تنمو في فصل الشتاء..

 

وقفت ونظرت بحزن إلى زهور النرجس الجميلة.. رغم جمال هذه الزهور إلا أن نبات النرجس يقتل أعداءه, فهو يقتل أي نبات ينمو بجواره, والنرجس نبات له أنواع كثيرة.. يظهر في الشتاء وبعد نزول المطر.. والنرجس أحد أكثر الزهور شعبية في العالم, وخاصة في إسبانيا..

 

وبينما كنتُ أنظر إلى تلك الأزهار الجميلة تذكرت الأساطير المُرتبطة بها, فهناك عدة أساطير قيلت عن هذه الزهرة.. ابتسمت بحزن وتذكرت تلك الأساطير الجميلة والحزينة..

 

كان نرجس أو نركسوس شابًا وسيمًا وقع في حب انعكاس صورته في بركة من الماء, ومات وهو يُحدق بصورته بحزن دون أن يعلم بأنها انعكاس لوجهه كعقاب على غروره ولأن الحورية إيكو والتي يعني اسمها الصدى قد ماتت بسببه بعض رفضهِ لها.. وبعد موت نركسوس, أشفقت الآلهة عليه ولم ترغب بالتفريط في جسده الجميل, فقررت تحويله إلى زهرة النرجس..

 

تنهدت بحزنٍ عميق بعد تذكري لتلك الأسطورة الجميلة والحزينة عن زهرة النرجس.. نظرت إلى الزهرة وهمست بحزن

 

" ربما حُبي الكبير لـ سلفادور سيظل مُجرد صدى.. صدى لا يسمعهُ سوى قلبي المُحطم "

 

تابعت لينيا السير بخطوات هادئة على الطريق الترابي المؤدي إلى المرعى وهي تفكر في أحداث الليلة الماضية.. خطواتها كانت بطيئة وثابتة, تحمل في طياتها مشاعر مختلطة.. عندما أهدت قلبها وجسدها لـ سلفادور, الرجل الذي استحوذ على كل جزء من كيانها بحبها الجارف له..

 

فكرت لينيا في الليلة الماضية, الليلة التي سلمت فيها نفسها للمتادور سلفادور, ليس كرهاً أو خوفاً, بل برضاها الكامل وعشقها الكبير له.. كل لحظة أمضتها معه كانت محفورة في ذاكرتها, مشبعة بالحب والتوتر, وكأن الزمن توقف لهما فقط..

 

وقفت لينيا خلف السياج, ونظرت بشرود إلى المرعى الممتد أمامها.. هنا, تذكرت اليوم الذي أنقذها فيه سلفادور من الثور الشرس هاغون, ذلك الثور الوحش الذي كانت شراسته مضرب الأمثال في القرية.. تذكرت كيف وقف سلفادور بشجاعة أمام الثور الهائج, وكيف سيطر على الموقف بحرفية المتادور الذي لا يعرف الخوف, حتى أسقط الثور في النهاية.. كانت تلك اللحظة التي عرفت فيها أن حبها له ليس مجرد حُب عادي وإعجاب, بل عشق حقيقي لا يعرف الحدود.. سلفادور لم يكن مجرد متادور, بل فارسها الشجاع الذي سيظل في قلبها إلى الأبد..

 

استدارت لينيا عائدة باتجاه القصر, وعيناها لا تزالان غارقتين في ذكرياتها.. لكنها لاحظت شيئًا غريبًا.. أهالي قرية اكستريمادورا كانوا ينظرون إليها بنظرات حزينة.. كانت تلك النظرات تلاحقها أينما ذهبت, وكلما اقتربت من شخص, كان يحني رأسه للأسفل ويبتعد عنها.. كان المشهد غريبًا ومخيفًا بعض الشيء, وكأن الجميع يحملون سرًا ثقيلًا يخشون البوح به أمامها..

 

تقدمت بخطوات مترددة نحو قصر المتادور, وقلبي ينبض بسرعة من القلق والحيرة.. لم أفهم سبب تلك النظرات الحزينة التي تُلاحقني من الجميع.. كلما اقتربت أكثر, زاد الشعور بالغموض من حولي.. عند وصولي إلى البوابة الخارجية العملاقة للقصر, توقفت فجأة وتجمدت في مكاني.. أمامي, كانت تقف مجموعة من رجال عشيرة دي غارسيا وبعض من أهالي القرية, جميعهم في ساحة القصر الكبيرة برفقة أم العشيرة رامونا..

 

رأيت الجميع ينظرون بذهول إلى القصر, كانت نظراتهم مذهولة وصامتة.. وعندما انتبهوا لوجودي, لزموا الصمت ونظروا إليّ بنظرات مصدومة ثم تحولت تلك النظرات إلى حزن عميق, وفجأة انحنوا برؤوسهم إلى الأسفل وكأنهم يشعرون بالعار..

 

كنتُ مذهولة, لا أفهم سبب تلك التصرفات الغريبة.. نظرت بتعجب إلى أم العشيرة رامونا دي غارسيا التي لم تُبعد نظراتها المصدومة عني, بينما كان وجهها شاحبًا للغاية, وكأنها شهدت حدثًا لم تتوقعهُ أبدًا..

 

تساءلت في داخلي لماذا ينظرون إليّ بهذه الطريقة, وكأنهم نادمون على شيءٍ ما.. لماذا كانت الجدة رامونا تنظر إليّ بتلك النظرات المصدومة؟ كانت تلك التساؤلات تزداد غموضًا في عقلي, وفي محاولة مني لفهم ما يجري, حركت رأسي ببطء شديد ونظرت إلى القصر..

 

في هذه اللحظة, أطلقت شهقة مصدومة بسبب ما رأيته.. لم أستطع تصديق ما تراه عينيّ, كان المنظر يخالف جميع توقعاتي..


رواية المتادور - قصل 26 - التهديد

 

رأيت سلفادور, ماتادور دي توروس القوي, يقف أمام مدخل قصره الرئيسي, ولكن ليس كما كنتُ أتوقع.. كان سلفادور محاطًا ببعض من رجال عشيرة دي غارسيا وأهالي القرية, وكانت على وجهه علامات الحزن والتصميم.. في يده, كان يحمل علم العشيرة مقلوبًا, وهي إشارة واضحة على العار الذي لحق بالعشيرة..

 

لم أتخيل للحظة واحدة أن يفعل المتادور سلفادور ذلك.. ألقى العلم على الأرض أمام الجميع, وصاح بصوت مُرتفع

 

" هذا هو الثمن الذي ندفعه عندما نخون الثقة, عندما نتستر على الظلم "

 

ثم استدار ونظر إليّ بعينين مليئتين بالألم, وكأنهُ يحمل كل ثقل العالم على كتفيه.. ثم حرك سلفادور رأسهُ إلى الأعلى ونظر باتجاه سطح القصر.. رفعت ببطءٍ شديد نظراتي إلى الأعلى, وفجأة, تجمدت نظراتي على شيء جعلني أتجمد في مكاني بذهولٍ شديد..

 

توسعت عيناي ونظرت بصدمة كبيرة نحو سطح القصر.. شعرت بالدموع تملأ عيني.. لم أعرف ماذا أفعل, ولم أستطع التفكير بوضوح.. كل ما كنتُ أشعرُ به هو الألم العميق في قلبي والحزن الذي غمر روحي..

 

كانت الشمس على وشك المغيب, تلون السماء بألوان زاهية من البرتقالي والأرجواني, عندما وقفت لينيا بجمود وسط ساحة القصر أمام أهالي القرية ورجال عشيرة دي غارسيا.. كانت ترفع رأسها عاليا, ولكن عينيها كانت تحدقان بصدمة كبيرة نحو شرشف السرير الذي تم تعليقه على حافة سطح القصر.. كان الشرشف يتدلى بهدوء إلى الأسفل, كاشفاً عن العلامة الحمراء, دماء عذريتها, التي أثبتت براءتها أمام الجميع..

 

وقفت جامدة تماماً في مكاني, شعرت بأنني أختنق بينما كنتُ أنظر إلى الشرشف بتوتر وبصدمة كبيرة, كنتُ أتأمل الدليل القاطع على عذريتي, ولكن لم أكن بمفردي, بل أمام أهالي القرية بأكملهم..

 

تساءلت بحزنٍ دفين بداخلي, لماذا فعل سلفادور ذلك؟ لماذا جعلني أقف أمام رجال عشيرته وأهالي القرية بهذا الموقف المُحرج والمؤلم لقلبي..

 

لكن قبل أن أستوعب المزيد, قطع سلفادور حبل أفكاري بصوته العالي وهو يهتف قائلا بملء صوته أمام الجميع

 

" لقد وضعت أمامكم جميعاً اليوم إثباتاً على براءة لينيا هارفين, وأنها لم تكن عشيقة شقيقي.. جميعكم تعلمون ما يعنيه شرف المرأة لعائلتي وخاصةً بالنسبة لي بالتحديد "

 

كان صوته قوياً وحازماً, وكانت نظراته موجهة نحوي.. توقف سلفادور عن التكلم عندما نظرت إليه بحزنٍ عميق وبخيبة أمل.. ولكن قبل أن يلتفت نحو الجمع هتف قائلاً بتصميم

 

" زفافنا سيكون غداً في تمام الساعة الثالثة والنصف في كنيسة القرية.. لينيا هارفين, ستصبح زوجتي رسمياً في الغد "

 

شحب وجهي بشدة, وخرجت شهقة عميقة من فمي, بينما عقلي كان يُردد كلمتين بصدمة كبيرة.. زفاف! زوجته!..

 

تجمدت الدماء في عروقي بينما كنتُ أنظر إلى سلفادور بصدمة لا مثيل لها.. ووسط صدمتي الكبيرة, تابع سلفادور حديثه قائلا بنبرة حازمة وقوية

 

" لينيا هارفين ستكون زوجتي وأم أطفالي.. وعلى الجميع احترامها ومعاملتها معاملة تليق بـ سنيورا دي غارسيا "

 

وسط الصدمة الكبيرة التي كنتُ أعيشها في هذه اللحظة, استمعت إلى سلفادور وهو يعلن أمام الجميع بأنني سأكون زوجته وأم أطفاله, ويطالب الجميع باحترامي ومعاملتي بما يليق بـ سنيورا دي غارسيا.. كانت الكلمات ترن في أذناي  كصدى بعيد, لا أستطيع استيعابهُ بالكامل..

 

اقترب سلفادور ووقف أمامي وأمسك بذراعي, بينما أنا كنتُ واقعة تحت تأثير الصدمة.. جذبني باتجاه القصر وصعد إلى الطابق الثاني.. دخل إلى الغرفة الفخمة التي خصصها سابقاً لي.. بمجرد دخولنا إلى الغرفة, شهقت بقوة إذ كنتُ قد استيقظت من الصدمة.. نظرت إلى سلفادور بنظرات حزينة ثم بنظرات قاتلة وغاضبة, وهتفت بوجهه بكلمات مليئة بالغضب والألم

 

" أنتَ مجنون! من المستحيل أن أوافق على هذا الزواج.. هل فقدتَ عقلك؟ ثم لماذا قمتَ بإزلالي؟ لماذا وضعتَ الشرشف على سطح قصرك وجعلتَ الجميع يُشاهدون دماء عذريتي؟ لقد أهنتني أمام أهالي قريتك وأفراد عشيرتك.. لماذا فعلتَ ذلك بي؟ لماذا؟  "

 

اقترب سلفادور مني وأمسك بكتفي, هزني بخفة ثم ضمني بقوة إلى صدره.. قرب وجهه من وجهي وهمس بحدة بينما كان ينظر في عمق عيناي الحزينتين

 

" ساكورا, ستكونين زوجتي في الغد, لأنكِ أصبحتِ ملكي وحدي, ولن أسمح لكِ بالابتعاد عني.. وما فعلتهُ منذ قليل ليس سوى لأُظهر براءتكِ, وحتى أجعل الجميع يعلمون بأنكِ أصبحتِ مُلكي, وامرأتي "

 

قاومت سلفادور وابتعدت عنه, ثم صفعته بكامل قوتي على وجنته.. نظر سلفادور إليّ بذهول, بينما كنتُ أصرخ بجنون بوجهه

 

" أكرهك.. أنا أكرهُك بجنون.. من المستحيل أن أتزوجك, لأنني ما زلتُ أعشق بينيتو.. ثم لا أريد أي شفقة لعينة منك.. إن كنتَ تشعر بالذنب لأنك أفقدتني عذريتي, يمكنك بكل بساطة أن تسمح لي بالعودة إلى منزلي.. سلمني اوراقي الثبوتية وهاتفي الخلوي ودعني أذهب من قصرك ومن قريتك اللعينة "

 

فقد سلفادور هدوءه, إذ اقترب بسرعة مُخيفة مني وأمسك ذراعاي وضمني بقوة إلى صدره حتى كاد أن يُحطم عظامي..

 

نظر بغضب في عمق عيناي, نظراتهِ لي جعلتني أرتعش بعنف بين ذراعيه بسبب الخوف.. قرب فمهُ من أذني وهمس بغضب أحرقني

 

" ساكورا, أنتِ كاذبة سيئة.. لا تُحاولي الكذب عليّ لأنني أكره من يكذب عليّ.. أنتِ لا تحبين شقيقي, بل أنا متأكد من ذلك.. لقد كنتِ تتأوهين باسمي بجنون في ليلة الأمس بينما كنتُ أُمارس معكِ الجنس.. سوف توافقين على الزواج مني لأنكِ أصبحتِ ملكي بعد أن سلمتني عذريتك "

 

أخفض شفتيه ببطء نحو عنقي.. شهقت بضعف وبألم عندما امتص بشرتي بقوة ثم قبلني برقة مُخيفة مكان علامة شفتيه على عنقي.. رفع سلفادور رأسه ونظر إليّ بنظرات غاضبة أرعبتني للموت.. ثم قال بحدة

 

" سبق وكذبتي عليّ ساكورا, ولكن لن تستطيعي فعل ذلك الآن.. أنتِ لا تفهمين, لقد أصبحتِ بالفعل مُلكاً لي "

 

ثم مزج شفتيه بشفتي وقبلني بقوة وبطريقة متملكة, وكأنهُ يُعاقبني.. حاولت مقاومته لكن سلفادور ضمني إليه أكثر حتى شعرت بأنهُ سيغمى عليّ من قوة احتضانه لجسدي.. عندما توقف عن تقبيلي, نظر إليّ وقال بحدة

 

" ساكورا, أنتِ لا تعرفين قوانين عشيرتي.. أصبحتِ ملزمة على الزواج مني لأنني سلبتكِ شرفكِ في الأمس وجعلتكِ تفقدين عذريتكِ.. رأيتِ ساكورا ما فعلتِ بي وبكِ بسبب كذبكِ عليّ وعلى الجميع؟ "

 

نظرت إليه بألمٍ كبير, ثم هتفت بقهر وبعذاب

 

" توقف عن مُناداتي بذلك الاسم السخيف, اسمي هو لينيا وليس ساكورا.. ثم أنا لستُ مُلزمة بفعل أي شيء لكَ ولعائلتك.. دعني أذهب من هنا وسينتهي كل شيء "

 

رأيت بذعر عينيه تتحولان إلى اللون الأحمر.. كان سلفادور في قمة غضبهِ الآن.. شهقت بضعف ثم أغمضت عيناي عندما ابتعد سلفادور عني قليلا لكنهُ أمسك كتفاي وشرع يهزني بعنف وهو يهتف بغضب جنوني

 

" لا ساكورا, لا تحلمي بأن أسمح لكِ بالابتعاد عن هذا القصر.. أنتِ أصبحتِ مُلكي رسمياً.. وغداً سوف نتزوج.. ثم تذكري جيداً بأنكِ ما زلتِ المشتبهة الأولى في مقتل شقيقي.. أستطيع بسهولة إدانتكِ ورميكِ في السجن لمدى الحياة.. إما أن توافقي على الزواج بي في الغد, أو أحرق روحكِ وأرميكِ في السجن لمدى الحياة "

 

توقف عن هزي ولكنهُ لم يبتعد عني.. نظرت إليه بحزن وبدأت دموعي تسيل بكثرة على وجنتاي.. بلعت ريقي بقوة وهمست بألم مزق قلبي

 

" هل تُهددني سنيور؟ "

 

تسارعت أنفاس سلفادور بينما كان ينظر بغضب إلى دموعي والتي كانت تسيل بسرعة على وجنتاي الشاحبتين.. ثم قال بنبرة غاضبة

 

" نعم, ساكورا.. أنا أُهددكِ الآن.. لم تتركِ لي خيار آخر.. عليكِ أن تختاري الآن, إما الزواج أو السجن "

 

رفعت رأسي بشموخ ونظرت إليه بحدة, ودون أن أتوقف عن البكاء همست لهُ بحقد

 

" أكرهُك "

 

لدهشت الكبيرة ابتسم سلفادور برقة, ثم ابتعد عني وقال ببرود

 

" اكرهيني كما يحلو لكِ ساكورا.. يبدو بأنكِ وافقتِ على زواجنا.. استريحي الآن, في صباح الغد عليكِ أن تتجهزي للزفاف "

 

وغادر الغرفة, صافعاً الباب خلفه بعنف..

 

غادر سلفادور الغرفة وتركني واقفة في مكاني, مشاعري كانت متناقضة بين الحزن والغضب والصدمة.. كان قلبي ينبض بقوة, حاولت استيعاب ما حدث وما سيحدث.. جلست على السرير, وأخذت نفساً عميقاً, أدركت أن حياتي قد تغيرت تماماً وأن الغد سيحمل معه تحديات جديدة, وأنا يجب أن أكون قوية لمواجهتها..

 

شهقت بقوة وهمست بحزن

 

" ليتك تعرف سلفادور ما حدث معي ومع بينيتو.. لكن لا أستطيع إخبارك الحقيقة.. لا أستطيع.. "

 

مسحت دموعي بحزن وبدأت بتذكر الماضي الحزين..

 

العودة إلى الماضي**

 

لينيا**

 

كانت الشمس مشرقة في صباح يوم الخريف, والهواء كان مليئًا بنسيم بارد ينعش الروح.. كانت لينيا تسير بخطى واثقة نحو المبنى الضخم لجامعة ماربيا, مرتدية فستانًا بسيطًا أنيقًا أسود اللون يعكس شخصيتها الرزينة والأنيقة.. ابتسامة مشرقة كانت تعلو وجهها, تشع منها سعادة وتفاؤل باليوم الأول لبدء العام الدراسي الجديد كأستاذة للعلوم الاجتماعية قسم الفلسفة..

 

أثناء سيرها نحو المبنى, سمعت لينيا بعض الشبان يطلقون صفيرًا قويًا تعبيرًا عن إعجابهم بها.. لم تهتم لهم بل تابعت المشي بثبات, رافعة رأسها بتصميم.. كانت عازمة على بدء يومها الأول بتركيز وإيجابية..

 

عند دخولها إلى المبنى, التقت بصديقتها شانا, بروفيسورة التاريخ, التي كانت تعمل معها في الجامعة.. كانت شانا تنتظرها بابتسامة مشرقة وعينين تتلألآن بالمرح..

 

" لينيا! صباح الخير " هتفت شانا وهي تلوح لها بيدها..

 

" صباح النور, شانا " ردت لينيا, وسرعان ما عانقت صديقتها بشدة..

 

سألت شانا بينما بدأت كلتاهما بالسير نحو قاعة اجتماع الأساتذة

 

" كيف حالكِ اليوم؟ متحمسة لليوم الأول؟ "

 

نظرت إلى شانا وأجبتُها بسعادة بينما عيني كانت تلمعان بالحماس

 

" بالتأكيد.. لا أستطيع الانتظار للقاء الطلاب والبدء في التدريس.. أشعر وكأنني في مغامرة جديدة "

 

صعدنا الدرج معًا, ونحن نضحك بمرح  ونتبادل الحديث حول المواد الدراسية والخطط للفصل الدراسي الجديد.. كانت شانا تضفي جوًا من البهجة على أي مكان تتواجد فيه, وأنا كنتُ أُقدر وجود صديقتي بجانبي في هذا اليوم المهم..

 

عندما وصلنا إلى قاعة الاجتماع, كان هناك عدد من الأساتذة الآخرين يجلسون بالفعل حول طاولة كبيرة, يتحدثون ويضحكون.. رحبوا بي و بصديقتي شانا بحفاوة, واندمجنا جميعًا في محادثات ممتعة حول التحديات والتطلعات للفصل الدراسي الجديد..

 

جلست بجانب شانا, وأخذت نفسًا عميقًا بينما كنتُ أستعد للاستماع إلى التعليمات والتوجيهات من رئيس القسم.. كنتُ أشعر بمزيج من الحماس والتوتر, ولكن كنتُ متفائلة بما يحمله هذا اليوم لي..

 

بعد انتهاء الاجتماع, توجهت إلى مكتبي الجديد.. جلست خلف المكتب, وأخذت نفسًا عميقًا بينما كنتُ أنظر حولي.. كان المكتب بسيطًا ولكنه مليء بالكتب والأوراق, يعكس حياة أكاديمية مليئة بالتعلم والاكتشاف..

 

بدأت في تجهيز محاضرتي الأولى, شعرت بسعادة غامرة وتفاؤل بمستقبلي كبروفيسورة وأستاذة في جامعة ماربيا.. كنتُ أدرك أن هذا اليوم سيكون بداية لمغامرة جديدة ومثيرة في حياتي, وتمنيت أن أكون قادرة على إلهام طلابي ومساعدتهم على اكتشاف حبهم للفلسفة والتفكير النقدي..

 

عندما انطلق صوت الجرس يُعلن عن بدء المُحاضرات, توجهت لينيا إلى قاعة محاضرتها الأولى.. كانت القاعة كبيرة ومليئة بالطلاب الذين ينتظرون بشغف بداية المحاضرة.. وقفت أمامهم بثقة, وبدأت في تقديم نفسها وتوضيح ما ستتناوله في هذا الفصل الدراسي.. كانت كلماتها تفيض بالحماس والشغف وهي تتكلم مع طلابها

 

صباح الخير جميعاً, أنا البروفيسورة لينيا هارفين, ويسعدني أن أكون معكم هذا الفصل.. سنتناول معاً موضوعات فلسفية واجتماعية تعكس تأثير الفلسفة على حياتنا اليومية.. أتمنى أن يكون هذا الفصل مليئاً بالتفكير العميق والنقاشات المثمرة "

 

كان الطلاب يستمعون بانتباه, والبعض يدوّن ملاحظاته.. شعرت برضا تام بينما كنتُ أرى العيون اللامعة والوجوه المتحمسة أمامي.. كانت هذه اللحظة تمثل بداية جديدة لي, فرصة لأُشارك شغفي ومعرفتي مع الجيل القادم..

 

نظرت إلى الطلاب بسعادة, وقلتُ لهم بابتسامة دافئة

 

" أود أن يُعرّف كل واحد منكم عن نفسه, اسمكم, ومن أين أنتم, وما الذي جعلكم تختارون دراسة الفلسفة "

 

بدأ الطلاب بالوقوف واحداً تلو الآخر, يقدمون أنفسهم بتوتر وحماس, بينما لينيا كانت تستمع لهم باهتمام, تشجعهم بابتساماتها الرقيقة وتعليقاتها الداعمة.. الجو في القاعة كان مليئاً بالحيوية والأمل, كل طالب كان يحمل قصته وأحلامه, و لينيا كانت تتطلع لمعرفة المزيد عنهم..

 

بينما كانت لينيا تستمع لأحد الطلاب, سمعت صوت الباب يفتح ببطء.. ساد الصمت في القاعة ونظرت لينيا نحو الباب لترى شاباً في العشرين من عمره, طويل القامة ووسيم, يدخل القاعة بثقة زائدة.. كان يتصرف كما لو أن الوقت والمكان مُلكاً له, يتجاهل تماماً جميع الأنظار المتجهة نحوه.. عندما التقت عيناه بعيني لينيا, تجمد بسرعة في مكانه, ثم ابتسم بثقة, واقترب منها بخطوات ثابتة..

 

وقف أمامي ونظر إليّ بنظرات إعجاب وقحة, ثم قال بنبرة مغرورة وجذابة

 

" صباح الخير, بروفيسورة "

 

نظرت إليه بجدية, مُحاولة الحفاظ على المهنية وعلاقتي الرسمية مع طلابي.. قلتُ له بنبرة هادئة

 

" مرحباً, لقد تأخرتَ قليلاً في يومك الأول الدراسي.. أرجو أن تجد مقعداً بسرعة حتى أبدأ بالمُحاضرة "

 

لم يُبدي الشاب أي اهتمام بتعليماتي له, إذ اقترب مني أكثر, وهمس بإعجاب

 

" أنتِ جميلة جداً عن قرب "

 

تجاهلت كلماته وأشرت بإشارة واضحة إلى المقاعد, وقلتُ له

 

" يوجد مقاعد فارغة في الصف الثالث.. ثم, ما اسمك؟ "

 

ابتسم الشاب بطريقة مغرية وقال بنبرة جذابة

 

" اسمي بينيتو ثياجو "

 

تجاهلت تصرفهِ الطائش وقلتُ لهُ بصوت رصين وبجدية

 

" حسناً, بينيتو.. من فضلك اجلس بهدوء حتى أتمكن من بدء المحاضرة "

 

بدلاً من الجلوس, اقترب بينيتو أكثر وسألني بوقاحة

 

" هل لديكِ صديق أو حبيب؟ لأنني أرغب بأن أكون حبيبكِ.. أريدُكِ لي سنيوريتا "

 

شعرت بالغضب وانفعلت, أشرت بيدي نحو الباب وقلتُ لهُ بحدة

 

" أخرج من القاعة فورًا "

 

وقف بينيتو أمامي وهمس بصوت منخفض حتى لا يسمعه الطلاب

 

" أنا دائمًا أحصل على ما أريده, وأنا أريدكِ.. وسأحصل عليكِ بأي ثمن "

 

ثم غادر القاعة وسط نظراتي المندهشة.. كنتُ أقف في مكاني, لا أُصدق ما حدث للتو... شعرت بأن هذا الشاب الوقح سيجلب لي الكثير من المتاعب في هذا العام الدراسي..

 

ولكن لينيا لم تكن تعلم أن هذا اليوم سيكون بداية لعذاب كبير قادم...

 

يُتبع الماضي في بارت 27 **

 

انتهى الفصل



















العودة إلى الفصل 21 ᐸ



العودة إلى الفصل 19 ᐸ



العودة إلى الفصل 17 ᐸ




فصول ذات الصلة
رواية المتادور

عن الكاتب

heaven1only

التعليقات


إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

اتصل بنا

جميع الحقوق محفوظة

لمدونة روايات هافن © 2024 والكاتبة هافن ©